القيادة والسن والنوع

د. محمد عبد الستار البدري

TT

دأبت خلال السنوات الماضية تأمل تمثال وليم بيت الصغيرWilliam Pitt the Younger كلما أتت الفرصة، وقد كنت كل مرة أتذكر دوره المهم في تاريخ بريطانيا، وعلى الرغم من سنه الصغير فإنه ترك خلفه مثالا نتعلم منه، فلقد فعل هذا الشاب لبلاده ما لم يفعله أغلبية من القيادات الأكبر سنا والأكثر خبرة.

لقد كانت بداية عهدي بسيرة الرجل خلال الدراسة ثم تعمقت أكثر عندما كنت أجهز رسالة الدكتوراه نظرا لدوره المحوري في تشكيل العلاقات الأوروبية بعد الثورة الفرنسية، لا سيما أن والده «بيت الأكبر» كما يطلقون عليه كان من المؤسسين لمبادئ السياسة الخارجية البريطانية التي ربما لم تنحرف عن بعض قواعدها إلى يومنا هذا، وعلى رأسها مبدأ توازن القوى وعدم السماح للقارة الأوروبية بأن تتوحد في مواجهة إنجلترا، وهو ما خلق لإنجلترا نوعا من الاستقلالية والقومية المختلفة عن باقي القارة الأوروبية بما يصعب من مهمة الانضمام للمؤسسات الأوروبية بالكامل إلى يومنا هذا، وقد كان كتاب هنري كيسنجر «عالم يعاد ترميمه: مترنيخ كاسلراه وقضايا السلام» من أفضل التحليلات إن لم يكن أفضلها لمبادئ هذه السياسية التي وضعها الأب والابن عمليا.

لقد عمل وليم بيت الأصغر بالسياسة رغم حداثة سنه، حيث تم انتخابه كعضو في البرلمان الإنجليزي وهو دون الثانية والعشرين من العمر، ثم تولى مقاليد رئاسة الوزراء وعمره لم يتخط الرابعة والعشرين لمدة سبعة عشر عاما، وهو ما يعد أمرا غير تقليدي في مجتمع يقيم السن والخبرة، ومن ثم كان الشاب مثار سخافات القول لصغر سنه، ولكنه صمد وقاد أعتى الديمقراطيات في التاريخ، حتى وإن كانت ديمقراطية النخبة إذا ما جاز لنا تسميتها كذلك، فهي بالقطع لم تكن ديمقراطية كاملة.

ومع ذلك كتب القدر لهذا الشاب أن يقود بريطانيا وهي في أحلك ظروفها السياسية خلال قرون، ففرنسا الثورية كانت عاقدة العزم على ضرب التحالفات المختلفة التي شيدت ضدها خاصة إنجلترا، اعتقادا منها أنها توفر المال والقوة البحرية والتي كانت من العوامل الحاسمة في ضرب المشروع التوسعي الفرنسي خلال حكم بونابرت، واعتقادي أن إنجلترا لم تتعرض لخطر الاحتلال بعد حملة الأرمادا الإسبانية الشهيرة Spanish Armada في 1588 إلا خلال الحروب النابوليونية وبالأخص في عام 1804 عندما جمع نابليون جيوشه وأساطيله في شمال البلاد تمهيدا لغزو إنجلترا، ولكنه سرعان ما غير رأيه ووجه جيوشه نحو النمسا وهزمها عسكريا في معركة أوسترلتز.

هكذا كانت جهود «بيت» حاسمة في حماية بلاده ولكن القدر لم يمهله ليرى نتائج عمله وجهده، فمات القائد الشاب وترك خلفه إرثا وطنيا وسياسيا كبيرا وفقرا أكبر، حيث مات والديون تطارده إلى أن قرر البرلمان الإنجليزي سداد ديونه تقديرا لدوره الوطني، فهو الذي جهز بلاده ضد الغزو وقادها وهي في أسوأ الظروف، ولكنه لعب أيضا دورا حاسما في تاريخ البشرية حيث أسهم بشكل كبير في تمرير قانون تحريم الاتجار في العبيد من خلال صداقته القوية مع وليم ويلبرفورس، فوضعت إنجلترا بداية النمط للتخلص من هذه التجارة البغيضة، كذلك فقد ثبت أواصر الإمبراطورية الإنجليزية بشكل كبير.

أما النموذج الثاني الذي قدمته لنا إنجلترا أيضا فكان من خلال سيرة الملكة إليزابيث الأولى، فهي شابة دون الخامسة والعشرين من عمرها ولكنها كانت صلبة، وقد راهنت الأغلبية من أعدائها على أنها لن تصمد كثيرا في الحكم، ولكنهم خسروا جميعا فقد حسمت الأقدار وحنكتها السياسية الأمر فأمسكت بدفة البلاد كما لم يمسكها أحد، فنظمت البلاد وأخرجتها من حالة الفوضى التي كانت تمر بها واستقرت الدولة سياسيا واقتصاديا في عهدها ورأبت صدع ما ولدته الحرب الأهلية الإنجليزية.

وفي التقدير فإن أهم إنجازات هذه الملكة يظل أولا حماية بلادها من أكبر غزو بحري تعرضت له عبر تاريخها فيما عرف بالأرمادا، حيث قادت بلادها مدعمة بالعناية الإلهية حتى هزمت هذا الخطر الذي كان سيغير وجه التاريخ. أما ثاني أهم إنجازاتها فكان دورها في بناء الدولة البريطانية الحديثة، فتخلصت من تبعية بابا الفاتيكان رسميا من خلال ما عرف «بالتسويات الدينية»، فاللبنة الأولى لمسيرة بريطانيا المدنية في السياسة الدولية بدأت على أيدي هذه الملكة الشابة مما فتح المجال أمام بداية صعود بريطانيا كقوة عظمى، ولكن ليس قبل أن تبني لها أيضا البنية الأساسية الثقافية فيما عرف بالعصر الإليزابيثي Elizabethan Era والذي ازدهرت خلاله الفنون والثقافة والأدب والشعر أو ما يمكن أن نسميه بداية القوة الناعمة الإنجليزية، بل إن أغلب التقديرات تشير إلى أن هذه الملكة كانت بلا أدني شك مؤسسة الدولة الإنجليزية الحديثة.

تقدم الشخصيتان السابقتان نموذجين مهمين يساعداننا على كسر موروثات فكرية لا تستند لأسس موضوعية أهمها ربط الزعامة بالسن، فهل القيادة حقا مرتبطة بها؟ والإجابة القطعية هي النفي، فكم من عظماء الزعامات حكموا وهم في مقتبل العمر، محمد علي مؤسس مصر هو أحد هذه الأمثلة، كما أن نابليون بونابرت حكم وهو صغير (ومن المفارقات أن الرجلين ولدا في نفس السنة)، كذلك ملك السويد شارل العاشر والذي كانت تدرس خططه الحربية وعمره لم يتخط السابعة والعشرين. أما عنصر النوع فهو أيضا معيار تثور حوله الاختلافات، ومثال الملكة إليزابيث الأولى يكفينا خاصة إذا ما أضفنا إليه قائمة من السيدات اللاتي أثرن في التاريخ منهن حتشبسوت وكليوباترا وجان دي أرك، والملكة إيزابيلا الإسبانية ومارغريت ثاتشر رئيسة وزراء بريطانيا.

خلاصة القول أن الزعامة لا يجب ربطها بالسن أو النوع، فكم من شاب تزعم فنجح، وكم من كهل تزعم ففشل والعكس صحيح، كم من النساء تزعمن ونجحن وكم من رجال تزعموا ففشلوا والعكس صحيح أيضا. إن القيادة مؤهلات وموهبة وحسن طالع، ولا يجب أن يكون السن والنوع هما العنصران الحاسمان في حكم الإنسان على الزعامات، فمع إيماننا المطلق واعترافنا الكامل بأن الخبرة التي تكتسب بمرور السنين هي أحد أهم مؤهلات القيادة، إلا أنها ليست الأساس، فالخبرة تأتي أيضا بعد الفعل والقراءة والتجربة والاطلاع على تجارب الآخرين حتى يتعلم الزعماء منها، وتكفي هنا مقولة المستشار الألماني بسمارك الشهيرة «إن السذج يريدون التعلم من أخطائهم، أما أنا فأتعلم من أخطاء السذج».

كاتب مصري