بن صالح.. قائد الإصلاحات السياسية

اختاره الرئيس الجزائري لإجراء مشاورات مع الأحزاب والمجتمع المدني.. تفاديا لثورة شعبية

TT

يجري رئيس «مجلس الأمة» الجزائري عبد القادر بن صالح، منذ السبت الماضي، مشاورات مع الأحزاب والشخصيات وتنظيمات المجتمع المدني، طبقا لإرادة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة في جمع مقترحات وآراء، قال إنه سيعمل بها، لإعداد إصلاحات سياسية ودستورية. وتحظى شخصية بن صالح، وهو الرجل الثاني في الدولة بحكم الدستور، بإجماع الطبقة السياسية. وحتى عندما أعلنت المعارضة مقاطعة المشاورات، أبدت تحفظا على مشروع الرئيس، لكن ليس على بن صالح نفسه.

بدأ بن صالح في أخذ آراء الأحزاب الصغيرة وشخصيات سياسية تسعى لإنشاء أحزاب، لكن السلطات ترفض بدعوى أن «الساحة السياسية مشبعة بالأحزاب». وينتظر أن يستمع بن صالح لأكثر من مائتي حزب وتنظيم وجمعية ونقابة، وحتى أشخاص عاديين على سبيل الإنصات لانشغالات فئات واسعة من الجزائريين.

يعرف بن صالح بالرزانة ورجاحة الرأي، وتتوافر فيه مواصفات المسؤول الذي يضع مصلحة البلاد فوق كل اعتبار، بحسب ما يجمع عليه من يعرفه. لهذا السبب اختاره الرئيس بوتفليقة لتنسيق المشاورات، وهي مهمة أدارها باقتدار عندما ترأس «لجنة الحوار الوطني» عام 1994، والتي أفضت إلى اختيار وزير الدفاع آنذاك اليمين زروال رئيسا للدولة.

وُلد بن صالح في 24 نوفمبر (تشرين الثاني) 1941 بولاية تلمسان بالغرب الجزائري. وشارك في حرب التحرير (1954 - 1962). وجاء في سيرته الذاتية المنشورة على الموقع الإلكتروني لـ«مجلس الأمة» (الغرفة البرلمانية الثانية)، أنه «كرس معظم حياته المهنية للعمل البرلماني من أجل إرساء الحوار وتعميق الديمقراطية وتكريس دولة القانون». وهو حامل شهادة الإجازة في العلوم القانونية. ومتزوج وأب لأربعة أطفال.

عمل بن صالح في بداية مساره المهني صحافيا بجريدة «الشعب» (1967)، أكثر الصحف الجزائرية شهرة. ومن عام 1968 إلى 1970، عمل مراسلا للجريدتين الجزائريتين «المجاهد» و«الجمهورية»، ببلدان عربية. وكتب في بعض الصحف والمجلات العربية. ومن عام 1970 إلى عام 1974، عمل مديرا لـ«المركز الجزائري للإعلام والثقافة» ببيروت. ومن عام 1974 إلى 1977، تكفل بإدارة صحيفة «الشعب».

وفي سنة 1977، انتخب نائبا عن ولاية تلمسان (دائرة ندرومة)، وأعيد انتخابه في الدائرة نفسها عامي 1982 و1987. وتولى مهام رئيس لجنة الشؤون الخارجية بالبرلمان لمدة عشر سنوات، وفي سنة 1989 عين سفيرا للجزائر لدى المملكة العربية السعودية، وممثلا دائما لها لدى منظمة المؤتمر الإسلامي بجدة.

واختير مديرا للإعلام وناطقا باسم وزارة الخارجية سنة 1993، وفي نهاية العام نفسه عين ناطقا رسميا لـ«لجنة الحوار الوطني»، التي قادت جولات حوار بين القوى السياسية والمجتمع المدني في ظرف كانت البلاد تمر فيه بأصعب مرحلة في تاريخها، بسبب عنف مدمر اندلع نتيجة لتدخل الجيش لوقف زحف الإسلاميين نحو السلطة. وأشرف بن صالح على إعداد «مؤتمر الوفاق الوطني» (فبراير/شباط 1994) الذي انبثقت عنه «أرضية الوفاق الوطني»، التي قامت بموجبها هيئات المرحلة الانتقالية في مرحلة الأزمة التي واجهت البلاد.

وفي مايو (أيار) من عام 1994 أنشئ «المجلس الوطني الانتقالي»، برلمان المرحلة الانتقالية، الذي أوكلت إليه مهام التشريع خلال مرحلة دامت ثلاث سنوات. وفي الشهر نفسه، انتخب بن صالح رئيسا للمجلس. وشارك مطلع عام 1997 مع مجموعة من الأشخاص في تأسيس «التجمع الوطني الديمقراطي» (ثاني حزب من حيث التمثيل في البرلمان حاليا) واختير رئيسا له. وفي 5 يونيو (حزيران) من العام نفسه، قاد بن صالح قائمة حزبه في انتخابات برلمانية فاز فيها بأغلبية المقاعد. وتعرض حزبه خلالها لتهمة التزوير، وأشيع حينها بأن نافذين في النظام أنشأوا حزبا لتكسير الحزب العتيد «جبهة التحرير». ويقال عن «التجمع» إنه حزب «ولد بشنباته». وانتخب بن صالح رئيسا لـ«المجلس الشعبي الوطني»، الغرفة البرلمانية الأولى.

وطيلة الفترة التشريعية (5 سنوات) تكفل بن صالح بعدة مهام سياسية داخل وخارج البلاد، كان من بينها نشاطه في المجال البرلماني العربي والأفريقي والدولي. وانتخب مطلع عام 2000 رئيسا لـ«الاتحاد البرلماني العربي» لمدة عامين. وفي يوليو (تموز) 2002 انتخب بالإجماع رئيسا لـ«مجلس الأمة». وفي نهاية 2004 انتخب رئيسا لـ«الاتحاد البرلماني الأفريقي». وفي بداية 2010 أعيد انتخابه بالإجماع رئيسا لـ«مجلس الأمة». وابتعد بن صالح عن حزبه (يرأسه الوزير الأول أحمد أويحيى) في السنوات الماضية، وأصبح نادرا ما يشارك في اجتماعاته.

وبينما كان الرأي العام يترقب الإعلان عن اسم الشخصية التي وقع عليها اختيار الرئيس بوتفليقة، لاستشارة الأحزاب والمنظمات تحسبا لإصلاحات كشف منتصف الشهر عن نيته إجراءها، جاء بيان من الرئاسة ليوضح أن بن صالح هو الأفضل لهذه المهمة بدعوى أنه «يملك تجربة طويلة ومعرفة عميقة بالساحة السياسية الوطنية». وذكر البيان أن «ما سينشطه السيد عبد القادر بن صالح من مشاورات سياسية سيكون فرصة لاستقاء وجهات نظر ومقترحات الأحزاب السياسية والشخصيات الوطنية حول جملة الإصلاحات المعلن عنها وبخاصة منها المراجعة المقبلة للدستور». وتشمل الإصلاحات المرتقبة إدخال تعديلات على النصوص التشريعية المتعلقة بالنظام الانتخابي، والأحزاب السياسية وحيز المرأة في المجالس المنتخبة والحركة الجمعوية وحالات التنافي مع العهدة البرلمانية، وقانون الولاية والقانون العضوي المتعلق بالإعلام.

يعرف عن بن صالح أنه قليل التعاطي مع الصحافة، وقد فشلت الكثير من وسائل الإعلام في إقناعه بقبول إجراء مقابلة أو حتى مجرد الإدلاء بتصريح. القليل من يعرف مواقفه من القضايا الجارية، بما في ذلك الملفات التي يجري بصددها التشاور تحت قيادته. يقول عنه الصحافي العربي زواق، كاتب عمود بصحيفة «الخبر»: «بن صالح شخصية لا طعم ولا لون سياسي لها، ظهر مع بداية الاختناق السياسي في البلاد»، يقصد مطلع تسعينات القرن الماضي عندما تدخل الجيش لإلغاء نتائج الانتخابات البرلمانية التي حقق فيها الإسلاميون فوزا ساحقا.

وذكر الصديق شهاب قيادي «التجمع الوطني الديمقراطي» ونائب رئيس البرلمان، في لقاء قصير مع «الشرق الأوسط»، أن بن صالح «هو الرجل الأمثل لقيام بهذه المهمة، فمساره السياسي والدبلوماسي والمهني يؤهله لأداء هذا الدور». وعمل شهاب إلى جانب بن صالح قبل سنوات، كنائب لرئيس «مجلس الأمة» فهو يعرفه جيدا، إلى جانب كونهما قياديين في الحزب نفسه. وبخصوص عنصر الحياد غير المتوافر في بن صالح، كونه شخصية تنتمي لحزب التجمع، قال شهاب «شخصية رجل الدولة تطغى على بن صالح وهو أمر معروف عنه، وقد ظهر ذلك جليا خلال المهام التي عهدت إليه خاصة في فترة توليه رئاسة الغرفة البرلمانية الأولى، والثانية أيضا».

واختار بوتفليقة معاونين لابن صالح في مهمته: مستشار الشؤون الأمنية بالرئاسة الجنرال محمد تواتي، والمستشار الرئاسي المكلف بالخطب الرئاسية محمد علي بوغازي. الأول محسوب على النخبة الفرنكفونية العلمانية النافذة في الدولة، وبخاصة مؤسسة الجيش. والثاني كان قياديا في حزب حركة النهضة الإسلامي المعارض، ووزيرا للبحث العلمي. وقال بيان للرئاسة بعد الإعلان عن وضعهما تحت إشراف بن صالح، إن «الإصلاحات السياسية العميقة المنشودة وراء هذه الممارسة الديمقراطية المتفتحة الشفافة الشاملة، تنبثق من عزم رئيس الجمهورية على تحقيق تطلعات الشعب الجزائري، وبخاصة تطلعات الشباب في مجالات تعميق الديمقراطية وتعزيز دولة الحق والقانون وتوسيع فضاءات الحرية وتدعيم وشائج التضامن في كنف السلم والوئام الوطني».

وفي ردود الفعل على اختيار بن صالح لإدارة المشاورات، قال الحزب الإسلامي المعارض (حركة الإصلاح الوطني) إن ذلك «يعتبر خطوة عملية للشروع في الحوار الذي دعت إليه الحركة بين السلطة والأحزاب السياسية والشخصيات». وقالت الحركة إنها تتطلع في المقابل إلى «الكشف عن آليات إدارة الحوار وكيفية اتخاذ القرارات ومدى التزام السلطة بتجسيد مقترحات الأحزاب». وعبر الحزب عن استعداده لـ«المساهمة بجدية في تجسيد مسعى الإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي، مع أصحاب الإرادات الصادقة والنوايا المخلصة، لوضع الجزائر على الطريق الصحيح لبناء دولة القانون والحريات والعدالة الاجتماعية والتنمية الاقتصادية».

وسئل فاتح ربيعي أمين عام حركة النهضة عن بن صالح، فقال «نحن نتحفظ على الآلية وليس على الأشخاص، ومجلس الشورى أوصى بألا تنخرط الحركة في إصلاحات غير جادة وغير صادقة». وقال قيادي الحزب محمد حديبي لـ«الشرق الأوسط»: «لا معنى لمشاورات مع الطبقة السياسية من دون ضمانات نجاح العملية، حتى لا يحدث لها ما حدث للحوارات السابقة التي انتهت بفتح حوار جديد وإصلاح جديد». واتهم حديبي السلطات بـ«دفع الشارع لمزيد من السخط والغضب، لأن المشاورات التي أعلنت عنها ذات بعد سياسي، وبعيدة عن الوضع الاجتماعي الذي يهم المواطن بدرجة أكثر، ولا معنى لعملية إصلاح تشرف عليها حكومة فشلت على كل الأصعدة لها سوابق من الطراز الأول في عملية تزوير إرادة الشعب ومصادرة قراراته.. ولا معنى لإصلاح سياسي ما لم تكن العملية شفافة من بدايتها إلى نهايتها، ويكون الشعب اللاعب الرئيسي فيها من طرح رأيه فيها إلى المساهمة إلى الرقابة إلى الحكم على العملية».

من جهته قال حزب العمال اليساري إنه «باستثناء تحفظاته المتعلقة بالخشية من رؤية الفريق المكلف بإجراء المشاورات حول الدستور ومختلف مشاريع القوانين، يتحول إلى برلمان مواز أو مجلس تأسيسي معين، فإن حزب العمال ليست لديه أي أفكار مسبقة حول اختيار السيد عبد القادر بن صالح من أجل الإشراف على هذه المهمة». وقال أيضا إن الرئيس بوتفليقة «وضع خطوطا عريضة في ما يتعلق بإعداد مشاريع الدستور والقوانين المتعلقة بالإصلاح السياسي بمشاركة الأحزاب». ودعا الحزب الذي تقوده السيدة لويزة حنون، إلى «خطوات ملموسة تثبت نية السلطة في إصلاح حقيقي، عن رفع الحظر عن المسيرات بالعاصمة كضمان للجزائريين والجزائريات»، مشيرا إلى أن «الاستقلالية الفعلية للقضاء تعد مفتاحا لكل إصلاح حقيقي يرمي إلى تكريس دولة القانون ومكافحة الفساد».

ورحبت «حركة مجتمع السلم» المشاركة في الحكومة، وهي أكبر حزب إسلامي، باختيار بن صالح منسقا للمشاورات. واعتبرت ذلك «خطوة عملية للبدء في الإصلاحات». وقالت إنها «تتطلع إلى الكشف عن آليات إدارة الحوار وكيفية اتخاذ القرارات ومدى التزام السلطة بتجسيد مقترحات الأحزاب». ودعت الحركة البرلمان الحالي الذي عهد له بوتفليقة بتعديل قانوني الانتخابات والأحزاب، إلى «استرجاع هيبته وصلاحياته وثقة الشعب فيه والتزامه بالمصداقية، وتحمله المسؤولية التاريخية في حماية إرادة الشعب وتطلع الشباب إلى إصلاحات عميقة وشاملة وشفافة تعكس طموح الشعب في جزائر ما بعد المأساة الوطنية».

وعلى عكس المواقف السابقة أبدى أقدم أحزاب المعارضة (جبهة القوى الاشتراكية)، رفضا قاطعا للمشاركة في جولات الحوار السياسي. وقال سكرتيره الأول كريم طابو، في تجمع لمناضلي الحزب بالعاصمة مطلع الشهر الحالي «إن اختيار بن صالح لما يسمونه مشاورات تمهد لإصلاحات سياسية، دليل على عدم توافر أي إرادة في التغيير. فهذا الشخص ومن معه جاءوا في إطار مؤسسات الطوارئ والحرب الأهلية.. إن هذه الوجوه ستؤدي أدوارا في مهزلة سياسية، وهذا النظام يريدنا عن طريق بن صالح، أن نكون زبائن في مطعم»، مشيرا إلى أن اختيار بن صالح لقيادة المشاورات «دليل كاف على رفض السلطة اتخاذ إجراءات تعيد الثقة بين المواطن ودولته».