تاليراند بين السياسة والأخلاق

TT

لا يزال معيار الأخلاق أحد أهم المعايير التي تؤثر على قراءتنا للتاريخ، فهو المعيار الذي نقيس عليه كثيرا من تقييماتنا للعبة السياسية في الماضي والحاضر، فالأخلاق خصلة محمودة ومحببة لنا، بل تكاد تكون مقدسة، ولكن هل هي فعلا مطلوبة في تقييم القائمين على إدارة العلاقات بين الدول على مر التاريخ؟ والإجابة الأقرب إلى الذهن هي النفي، مع التأكيد أننا لا يجب أن نذهب إلى الحد الذي دعا مكيافيللي للدفع بوجود درجتين للأخلاقيات في السياسة؛ درجة للحكام وأخرى للمحكومين، ومن خلالها تستبيح الفئة الأولى الثانية.

وبعيدا عن الفكر المكيافيللي فإن الواقع يفرض علينا أن نضع هذا المعيار في مكانه الصحيح عبر التاريخ، ولعل أفضل دليل على هذه الأطروحة السيرة الذاتية لشارلز موريس تاليراند Tallyrand ، إحدى ألمع الشخصيات السياسية الفرنسية، ولكنها كانت أيضا إحدى أسفل الشخصيات خلقا، فالرجل كان من مواليد الطبقة الأرستقراطية ورُسم فيما بعد قسا ثم ممثلا للبابا في البرلمان الفرنسي Etats-Généraux قبيل الثورة الفرنسية مباشرة، ولكنه سرعان ما غير مواقفه ليصبح من مساندي النظام الملكي، ثم تبدل فأصبح من الثوار بعد اندلاع الثورة، فحارب الكنيسة وكان له دوره الحاسم في تأميم أراضيها لصالح الدولة الفرنسية مما أدى لقيام بابا الفاتيكان بحرمانه كنسياExcommunication فلم يأبه، فأصبح دبلوماسيا وهرب من فرنسا بعيدا عن المطاردات ليعود إليها وزيرا للخارجية في 1797، ثم بدأ في مغازلة نابليون بونابرت سياسيا وراهن عليه، فلعب دورا حاسما في ترشيحه ليصبح حاكما للبلاد.

لقد استفادت فرنسا منه بشدة في موقعه هذا، فعلى الرغم من عدم اتفاقه مع سياسة نابليون الخارجية، فإنه لعب دورا مهما في إنجاحها، خاصة صلح Amien والذي أمهل فرنسا الوقت للاستعداد للحروب التالية، ولكن سرعان ما بدأ الرجل يتحالف مع أعداء فرنسا من النمسا وروسيا احتجاجا على سياسات سيده مما جعل بونابرت ينعته بجملته الشهير بأنه «قذارة محتواة في حرير».

لم يأبه الرجل واستمر يؤثر في الأمور حتى تقدم باستقالته من منصبه، ولكن دوره لم ينته، فلعب أعظم أدواره بعد ذلك أثناء التوصل لاتفاقية باريس الأولى والتي حمى بمقتضاها بلاده من شرور المتربصين بها في المفاوضات، فأعاد بلاده لحدود عام 1792 بعد أن استسلم نابليون بونابرت، والأمثلة على ذلك قليلة للغاية في التاريخ.

حقيقة الأمر أن الرجل كان سياسيا محنكا فاستطاع أن يعمل التحالفات مع الدول الكبيرة والصغيرة على حد سواء في مؤتمر فيينا 1815، فبدلا من إهانة دولته باعتبارها دولة مهزومة وتفتيتها كما جرت الأعراف، فإن فرنسا خرجت من هذا المؤتمر جزءا من المسرح الأوروبي يحترمها الجميع وتعتنق الفكر المحافظ الذي ساد أوروبا بعد هزيمة الثورة، وصارت فرنسا دولة تنعم بالاستقرار وتلعب دورا محوريا في السياسية الأوروبية، فحققت بذلك مركزا لا يتماشى وقدراتها العسكرية.

وحتى بعد استقالته في 1815، فإن الرجل أصبح كبيرا للساسة في فرنسا إلى أن عين سفيرا لبلاده لمدة أربع سنوات في عهد حكومة لويس فيليب في 1830.

هكذا أصبح تاليراند من الآكلين على كل الموائد، وعضوا في أغلبية التيارات السياسية في فرنسا، فلقد انتمى الرجل إلى كل الحكومات الفرنسية على مدار ستة عقود، ناهيك عن انتسابه للكنيسة قبلها، وهو ما جعل جملته الشهيرة «الأنظمة تسقط أما أنا فلا أسقط أبدا» ذات مغزى خاص، وتعكس في الوقت نفسه أخلاقه التي تكاد تكون معدومة، فهو أب للعديد من الأطفال من السفاح، كما أنه لم يتورع عن مصادقة زوجة ابن أخيه، ناهيك عمن دمرهم من شخصيات خلال صعوده سلم المجد السياسي، فضلا عن افتقاره لأي نوع من المبادئ وممارسته الكذب والنفاق والرياء الخ....

نتيجة كل هذه الخصال صار الرجل رمزا تبجله العامة لقدراته السياسية وتحتقره الأغلبية لأخلاقه، إنه وجهان متناقضان لعملة واحدة، أحدهما ذهب والآخر نيكل، ولكنها العملة التي أنقذت بلادها ونجتها من ويلات الهزيمة العسكرية؛ فهل يجب أن نحكّم معيار الأخلاق كمقياس على السياسيين في خدمة أوطانهم؟

قد يقول البعض إن هذا نموذج لا يجب أن يحتذى به باعتباره استثناء، ولكن تاليراند مثال لقائمة طويلة من ذوي التناقض بين القدرات والأخلاق، فالقائمة طويلة، ولعل أبرز مثال يحضرني كان شخصية هنري كيسنجر مثلا، فهناك كتاب يدعو فيه كاتبه لضرورة محاكمة الرجل على الرغم من أنه كان من أفضل من شغل منصبي مستشار الأمن القومي ووزير الخارجية في الإدارات الأميركية، فالحكم عليه لا يجب أن يكون بأخلاقه ولكن بما حققه لبلاده من مكاسب والتي لم تتوافق بطبيعة الحال مع مصالح الكثير، وهناك أمثلة أخرى نجدها في تاريخنا الإسلامي إبان الفتنة الكبرى وبعدها، كما لا ننسى من القائمة أمثال يوليوس قيصر والإسكندر الأكبر وجنكيز خان والظاهر بيبرس الخ....

حقيقة الأمر أن المعيار الفيصل في مثل هذه الأمور لا يجب أن يكون طبيعة ودور الشخصية التاريخية تحت المجهر، فالشخصيات السياسة والعسكرية عبر التاريخ لا يجب قياس عظمتها بأخلاقها ولكن بإنجازاتها، فأغلبية العباقرة في المجالين يحصدون درجات الامتياز مع مرتبة الشرف في فن السياسة أو الحرب أو الاثنتين معا، ولكن كثيرا منهم سيرسبون في اختبار الأخلاقيات والنزاهة.

والتقدير أن فض اشتباك هذه المعضلة لا يتأتى إلا من خلال تطليق معيار حسن الخلق عن حسن إدارة السياسة، فالعلاقات بين الدول ليس معيارها الأخلاق وإنما المصالح.... وكل مبتدئ في مجال السياسية لا يدرك هذه الحقيقة مثواه الدرك الأسفل من الشعبية حتى وإن كان من ذوي الفضيلة، وعليه ستحل لعنات الشعوب التي يمثلها لما اقترفت يداه في حق بني وطنه لأنه خلط معيارا بمعيار، وتغافل عن إدراك أن مصالح الشعوب لا تقيم بأخلاقياتها.

* كاتب مصري