المغرب يتحرك ويتغير دستوريا

البلاد تبحث عن شخصية كاريزماتية تجسد «رئيس حكومة» منحت له صلاحيات واسعة

TT

يتوجه قرابة 13 مليون ناخب مغربي يوم الجمعة المقبل نحو صناديق الاقتراع للتصويت على مشروع الدستور الجديد الذي طرحه العاهل المغربي الملك محمد السادس.. دستور يتوخى منه أن يقود إلى تجربة ديمقراطية مغايرة، في بلد تتحدث وسائل إعلامه باستمرار عن ما تطلق عليه «الاستثناء المغربي».

النتيجة المتوقعة ستكون كاسحة لصالح الدستور الجديد، لكن السلطات حريصة على أن يكون الإقبال كثيفا، أكثر من حرصها على النسبة التي ستصوت لصالح الدستور، ذلك أن الأحزاب والنقابات ذات التمثيل الواسع، أعلنت جميعها أنها ستصوت لصالح الدستور، وإن تباينت درجة قبولها وحماسها لهذا الدستور. في حين أن القوى السياسية التي لم ترض بالدستور الجديد، واعتبرته غير كاف، لن تذهب للتصويت؛ إذ اتخذت موقف «المقاطعة»، أي عدم الاقتراع.

وهكذا تكاد حملة الاستفتاء تسير في اتجاه واحد، لكن الجديد هذه المرة هو السماح للمعارضين ولأول مرة في تاريخ المغرب السياسي، الحديث عبر الإذاعات والقنوات الحكومية لشرح مواقفهم وأسباب دعوتهم لمقاطعة التصويت. وفي كثير من الأحيان تحول الجدال بين المؤيدين والمعارضين إلى نقاشات ساخنة وصلت حد التلاسن، مما أضفى حيوية على هذه الحملة غير المسبوقة، وهو على الأقل أمر غير معتاد في حملات سابقة خلال عدة استفتاءات جرت حول الدستور، الذي سبق أن عدل مرات ومرات، لكنه لم يحظ قط بشبه الإجماع الذي حظي به هذه المرة.

مبادرة العاهل المغربي بطرح دستور جديد، كانت لها علاقة وثيقة بالأجواء التي تعيشها المنطقة، بعد «انتفاضات الربيع العربي» لكن لا بد من الانتباه إلى أن الحالة المغربية شكلت بالفعل استثناء، ولا يكن مقارنتها بحالات أخرى.

في الدول العربية الأخرى كان الربيع العربي ساخنا، وكان الشعار «الشعب يريد إسقاط النظام»، بيد أن هذا الشعار لم يرفع قط في المغرب، حتى من طرف بعض التيارات المتشددة، التي ربما تبطن هذه الرغبة لكنها لم تفصح عنها إطلاقا. كانت شعارات الشباب في المغرب تقول: «الشعب يريد إسقاط الفساد» أو «الشعب يريد التغيير» وفي بعض الأحيان «الشعب يريد إسقاط الحكومة والبرلمان».

كان هناك شعور هو مزيج من السخط على بعض الأوضاع السياسية، ورغبة التغيير في إطار «الطرائق المغربية»، التي تعتبر النظام الملكي اختيارا ثابتا.

لا شك أن الأزمة الاقتصادية العالمية ألقت بظلالها على المغرب، كما ساد شعور بالإحباط وسط الشباب خاصة مع ازدياد أعداد العاطلين عن العمل واستمرار مظاهرات خريجي الجامعات وصداماتهم اليومية مع الشرطة في وسط الرباط، دون أن يلوح في الأفق ما يؤشر إلى أن الأمور إلى انفراج. وكان هناك أيضا إحساس بأن الحكومة الحالية لم تحقق الكثير. وفي أفضل الظروف فإنهم يرون أنها تمثل تحالفا ذا أغلبية إصلاحية قام بإصلاحات محدودة لم تحسن أحوال الناس بالسرعة التي ينشدونها.

وكان أن قرر الشباب المغربي أن ينزل إلى الشارع للتظاهر سلميا، وكانت الانطلاقة في مظاهرة حاشدة جرت في 20 فبراير (شباط) الماضي، ومن ذلك اليوم انبثقت «حركة 20 فبراير الشبابية» التي تدعو إلى إصلاحات سياسية ودستورية فورية.

التقط الملك الإشارات، ليعلن في خطاب للشعب المغربي في 9 مارس (آذار) الماضي الذي أصبح في حد ذاته تاريخا، أنه يعتزم طرح دستور جديد يلبي طموحات الشباب الناقم.

وعلى الرغم من أن المظاهرات لم تتوقف، مع بعض التجاوزات، حيث تراوح تعامل قوات الأمن معها بالشدة تارة وبقدر من التسامح تارة أخرى، فإن طرح فكرة النقاش حول الدستور الجديد، خلقت بدورها زخما خاصا؛ إذ جرت العادة في السابق أن يبادر الملك الحسن الثاني، إلى إجراء مشاورات مغلقة مع بعض قادة الأحزاب التقليدية، ثم يطلب من لجنة خبراء، كانت في الغالب تضم فرنسيين، صياغة الدستور الذي يقترحه.

بيد أن الملك محمد السادس تبنى أسلوبا جديدا؛ إذ شكل لجنة برئاسة أستاذ القانون الدستوري عبد اللطيف المنوني، المحسوب على المعارضة (كان عضوا في الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية)، وطلب من هذه اللجنة الاستماع إلى جميع الأحزاب، وهي 33 حزبا، بما في ذلك أحزاب راديكالية لم تكن تشارك قط في مثل هذه المشاورات، وكذا الاستماع إلى من يمثلون الأجيال الشابة، بل كل من يريد أن يتحدث أمام اللجنة حول «مطالبه الدستورية» وبعد ثلاثة أشهر خلصت اللجنة إلى مسودة، جرت حولها كذلك مشاورات في عدة جولات مع الأحزاب السياسية، قادها محمد المعتصم مستشار، العاهل المغربي، وهو بدوره أستاذ في القانون الدستوري، وكانت النتيجة أن طرح الملك المشروع الجديد في 17 يونيو (حزيران) الحالي.

وعلى الرغم من أن المبادرة أدت إلى تهدئة الأمور نسبيا على مستوى الشارع، وإلى حد ما أفقدت «حركة 20 فبراير» بعضا من ذلك الوهج الذي كان لها، ساد انطباع وسط الشباب أن الفرصة ربما أصبحت مواتية لتحقيق بعض أحلامهم، لكنهم على الرغم من ذلك، توخوا الحيطة والحذر في القبول بالحلول التوفيقية. بيد أن هذا الموقف أثار على الجانب الآخر نوعا من الاستياء، وتحولت المظاهرات بعد الإعلان عن الدستور الجديد إلى صدامات واحتكاكات بين الجانبين خلال بعض المظاهرات. وفي مثل هذه الأجواء عادة ما تكون الاتهامات المتبادلة جاهزة؛ إذ اتهمت «حركة 20 فبراير» المؤيدين للدستور بأنهم يفعلون ذلك بإيعاز من النظام، في حين يقول الذين خرجوا للتظاهر تأييدا للدستور، إن الحركة لها «أجندة خفية» وإنها مدفوعة من «جهات أجنبية».

كان لافتا في هذا الصدد أن مشروع الدستور الجديد، وعزم الملك إدخال إصلاحات سياسية عميقة على بنية النظام السياسي، وجد ترحيبا من الاتحاد الأوروبي، كما وجد دعما قويا من طرف الولايات المتحدة. ومن بين الأمور التي تسترعي الانتباه، أن قناة «سي إن إن» الأميركية، بثت تقريرا في موقعها على الإنترنت يوم الأحد الذي تلى خطاب الملك بعنوان له دلالته يقول: «آلاف يتظاهرون في الدار البيضاء.. لكنهم يؤيدون الملك هذه المرة»، وأشار التقرير إلى أن بضعة آلاف تظاهروا في المغرب يرون أن الإصلاحات التي أعلن عنها الملك ليست كافية بالقدر الذي يطمحون إليه وأنهم يطالبون «بملكية برلمانية حقيقية»، في حين عبر آلاف آخرون عن مساندة ودعم للملك، وقالوا إن جميع المغاربة سعداء بخطابه، لكنهم طالبوا بضرورة إنهاء امتيازات شبكة المصالح التي تحيط به.

وفي الغرب، وعلى الرغم من المساندة الرسمية الواسعة التي حظي بها الدستور الجديد، هناك من له وجهة نظر مغايرة، وفي هذا الصدد تقول ليز ستورم، أستاذة سياسات الشرق الأوسط في جامعة أكستر البريطانية: «هذا الدستور ليس ديمقراطيا، لكنه خطوة في الاتجاه الصحيح، بيد أنه لا يذهب بعيدا». لكن ما الجديد التي جاء به الدستور المغربي الجديد؟

* المؤكد أن الملك تنازل عن بعض صلاحياته لرئيس الحكومة، الذي لم يعد «وزيرا أول» كما هو الشأن حاليا، ووضع هذه السلطات بين يديه، وبالتالي أصبحت هناك شخصية دستورية لها ثقلها على رأس الجهاز الحكومي.

* أصبح لزاما على الملك أن يختار رئيس الحكومة من الحزب الذي يحتل المرتبة الأولى في انتخابات مجلس النواب (الغرفة الأولى في البرلمان)، ولا ينص الدستور الجديد أن يكون هو الأمين العام للحزب أو رئيسه، وليس بالضرورة أن يكون الحزب الذي سيتم اختيار رئيس الحكومة منه، يملك أغلبية داخل مجلس النواب، لكن لا بد أن يكون الأول في عدد المقاعد.

* لا يمكن للملك إقالة رئيس الحكومة، وحتى عند إعلان حالة الطوارئ وتعليق العمل بالدستور، لا بد من التشاور مع رئيس الحكومة.

* يقترح رئيس الحكومة الوزراء كما يمكنه أن يقيل أي وزير، ويتولى تعيين كبار المسؤولين في الدولة، مثل السفراء والمحافظين، ومديري المؤسسات.

* يمكن لرئيس الحكومة أن يحل البرلمان، ويدعو إلى انتخابات مبكرة، ولا بد للملك أن يتشاور مع رئيس الحكومة عند حل البرلمان.

* منح الدستور الجديد سلطات تشريعية واسعة للبرلمان.

* يحتفظ الملك في الدستور الجديد بسلطاته العسكرية والدينية.

* شدد الدستور الجديد على مبدأ المساواة بين الرجل والمرأة في الحقوق والواجبات، والعمل طبقا لمبادئ حقوق الإنسان المتعارف عليها دوليا، وتجريم التعذيب، كما أباح حق التظاهر السلمي والتجمع، وصيانة الحريات الفردية، وعدم انتهاك الخصوصية الشخصية.

* حرص الدستور الجديد على استقلالية القضاء عن السلطتين التشريعية والتنفيذية، كما نص على «منع التدخل في القضايا المعروضة على القضاء، وأن لا يتلقى القاضي بشأن مهمته القضائية أي أوامر أو تعليمات ولا يخضع لأي ضغط. وثمة أمور أخرى تفصيلية جاء بها الدستور الجديد، الذي يعد أطول دستور في تاريخ المغرب، حيث يضم 180 فصلا.

ومن بين هذه الأمور موضوع «الهوية المغربية»؛ إذ لأول مرة يتطرق الدستور لمكونات الهوية المغربية، التي تحددت في ثلاثة مكونات هي «العربية الإسلامية، والأمازيغية، والصحراوية الحسانية»، وأشار الدستور في الديباجة التي اعتبرت جزءا أصيلا من الدستور، وليس مجرد تقديم، إلى أن «الهوية المغربية غنية بروافدها؛ الأفريقية والأندلسية والعبرية (اليهود) والمتوسطية».

ونص الدستور على أن المغرب يعتبر أن بناء الاتحاد المغاربي خيار استراتيجي، لكنه أغفل الإشارة إلى «هوية الاتحاد العربية»، وهذه أول مرة كذلك يتضمن دستور مغربي نصا صريحا حول قضية سياسية، بحيث أصبح تحقيق «الوحدة المغاربية» قضية دستورية، ملزمة لجميع التوجهات والأحزاب، أيا كانت آيديولوجياتها السياسية. وفي إطار التسامح الديني، ينص الفصل الثالث على أن «الإسلام دين الدولة، والدولة تضمن لكل واحد حرية ممارسة شؤونه الدينية».

يشار إلى أن الغالبية الساحقة من المغاربة هم من المسلمين، لكن توجد أقلية يهودية، تحظى بحقوقها كافة، وكثيرا ما قدم المغاربة أنفسهم مثالا للتعايش بين المسلمين واليهود في العالم العربي، على الرغم من أنهم أقلية ويبلغ عددهم بضعة آلاف، بعد أن هاجر معظمهم إلى فرنسا، وكندا والولايات المتحدة، وأغلبيتهم إلى إسرائيل. وبالنسبة لموضوع الأمازيغية التي أثارت جدلا واسعا بين المتحمسين للنص عليها في الدستور خاصة نشطاء الجمعيات الأمازيغية، والمعارضين لذكرها أصلا في الدستور، وهم المتحمسون للغة العربية التي يعتبرونها جزءا من الهوية المغربية، نص الدستور على التالي: «تظل العربية اللغة الرسمية للدولة، وتعمل الدولة على حمايتها وتطويرها وتنمية استعمالها. تعد الأمازيغية أيضا لغة رسمية للدولة باعتبارها رصيدا مشتركا لجميع المغاربة دون استثناء. وتعمل الدولة على صيانة الحسانية (لغة الصحراء)، وعلى تعلم وإتقان اللغات الأجنبية الأكثر تداولا في العالم». أي إن الدستور وضع الأمازيغية على قدم المساواة مع العربية، ثم أشار إلى موضوع اللهجة الحسانية، التي تتحدث بها القبائل الصحراوية. وفي الجانب السياسي، ينص الدستور على أن حل الأحزاب السياسية أصبح من اختصاص القضاء.

ويتيح الدستور الجديد لأول مرة للأجانب المقيمين في المغرب المشاركة في الانتخابات البلدية بمقتضي القانون أو تطبيقا لاتفاقيات دولية، أو ممارسة المعاملة بالمثل. وهي خطوة تماثل ما يحدث في بعض الدول الأوروبية التي تسمح للأجانب بالترشح والتصويت في الانتخابات البلدية، على اعتبار أن هذه الانتخابات تفرز مجالس بلدية، تقدم خدمات للسكان، وليس لها طابع سياسي أو تشريعي.

اعتبر معظم فقهاء وأساتذة القانون الدستوري في المغرب، أن الدستور يحقق طموحات المغاربة في «دستور ديمقراطي» لكن هناك أيضا من له رأي مخالف. وفي هذا الصدد، تحدثت «الشرق الأوسط» إلى اثنين من أساتذة القانون الدستوري والعلوم السياسية المغاربة حول الإيجابيات والسلبيات. وفي هذا السياق، يقول الدكتور محمد زين الدين، الأستاذ في «جامعة الحسن الثاني» في الدار البيضاء، إن الملك تنازل عن ما يقارب 60 في المائة في الدستور الجديد من سلطاته الدستورية، وهي خطوة ستعزز التجربة الديمقراطية، من وجهة نظره، وهو يرى أنه دستور متقدم جدا، إذ ما قورن مع الدساتير في دول ديمقراطية. ويرى زين الدين أن الدستور الجديد كرس «الطابع التعددي للهوية المغربية الموحدة والغنية بتنوع روافدها». ويعتقد كذلك أن الدستور الجديد سيرسخ دولة الحق والمؤسسات، والارتقاء بالقضاء إلى سلطة مستقلة، مشيرا إلى أن الدستور الجديد سيتيح الارتقاء بالقضاء إلى درجة السلطة القضائية، أي الانتقال من جهاز قضائي إلى درجة سلطة قضائية قائمة لوحدها. وبالنسبة لمسألة فصل السلطات، يرى الدكتور زين الدين أن ذلك يتمثل في برلمان نابع من انتخابات حرة ونزيهة يتبوأ فيها مجلس النواب مكانة الصدارة، كما أن تعيين رئيس الحكومة من الحزب السياسي الذي تصدر انتخابات مجلس النواب فيه احترام للمنهجية الديمقراطية، مما يترجم إرادة قوية في تقوية «مؤسسة رئيس الحكومة». ويشير زين الدين إلى أن الدستور الجديد سيعمل على تقوية دور الأحزاب في نطاق تعددية حقيقية. كما يحرص على «تخليق الحياة العامة، من خلال ربط ممارسة السلطة والمسؤولية الحكومية بالمراقبة والمحاسبة».

وفي المقابل، يرى الدكتور محمد مدني، أستاذ القانون الدستوري في جامعة محمد الخامس في الرباط أن الملك يبقى حاضرا في جميع المجالات خاصة في العلاقة مع الحكومة أو البرلمان، وهو محور الحياة السياسية. مشيرا إلى أن «المجلس الوزاري» الذي يرأسه الملك أصبح طبقا للدستور الجديد محور الحياة السياسية. وهذا المجلس هو الذي يحدد القضايا الاستراتيجية والتوجهات الاقتصادية والمالية للبلاد. ويلاحظ الدكتور مدني أن الدستور لا يمنح للملك حق إقالة رئيس الحكومة، لكنه يمكنه إقالة وزير أو أكثر، ويتساءل في هذه الحالة ماذا سيفعل رئيس الحكومة إذا كان بالإمكان تغيير فريقه الحكومي. وفي معرض تعليقه على ما جاء به الدستور الجديد من إمكانية الطعن في قرارات الملك أمام القضاء، يقول مدني: «صحيح أن النص الجديد تخلى عن مسألة (قداسة الملك)، لكنه جاء بمفهوم (التوقير والاحترام)، وهو ما يؤدي إلى المعنى نفسه المراد من موضوع (القداسة)»، على حد اعتقاده.

وينتقد الدكتور مدني الإشارة في عدد من الفصول إلى مسألة «صدور قوانين تنظيمية» في وقت لاحق، وعبر عن خشيته من أن يتأخر صدور هذه القوانين التنظيمية، مما يعني تعليق الكثير من النصوص.

وينتقد مدني الذين قالوا إن الدستور كله إيجابيات، وقال: «ربما قاموا بقراءة خاطئة، أو اجتهدوا، وأنا أيضا أجتهد». وهو يرى أن الدستور لا يؤسس لملكية برلمانية كما قيل، بل يكرس الملكية التنفيذية. وردا على سؤال حول إيجابيات الدستور الجديد، يقول الدكتور مدني: «الإيجابي أن الدستور كان جوابا على حراك سياسي، وكانت طريقة العمل مختلفة عن طريقة إعداد الدساتير في الماضي، حيث أشركت جميع القوى السياسية هذه المرة، وفي الماضي كان هناك إشراك لبعض الأحزاب، لكن بطريقة سرية، هذه المرة تمت الأمور علنا وبوضوح». إذا وضعنا جانبا تحفظات المتحفظين وملاحظاتهم، فإن انطباعا يسود في المغرب حاليا، وتساؤلات حقيقية تطرح، حول ما بعد الدستور، أي التطبيق، انطلاقا من مسألة إجراء انتخابات نزيهة، تكون مدخلا نحو آفاق جديدة في مغرب يتحرك نحو تجربة ديمقراطية مغايرة.

ولا شك أن الانتخابات في المغرب كانت تشوهها الاتهامات بالفساد والتلاعب في عمليات التصويت واستعمال ما يطلق عليه في المغرب: «المال الحرام» أي شراء أصوات الناخبين بأموال أو بهدايا عينية، خاصة في الأحياء الفقيرة في المدن، لكن كل المؤشرات تشيرا إلى أن البلاد حريصة على تغيير هذا الانطباع هذه المرة.

وثمة قلق من أن المغرب الذي يتطلع إلى «رئيس حكومة» قوي يستطيع التشبث بصلاحياته الدستورية، ربما يجد صعوبة في التوافق على هذه الشخصية الكاريزماتية، خاصة في ظل كثرة حزبية، بحيث يوجد حاليا 33 حزبا في البلاد، ولا يوجد حزب له شعبية طاغية، تؤهله للحكم منفردا، وبالتالي فرز قيادة قوية تقود البلاد في الفترة المقبلة. لذلك يثير المتشائمون الشكوك حول قدرة أي سياسي من الذين يوجدون على الساحة حاليا على إعطاء البلاد بداية جديدة ويحقق تطلعات المغاربة الذين يتوقون للفكاك من أسر الفقر والفساد، ويمكنهم وضع ثقتهم بصورة حاسمة في شخصه، ويعكس هذا القلق شكوكا عميقة تساور المغاربة حول ما بعد الدستور.

ولعل من بين مفارقات الساحة السياسية في المغرب، أنه في السابق كان السياسيون يضجون بالشكوى من أن الدستور لا يمنح المؤسسات سلطات واسعة وأن الانتخابات يجري تزويرها، وكانت في المغرب أيامئذ شخصيات زعامية قوية على الساحة، أما الآن والمغرب يفصله أسبوع عن «دولة مؤسسات ديمقراطية»، فإن الساحة لا توجد فيها شخصية زعامية كاسحة وجذابة، يمكن أن تجسد طموحات ملك شاب وشباب قلق، يريد أن ينقل بلاده وبسرعة إلى مصاف الدول الديمقراطية، ويقضي على ثالوث الفقر والجهل والمرض.