«الربيع العربي».. يصل إلى كردستان

المعارضة رفعت منذ بدايتها شعار إسقاط الحكومة.. لكن السلطات تمكنت من تهدئة الشارع

TT

تأثرا بالأحداث الجارية في المنطقة العربية، اندلعت احتجاجات شعبية في الكثير من مدن إقليم كردستان، بهدف دفع السلطة إلى إجراء إصلاحات في النظام السياسي. ورغم أن المعارضة كانت في البداية مترددة إلى حد ما في استغلال تلك الاحتجاجات لتمرير أجندتها السياسية، فإنها وجدت نفسها مرغمة على التناغم مع نبض الشارع الكردي، فأنزلت كوادرها إلى وسط الحشود الجماهيرية بساحة السراي بمدينة السليمانية، وأصبحت بذلك الجهة الأكثر فاعلية في الوجود بالشارع الكردي وطرح نفسها كطرف فاعل في المعادلة.

كان الأمر مقبولا شعبيا في البداية، حيث كانت الأنظار ترنو فعلا إلى مشاركة الحركة، خصوصا بعد أن نجحت الحركة في تكريس نفسها كزعيمة للمعارضة في كردستان، واستطاعت في ظرف فترة قياسية منافسة الحزبين التقليديين في كردستان واللذين يقودان الحركة القومية الكردية منذ أكثر من خمسة عقود، ويقودان برلمان وحكومة الإقليم منذ عشرين سنة.

فقد كانت الحركة الجماهيرية التي انطلقت من السليمانية، وهي معقل حركة التغيير، بحاجة ملحة إلى قيادة سياسية منظمة للاحتماء بها وطرح مطالبها عبرها، وهكذا بدت الحركة الاحتجاجية في بدايتها، حركة شعبية تدعو إلى الإصلاح السياسي، لكنها بعد دخول أحزاب المعارضة إليها تغيرت شعاراتها من مجرد بضعة مطالب شعبية نحو مطالب سياسية تدعو إلى إسقاط الحكومة والبرلمان تأثرا بالثورات التي حدثت في المنطقة.

وكان الزعيم الكردي مسعود بارزاني رئيس الإقليم سبق أن وجه في الكثير من المناسبات خطابات إلى شعبه يدعو فيها المحتجين إلى عدم تقليد تجربتي تونس ومصر، والاقتداء بدل ذلك بتجربة جنوب السودان، في إشارة منه إلى نجاح شعب الجنوب السوداني في انتزاع حقهم في تقرير المصير عبر الاستفتاء الشعبي، محذرا من أخطاء تقليد الثورات العربية بسبب كون الكرد لا يمتلكون دولتهم المستقلة، وأن أي توجيه خاطئ لتلك المظاهرات من شأنه أن يقضي على المكاسب التي حققها الشعب الكردي خلال الفترة الماضية من سقوط النظام السابق، وتحديدا المكاسب الدستورية وتعاظم الدور الكردي في مراكز القرار السياسي ببغداد.

بعد ستين يوما من الاحتجاجات المتواصلة، وبعد ممارسة شتى الضغوط السياسية والشعبية على السلطة، نجحت السلطات الأمنية الكردية في وقف المظاهرات من خلال إنزال قوات البيشمركة الكردية إلى ساحة السراي مركز قيادة المظاهرات الشعبية في السليمانية. وتمكنت تلك القوات من إعادة الاستقرار إليها ووقف جميع مظاهر الاحتجاج في أنحاء كردستان بإطلاق المزيد من الوعود والعهود من قبل قيادة الإقليم، خاصة من رئيسها مسعود بارزاني الذي يحترمه الشعب الكردي ويثق في وعوده وتعهداته.

وكانت النقطة الأضعف في تلك المظاهرات الاحتجاجية التي انطلقت وتركزت في محافظة السليمانية، هي عدم انضمام محافظتي أربيل ودهوك إلى تلك الاحتجاجات، حيث فضل سكانها التمسك بقيادة الإقليم ورفض دعاوى إسقاط الحكومة وحل البرلمان، مما سهل على سلطات الإقليم احتواء احتجاجات السليمانية وتحجيمها ثم فضها بالقوات الأمنية.

قبل خروج المظاهرات بمدن كردستان كان بارزاني بصدد إطلاق مشروع للإصلاح السياسي بالإقليم، خصوصا بعد أن وصلت حالة الفساد المستشري فيه إلى مدياتها القصوى وتعاظم الغضب الشعبي من السلطة، فقد بادر قبيل اندلاع المظاهرات إلى الاجتماع بقادة الأحزاب الكردستانية، طالبا منهم تهيئة مشروع إصلاحي وذلك قبل سفره في جولة إلى أوروبا، وتعهد لهؤلاء القادة بتنفيذ المشروع الذي ستتفق عليه الأحزاب الكردستانية حال رجوعه من جولته.

لكن الأحداث التي تفجرت لاحقا حالت دون إعداد ذلك المشروع، خصوصا بعد اصطفاف الحزبين الإسلاميين الرئيسيين (الاتحاد الإسلامي والجماعة الإسلامية) واللذين يمتلكان عشرة مقاعد في البرلمان إلى جانب حركة التغيير التي تمتلك 25 مقعدا، مما أغرى هذه الأحزاب الثلاثة باستثمار الاحتجاجات الشعبية بهدف انتزاع السلطة من الحزبين الرئيسيين (الاتحاد الوطني بزعامة الرئيس العراقي جلال طالباني والديمقراطي الكردستاني بزعامة رئيس الإقليم مسعود بارزاني). ومنذ تلك اللحظة تعقدت الأوضاع في كردستان، وخرجت الكثير من المشاريع التي طرحتها أطراف سياسية بالإقليم، من أهمها مشروع المعارضة المؤلف من 22 نقطة كانت أهمها النقطة المتعلقة بحل الحكومة والبرلمان، وهذا ما رفضه حزبا السلطة بإصرار. وبالتوازي مع ذلك طرح حزبا السلطة مشروعهما الإصلاحي من خلال البرلمان الكردستاني والمؤلف من 17 نقطة، تلبي في معظمها المطالب الشعبية للشارع الكردي.

وبعد مرور شهرين على بدء الاحتجاجات، التي رفعت المعارضة منذ بدايتها شعار إسقاط الحكومة وحل البرلمان، وبعد سجالات إعلامية مكثفة، وفي خضم تلك الأحداث نجحت السلطة في تهدئة الشارع الكردي وسحب البساط من تحت أقدام المعارضة السياسية، وذلك بإنزال قواتها العسكرية والأمنية إلى الشارع ومنع خروج المظاهرات مجددا. ومع هدوء الشارع عملت السلطة على استقطاب القوى السياسية والشعبية لمشروعها الإصلاحي، مما أضعف كثيرا من موقف المعارضة التي اضطرت أخيرا إلى التخلي عن شروطها المسبقة باعتماد مشروعها السياسي، بما فيها شرط إسقاط الحكومة وحل البرلمان، وهذا ما شجع رئيس الإقليم مسعود بارزاني على المضي قدما في إطلاق برنامجه والدعوة للحوار والتفاوض بين أحزاب السلطة والمعارضة لإنهاء الأزمة السياسية بكردستان. فقد وجه مسعود بارزاني دعوة جديدة إلى قوى المعارضة الكردية للجلوس إلى مائدة المفاوضات لحل مشكلات الإقليم، داعيا إياها إلى فتح صفحة جديدة للعلاقات بين الأحزاب السياسية والعمل المشترك لحل مشكلات الإقليم.

وقال بارزاني في رسالة وجهها إلى المعارضة «منذ بداية الأحداث المؤسفة التي وقعت بكردستان كنت على قناعة تامة بأن الجلوس معا على طاولة الحوار هو الطريق الأسلم والوحيد للتغلب على مشكلاتنا وحلها بالطرق السلمية، لذلك وجهت يوم 10/4/2011 رسالة إلى جميع الأطراف وطلبت منهم مراعاة المصلحة العليا للشعب الكردستاني والجلوس إلى طاولة الحوار والتفاوض للتوصل إلى اتفاقية متكاملة في إطارها الشرعي والقانوني، واليوم بعد أن أجريت الكثير من اللقاءات مع عدد من الشخصيات والفعاليات السياسية وممثلي المراكز الثقافية والاجتماعية وممثلي المكونات المختلفة أعتقد أنه من المناسب أن أتوجه مرة أخرى إلى جميع الأطراف السياسية للعودة إلى طاولة الحوار والتفاوض دون أي شروط مسبقة، وأن تتحمل هذه الأطراف مسؤولياتها التاريخية، وأن نعمل معا على فتح صفحة جديدة في علاقاتنا من أجل حل جميع المشكلات والأزمات التي تواجه الإقليم».

وكان بارزاني قد وجه خلال احتفالات الشعب الكردي بعيد نوروز رسالة إلى شعبه، دعا خلالها أحزاب المعارضة إلى التفاوض والحوار مع السلطة لحل الأزمة، وعاود نداءه مرة أخرى في السابع عشر من الشهر الحالي، والذي لاقى أخيرا قبولا من أحزاب المعارضة.

وتلقت «الشرق الأوسط» خلال الأسبوع الماضي إشارات من مصادر متعددة في المعارضة الكردية بقبولها دعوة بارزاني للحوار والتفاوض بغية التوصل إلى اتفاقية متكاملة في إطارها الشرعي والقانوني. وتجري أحزاب المعارضة والسلطة حاليا مشاورات مكثفة لبلورة مشروع إصلاحي موحد تمهيدا لمناقشته في الاجتماع المرتقب والمقرر عقده مطلع الأسبوع القادم، وسط أجواء مشجعة. ففي اتصال مع عضو المكتب السياسي للاتحاد الوطني الكردستاني سعدي أحمد بيرة أكد لـ«الشرق الأوسط» أن «الاجتماع القادم سيركز على توحيد المشاريع المطروحة للإصلاح، حيث إن هناك مشروعين سيعرضان على الاجتماع، الأول هو مشروع البرلمان الكردستاني المؤلف من 17 نقطة وهو أساس تفاوضنا مع المعارضة، والمعارضة أيضا لديها مشروعها الخاص المؤلف من 22 نقطة، وسنحاول خلال الاجتماع فرز النقاط المتفق عليها في المشروعين، والتفاوض على بقية النقاط الخلافية، وفي حال وجود نقاط لم نتفق عليها كوفود تفاوضية سنرحلها إلى اجتماع القمة».

وبسؤاله عن احتمالات عقد لقاء القمة بين القادة الثلاثة، جلال طالباني ومسعود بارزاني ونوشيروان مصطفى، قال بيرة «الرئيس طالباني قد يعطي توجيهاته للوفد المفاوض أثناء خوضه المحادثات، والرئيس بارزاني وهو صاحب المبادرة سيتابع بالتأكيد الاجتماعات وسيشرف عليها في بعض مراحلها إذا تطلب الأمر، لكن ليس بالضرورة أن يُعقد اجتماع للقمة، خصوصا إذا تمكنّا نحن في المكاتب السياسية ومن خلال الوفود المفاوضة من التوصل إلى اتفاقات معينة، لكن ذلك لا يمنع عقد اجتماع القمة إذا تطلبت الحاجة ذلك، لأننا نريد أن نتجاوز هذه الأزمة بأي ثمن ونمضي قدما في مشروعنا الإصلاحي لتلبية مطالب الجماهير». من جهته، أعرب المتحدث الرسمي باسم الجماعة الإسلامية وعضو وفدها التفاوضي محمد حكيم في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «الأجواء مشجعة، وسنعقد اجتماعا لوفد المعارضة من أجل توحيد الموقف، وقد قسمنا مشروعنا الإصلاحي إلى عدة محاور أساسية لتسهيل التفاوض عليها، حيث ستكون هناك سلة لكل قضية على حدة، سلة للقضايا السياسية، وأخرى للقضايا الاقتصادية، وكذلك للقضايا الإدارية والأمنية».

ونوه القيادي بحركة التغيير المعارضة سركو عثمان في تصريحه لـ«الشرق الأوسط»، بأن «المعارضة وضعت خارطة طريق لكل نقطة من مشروعها الإصلاحي على حدة، وستتفاوض مع أحزاب السلطة على أساس تلك النقاط، ونأمل أن تكون هذه المفاوضات جدية لكي نخرج باتفاقات تنهي الأزمة الحالية». وأشار عثمان إلى أن «الأجواء مشجعة جدا فمن خلال محادثات المعارضة، وما نتلقاه من إشارات من أحزاب السلطة، نعتقد أن المحادثات المرتقبة ستكون الفاصلة لحل الأزمة السياسية بالإقليم».

وعلمت «الشرق الأوسط» من مصادر موثوقة أن «الوفد التفاوضي للمعارضة يتألف من محمد حكيم وعبد الستار مجيد عضوي المكتب السياسي للجماعة الإسلامية، ومحمد فرج وأبو بكر كارواني من الاتحاد الإسلامي، وقادر الحاج علي من حركة التغيير، ويفترض أن تسمي الحركة عضوا آخر لوفدها التفاوضي. أما حزبا السلطة، الاتحاد الوطني والديمقراطي الكردستاني، فلم يحددا بعد أعضاء وفديهما المفاوض».

يذكر أن رئيس الإقليم مسعود بارزاني قد وضع بدوره برنامجا إصلاحيا، بدأ فعلا في تنفيذ بعض جوانبه، ينص على النقاط التالية:

1 - إعادة النظر في وضع حكومة الإقليم وإجراء التعديلات الوزارية الأساسية على تشكيلتها.

2 - إجراء تغييرات على مستوى وظائف ومناصب الحكومة واعتماد السن القانونية للتقاعد.

3 - تشكيل مجلس الخدمة وتعيين المواطنين في وظائف الحكومة على أساس الكفاءة والعدالة بعيدا عن التزكيات الحزبية.

4 - تفعيل دور الرقابة المالية وقيامها برصد جميع المخالفات المالية في الإقليم.

5 - تشكيل مفوضية خاصة بالنزاهة في الإقليم.

6 - تفعيل دور الادعاء العام.

7 - توزيع عقود المشاريع بشكل شفاف وعادل وعدم تخصيصها لأشخاص معينين على أساس النفوذ أو القرابة من المسؤولين، وتشكيل لجنة خاصة لمراقبة ومراجع جميع عقود المشاريع، وعدم السماح ببيعها من الباطن، وأن تكون عقود النفط والغاز شفافة تماما.

8 - وقف توزيع الأراضي الزراعية لأغراض المشاريع السكنية ومراجعة جميع المشاريع السابقة بهذا الشأن.

9 - إنهاء احتكار الشركات الكبرى وتقسيمها إلى أسهم تطرح للمواطنين.

10 - إشراك القطاع الخاص في تشغيل الشباب العاطل عن العمل وإعطائهم حق التقاعد والضمان الاجتماعي.

11 - معاقبة جميع الموردين للأدوية الفاسدة من المنافذ الحدودية.

12 - إعادة النظر في حجم قوات حماية المسؤولين الحكوميين والحزبين.

13 - إجراء تحقيق حول المشاريع التي تأخر تنفيذها أو التي أهملت واتخاذ الإجراءات القانونية بحق المخالفين.

14 - إعادة النظر في تخصيصات أراضي المساطحة واتخاذ الإجراءات القانونية ضد المخالفين.

15 - القضاء المبرم على الروتين الإداري بدوائر الحكومة وجعل الموظف في خدمة المواطن.

16 - على جميع الأحزاب أن تكشف عن مصادرها المالية وكذلك وسائل الإعلام كافة.

17 - لا يسمح لأي حزب كان أن يعقد علاقات مباشرة مع أي دولة خارج إطار علاقات الحكومة.

18 - قيام البرلمان بمراجعة القوانين الصادرة وإجراء التعديلات اللازمة إذا تطلبت الحاجة.

19 - تعديل القانون رقم 3 لسنة 2009 وتنظيم انتخابات مجالس محافظات الإقليم بأسرع وقت ممكن.

هذا هو البرنامج الذي وضعه رئيس الإقليم لمعالجة الوضع السياسي، وقد تشكلت الكثير من اللجان على مستوى رئاسة الإقليم لتنفيذ فقراته. ويتوقع بحسب مصادر خاصة بـ«الشرق الأوسط» أن تنطلق اجتماعات الأحزاب الخمسة (المعارضة والسلطة) بداية الأسبوع الحالي، وسيكون اللقاء هو الثاني بين تلك الأحزاب بهدف توحيد مشروعات الإصلاح المطروحة، وتتوقع تلك المصادر أن تدمج جميع تلك المشروعات مع البرنامج الذي وضعه رئيس الإقليم بهدف تلبية مطالب الجماهير والمعارضة والخروج من الأزمة الحالية بكردستان.