صندوق النقد الدولي.. أمام مفترق طرق

الدول الناشئة تطالب أوروبا بالتخلي عن احتكار رئاسة المنظمة وإدخال إصلاحات تتماشى مع التوزيع العالمي الجديد للقوى الاقتصادية

TT

لم يكن رئيس صندوق النقد الدولي دومينيك ستروس كان، قد قدم استقالته بعد، إثر القبض عليه بتهمة اعتداء جنسي على عاملة فندق في نيويورك، وبدأت الأسئلة تطرح حول هوية المدير الجديد لصندوق النقد الدولي.

بدأ الجدل حول خليفته في هذا المنصب يجذب درجة غير مسبوقة من الاهتمام العام، على نحو يدعو إلى احتدام التنافس السياسي على هذا المنصب المرغوب. وقد بدأت المنافسة بالفعل. وأوصى بعض الدبلوماسيين بضرورة ألا يتم بعد الآن إعطاء أي دولة أوروبية حق الوصاية على الاقتصاد العالمي، في الوقت الذي تتنافس فيه الدول الأوروبية على هذا المنصب.

وقد جرت العادة منذ إنشاء صندوق النقد الدولي، على أن يترأسه أوروبيون. إذ تصر الدول الأوروبية البارزة على الاحتفاظ بالتقليد الذي دأبت عليه منذ 65 عاما، وهو منح المنصب الأعلى في صندوق النقد الدولي إلى شخص من داخلها، خاصة في الوقت الراهن الذي يصارع فيه صندوق النقد الدولي ويلات الديون التي يعاني منها الكثير من أعضائه من منطقة اليورو. وقد تعاقب على إدارة صندوق النقد الدولي 10 مديرين منذ عام 1946 (أربعة من فرنسا واثنان من السويد وواحد من كل من إسبانيا وألمانيا وبلجيكا وهولندا).

وحين تم إبرم اتفاق إنشاء صندوق النقد الدولي في 1946، بدا واقعيا بالدرجة الكافية. غير أنه كان يتعين على العالم منح الاستقلال الذاتي للمستعمرات. لقد مثلت أميركا وأوروبا الغربية في ذلك الحين ثلاثة أرباع اقتصاد العالم. غير أن ما بدا طبيعيا حينها بات منطويا على مفارقة تاريخية، وغير مشروع، ومعيبا بدرجة أكبر. لقد زاد عدد الدول في العالم بمقدار ثلاثة أضعاف مع تفكك الإمبراطوريات الاستعمارية القديمة. وأصبحت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي يمثلان الآن أقل من نصف الاقتصاد العالمي. إلا أن الاتفاق على أن المدير العام لصندوق النقد الدولي يجب أن يكون من أوروبا الغربية ليس مدونا في أي موضع، أو في أي من بنود الاتفاق الخاص بالصندوق.

ومن ثم، فإن هناك دعوة ناشئة قوية مفادها أنه قد حان الوقت لأن تطوي المؤسسة ذات الاتجاه المحافظ الكائنة في واشنطن صفحة الماضي وتقوم بتعيين مدير من أجزاء العالم النامي، وأهمها دول آسيا، وقد بدأت تظهر أصوات مؤيدة لهذا الرأي. «لقد حان الوقت لإنهاء الاحتكار الأوروبي لهذا المنصب. هناك كثير من الأوروبيين على درجة من الكفاءة، لكن إذا وُجد مرشح قوي بالمثل من دول الاقتصاديات الناشئة، لماذا لا نتجه للتغيير؟»، هذا ما جاء على لسان سيلسو أموريم، وزير الخارجية البرازيلي، لوكالة أنباء «رويترز» يوم الاثنين الماضي في نيويورك.

وقد ظهر ثلاثة لاعبين آسيويين ذوي ثقل على المشهد الاقتصادي - اليابان والصين، ثم الهند - ونظرا للانخفاض المتزايد في قيمة الدولار الذي تشهده أميركا، فإنها باتت الآن دولة «عادية» كجميع الدول الأخرى.

إن الصين الآن هي ثالث أكبر مساهم في تمويل صندوق النقد الدولي، ومن المرجح أن تكون أكبر المساهمين فيه خلال عام أو عامين. وجنبا إلى جنب مع البرازيل والهند وروسيا ونحو 20 دولة أخرى، تطالب الصين الآن بقوة بعملية أكثر توسعا لاختيار مدير للصندوق - و«من دون وضع الجنسية في الاعتبار».

في الوقت نفسه، تساءل هيروشي واتانابي، نائب وزير المالية الياباني للشؤون الخارجية، حول مدى أحقية أوروبا في الاستحواذ على المنصب الأعلى بصندوق النقد الدولي، مشيرا إلى أنه يجب فتح باب التنافس لشغل هذا المنصب. وقد أدلى واتانابي، وهو عضو في المجموعة الاستشارية الإقليمية الآسيوية في صندوق النقد الدولي، بالملاحظة التالية في مقابلة إعلامية «حينما قامت الدول الأوروبية بترشيحه (ستروس) ليكون ممثلا لها، اتفقت بدرجة ما على أنها لن تؤكد ضرورة أن يكون هذا المنصب حكرا على أوروبا بعد ذلك. أعتقد أن (أوروبا) ربما لا تتحرك في الاتجاه المعاكس لتلك الروح».

وعلى الرغم من ذلك، فإنه لم يعلق عند سؤاله عما إذا كانت اليابان ستتقدم بمرشحها لشغل هذا المنصب أم لا. وفي عام 2000، رشحت اليابان إيسوكي ساكاكيبارا نائب الوزير السابق للشؤون الخارجية، والذي كان معروفا باسم ين، لشغل منصب رئيس صندوق النقد الدولي.

وكان ستروس، الذي تلوثت سمعته مؤخرا، قد أعلن في العام الماضي عن «الإصلاح الأكبر» في تاريخ صندوق النقد الدولي. وكان هذا الإصلاح متمثلا في إعادة توزيع نسبة 6% من حقوق التصويت، بتحويلها من مراكز القوى السابقة إلى القوى الناشئة. ومن المنتظر أن تصبح الصين ثالث أكبر مساهم، وأن تأتي الهند في المركز السادس. غير أن هذا لا يزال غير كاف. وتحتفظ الولايات المتحدة بحق الفيتو نافذ المفعول. كما تحتفظ الدول المتقدمة بأغلبية كاسحة من الأصوات. وما زالت أوروبا ترغب في تعيين مدير صندوق النقد الدولي.

«لكن بات التحكم في العملية الآن أمرا أكثر صعوبة بدرجة كبيرة بالنسبة للأوروبيين والأميركيين. فإذا كانت القوى الناشئة قوية وموحدة، فإنها يمكنها الاستفادة. وثمة ثلاثة أسباب مقنعة لضرورة سعيها لتغيير مجريات الأمور لصالحها. والسبب الحاسم هو أن درجة الخلل الوظيفي وعدم الشرعية زادت داخل صندوق النقد الدولي إلى حد أن القوى الناشئة ربما تنسحب منه يوما ما وتتجه لإنشاء مؤسسة بديلة أخرى، الأمر الذي يجعل دول الغرب حبيسة وحدها. وسيكون لذلك تأثير مدمر بالنسبة للغرب، الذي سيترك وحده مثقلا بكل الديون وعلى نحو يحول دون أن تتمكن دوله من الاستفادة من التدفقات النقدية من الدول الأخرى»، هكذا قال الاقتصادي الهندي كوشيك باسو متحدثا إلى المراسل.

إذن.. من سيكون المدير القادم لصندوق النقد الدولي؟

حينما تم إنشاء صندوق النقد الدولي في 1946، كانت هناك ندرة في الخبرات المصرفية الدولية خارج الولايات المتحدة وأوروبا. ولم تعد تلك هي الحال. فثمة مرشحون عدة مناسبون لشغل هذا المنصب من دول مثل البرازيل والهند والصين وكوريا، على سبيل المثال لا الحصر.

ومن بين المتنافسين على شغل هذا المنصب من آسيا مونتيك سينغ أهلواليا، نائب رئيس مجلس إدارة لجنة التخطيط، أكبر مراكز الفكر في الحكومة الهندية، والذي ربما يعتمد على الدعم من بريطانيا والهند. وقد تقلد مناصب عليا أيضا في البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومجموعة العشرين. وفي سن 67، كان عمره قد تخطى الحد الأقصى للسن المسموح به لشغل منصب مدير صندوق النقد الدولي، على الرغم من إمكانية تغيير القواعد التي تحكم شغل هذا المنصب. ووفقا للقوانين الداخلية لصندوق النقد الدولي، يجب أن يتقاعد المدير العام لصندوق النقد الدولي في سن السبعين.

وحتى قبل أن تثار قضية الخلافة في منصب مدير صندوق النقد الدولي على السطح، مع سجن ستروس كان، كان من المتوقع أن يشغل المسؤول الصيني رفيع المستوى بصندوق النقد الدولي، تشو مي، منصب نائب مدير صندوق النقد الدولي. ومن الآسيويين الآخرين الذين ورد ذكرهم كمرشحين محتملين لشغل منصب مدير صندوق النقد الدولي وزير مالية سنغافورة ثارمان شانموغاراتنام، الذي يرأس الآن لجنة وضع السياسات بصندوق النقد الدولي.

وكان اقتصادي مرموق آخر من كوريا الجنوبية، وهو ساكونغ إيل، من بين قائمة المتنافسين لشغل المنصب من آسيا. ومن الجدير بالذكر أن منصب رئيس الأمم المتحدة، أحد أعلى المناصب العالمية، يشغله كوري جنوبي. ومع بلوغه سن الـ71 عاما، سيحتاج ساكونغ لإعفائه من مهامه بصندوق النقد الدولي. بالإضافة إلى ذلك، فإنه من غير المحتمل أن تعطي الصين واليابان مرشحا من كوريا لشغل منصب رئيس صندوق النقد الدولي الأولوية على مرشحين من داخلهما.

أما بالنسبة لليابان، فربما يحصل رئيس بنك التنمية الآسيوية هاروهيكو كورودا على بعض الدعم، مع أنه قد أشار مؤخرا إلى رغبته في الحصول على مدة ثالثة كرئيس للبنك. إلى جانب ذلك، فإنه أكبر سنا من العمر الذي تسمح به الآن قواعد صندوق النقد الدولي في تعيين مدير للصندوق.

ويشير خبراء اقتصاديون إلى أنه في ظل الموقف الراهن، من المحتمل أن تلعب آسيا دورا كوسيط بين القوى. ويرجع هذا إلى أن المدير القادم لصندوق النقد الدولي سيحتاج دعم آسيا، المنطقة التي تشهد أسرع معدل نمو اقتصادي في العالم، كوسيلة لإقرار شرعية عملية الاختيار. وقال باسو «سيسهم ذلك في رفع صوت آسيا».

إن صندوق النقد الدولي يسعى منذ وقت طويل لتحسين سمعته التي تلوثت في آسيا، حيث يعتقد كثيرون أن الصندوق قد اتخذ إجراءات تعسفية إبان الأزمة المالية الآسيوية عامي 1997 و1998. ومثلما أشير بالفعل، فإن الصين لديها رغبة قوية في أن يشغل أحد مواطنيها منصب مدير صندوق النقد الدولي. لكن هل سترضى أميركا - وأوباما المرشح للانتخابات الرئاسية القادمة - بأن تفقد مكانتها؟ إن الصين تمر بفترات سعيدة، وقد ذكرت متحدثة باسم وزارة الخارجية في اجتماع دوري في بكين أن عملية اختيار مدير صندوق النقد الدولي يجب أن تعتمد على «النزاهة والشفافية والجدارة».

ولم تستفض في التوضيح أكثر من ذلك، على الرغم من أن ما ذكرته يوضح جليا أن منهجية الصين لن تتوافق مع الخطط الأوروبية. وعادة ما تواجه دول آسيوية وأسواق ناشئة أخرى مشكلة الإجماع على مرشح واحد. ومن المحتمل أن يجذب المرشحون من كوريا والهند وسنغافورة الانتباه على المستوى العالمي، لكنهم سيجدون أن من الصعب كسب التأييد بمختلف أنحاء آسيا، نظرا للمنافسات داخل المنطقة. ومن المنتظر أن تعترض الولايات المتحدة وأوروبا على أي مرشح من الصين لشغل منصب مدير صندوق النقد الدولي؛ ولا ينظر إلى تشو باعتباره على الدرجة الكافية من الخبرة لشغل هذا المنصب، ولا يتوقع أن يترقى إلى منصب أعلى من منصب نائب مدير الصندوق.

وقال كيه برابهاكار راو، مدير قسم الذكاء التجاري الهندي، لـ«الشرق الأوسط»: «سيدخل كل شخص في العالم المنافسة الآن، لكن علينا أن ندرك أن الدول الناشئة تتباين مصالحها بدرجة كبيرة. انظر إلى الصين في مقابل الهند وفي مقابل البرازيل. لذلك سيكون من الصعب جدا إيجاد شخص يلبي المصالح السياسية لمجموعة بعينها. وهذا في حد ذاته أمر جيد، فعلينا أن نحاول البحث عن شخص يمكنه فعليا أن يجمع الناس معا ويتمتع بالكفاءة الفنية المطلوبة». إن عدم القدرة على الاصطفاف خلف مرشح واحد من شأنه أن يولد مساحة سياسية لأوروبا تتيح لها الاحتفاظ بسيطرتها على منصب مدير صندوق النقد الدولي، بحسب محللين.