إعلام جديد.. أوهام متجددة

الأمية تصيب 75 مليون عربي تتراوح أعمارهم بين 15 و45 عاما

TT

يبدو أن موجة مؤتمرات «الإعلام الجديد» على امتداد العالم العربي آخذة في التزايد في صيغته «التمجيدية» وليس النقدية المتخصصة إعلاميا.

والحال أن هذه الصيغة «التبجيلية» لدور الإعلام الجديد يبدو أنها تستهوي الكثيرين، رغم أنها في جوهرها تتجاهل تلاشي هذه «الأسطورة» أمام محكات مفصلية في الواقع العربي الراهن.

حسنا، لنبدأ بهذه الطريقة في محاولة استقراء هذا الواقع، فبحسب إحصائية منظمة «اليونيسكو» في عام 2009، فقد وصل عدد سكان العالم العربي في عام 2009 إلى نحو 335 مليون نسمة، لكن من بين هذه الملايين يوجد 100 مليون من الأميين والأميات. هذه النسبة تدل، بحسب التقرير، على «وجود عائق أمام نهوض الوطن العربي وتحرره من التخلف والفقر والمرض».

وتشير الدراسة إلى أن نسبة الأمية في الوطن العربي هي نحو 30 في المائة، ترتفع بين النساء لتصل إلى نحو 50 في المائة. وتلفت هذه النسب إلى أن أعلى نسبة للأمية موجودة في عدة بلدان، على رأسها العراق بنسبة 61 في المائة، وفي السودان بنسبة 50 في المائة، وفي مصر بنسبة 42 في المائة، وفي اليمن بنسبة 39 في المائة، وفي المغرب بنسبة 38 في المائة.

البيانات الإحصائية حول واقع الأمية في الدول العربية تبين أن عدد الأميين لدى الفئات العمرية التي تزيد على 15 عاما بلغ قرابة 99.5 مليون نسمة، بينما وصل عدد الأميين العرب الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و45 عاما 75 مليونا. وتقول التقارير التنموية إن ارتفاع نسبة الأمية في العالم العربي تشكل «فجوة عميقة تؤثر على تطور المجتمع العربي.. كما تترتب عليها نتائج سياسية واجتماعية واقتصادية بالغة الخطورة».

لعل الدراسة السابقة تكون تمهيدا جيدا لفهم النسب الموجودة في بحث آخر أجراه المعهد الجمهوري الدولي (أميركي)، استطلاعا للرأي حول الأوضاع الداخلية المصرية، بتمويل من الوكالة الأميركية للتنمية الدولية، شمل المصريين فوق 18 عاما، في الفترة من 13 - 27 أبريل (نيسان) الماضي.

وقبل استعراض أهم الأرقام في هذا الجهد البحثي يجب الإشارة إلى أننا سنعرج في هذا الاستقراء على دول مختلفة مثل اليمن وسوريا والسعودية، ولكن تركيزنا في البداية على مصر يأتي من كونها قدمت على أنها «أيقونة» التغيير الرقمي في العالم العربي والنموذج الذي لا بد أن يحتذى.

وبالعودة للبحث موضوع الحديث تجد الإشارة إلى أن العينة التي تم استطلاع رأيها مكونة من 1200 شخص، 50 في المائة منهم من الذكور ومثلهم من الإناث، وتنوع التقسيم الجغرافي لهم بنسبة 43 في المائة من الحضر و57 في المائة من الريف (18 في المائة القاهرة الكبرى، و6 في المائة الإسكندرية، والدلتا 42 في المائة، والصعيد 34 في المائة)، وتراوحت أعمار الذين شملهم الاستطلاع بين 77 في المائة دون الخامسة والأربعين، و23 في المائة أكثر من 45 عاما.

واللافت أنه على الرغم من أن الإنترنت يقدم في مناسبات متعددة على أنه المحرك الرئيسي لأحداث الثورة المصرية، تكشف الدراسة البحثية أن 71 في المائة من الذين شملهم الاستطلاع قالوا إنهم لا يستخدمونه، مقابل 29 في المائة يتواصلون عبر الإنترنت، بل إن 76 في المائة منهم لا يمتلكون حسابات على موقع «فيس بوك» الذي انطلقت منه الدعوة للثورة، كما يشاع.

في هذا السياق يبدو مفهوما للمتابع لهذا الحراك فشل «الشبان الرقميين» في فرض أجندتهم الرافضة لإقرار التعديلات الدستورية التي حدث عليها الاستفتاء المصري. فعلى الرغم من نشاطهم على موقعي «تويتر» و«فيس بوك» فإن النتائج جاءت مخيبة لآمالهم بشكل كبير، وهذه ما تفسره جزئيا الدراسات آنفة الذكر في هذا الاستقراء.

وهذا ما دفع مهتمين مصريين إلى كتابة طرح نقدي في هذا الاتجاه، فكتب الباحث هاني نسيرة مقالة في جريدة «الحياة» اللندنية يشير إلى الجوانب السلبية من الظاهرة «الفيس بوكية» كما سماها، ونبّه إلى «أنها أداة إعلانية وتعبوية أكثر منها مشروع ثورة أو نهضة شاملة، وأنها لا تخلو من توجيه، فإن كان اللامنتمي يمكنه أن يصنع صفحته على هذه المواقع، فإن المنتمين والقوى السياسية يمكنهم ذلك وبسهولة، بل يمكننا القول إنها غدت بشكل كبير أكثر توجيها، حيث تحمل صفحة معينة دعوة معينة لحل حزب، ورفض تعيين شخص أمينا لجامعة الدول العربية، وصفحات لجماعات دينية وقوى سياسية ومرشحين محتملين»، فضلا عن «أنها لا يمكن أن تحتكر مساحات التعبير الحر في ظل اعتمادها من وسائل الإعلام الأخرى الموصوفة خطأ بالتقليدية، فقد غدت لكل قناة وصحيفة مهمة صفحتها ومنبرها عبر المواقع الاتصالية».

وإن كان نسيرة في بقية المقالة لا ينفي عنها دورا في هذا الحراك، ولكنه يركز على تحجيمها في إطارها الطبيعي مقارنة ببقية المؤثرات الأكثر هزا للمشهد العام.

وهذا الجانب تحديدا يتقاطع معه إبراهيم المثنى، وهو أحد أبرز المستخدمين اليمنيين في شقه السياسي، بل ويضيف المثنى: «في الثورة اليمنية لا أرى أن الإعلام الجديد يمكن أن يصنف حتى من أهم خمسة أسباب لقيام هذه الانتفاضة الشعبية».

ويزيد في حديثه لـ«الشرق الأوسط»: «الإعلام الجديد حُمّل في الثقافة العربية السائدة اليوم أكثر مما يحتمل، هناك عوامل أكثر تأثيرا منه، ومع ذلك اختزل المشهد في حراك الإعلام الجديد، ففي اليمن تحديدا لم يكن له أي تأثير جوهري».

ويضيف المثنى: «نسبة ولوج اليمنيين لشبكة الإنترنت لا تتجاوز الخمسة في المائة، لذلك أنا لا أميل إلى تبسيط وتسطيح هذا الحراك واختزال جزئه الأكبر لصالح الإعلام الجديد، بل أخشى أن يكون مشوشا لقدرتنا في العالم العربي ككل على قراءة الواقع بشكل صحيح».

أنهى المثنى كلامه دون أن ينسى الإشارة إلى أنه على الرغم من ذلك «فالإعلام الجديد يمكن أن يلعب دورا أبرز في المستقبل إذا تحلى بالواقعية التي سيفرضها عليه الواقع الجديد».

سوريا، قصة أخرى لمستخدمي الإعلام الجديد، فالراصد للناشطين سياسيا على موقعي «تويتر» و«فيس بوك» على امتداد الوطن العربي يجد منهم خمولا واضحا تجاه التقتيل المنظم الذي يواجه الشعب السوري، فضلا عن حملات الاعتقال التي لم تعد تتسع لها السجون السورية وتم استبدال الملاعب بها. وهو على عكس ما حدث مع الثورة المصرية بالطبع. عل هذا الجانب تحديدا يوحي «ربما» بأزمة قيمية لدى مستخدمي المواقع الاجتماعية، تقاطعت مع هوى سياسي معين، ولكن ليس هذا الاستقراء محل نقده.

ولكن القصة الدراماتيكية التي جاءت للنظام السوري كطوق نجاة طال انتظاره، هي قصة «ماك ماستر»، الطالب الأميركي الذي ادعى أنه فتاة سوريا تدعى «أمينة» تكتب تدوينة يومية عن الواقع السوري من الداخل، فبدلا من أن يكون «الإعلام الجديد» عونا حقيقا كما يحب له مريدوه، نجد افتقاره إلى أي من عوامل الضبط المحترف التي تعتمدها وسائل الإعلام الحقيقة فتقلل من حجم الأخطاء والتلاعب المعلوماتي بالمستقبلين.

والقصة لمن لا يعرفها هي كالتالي: فجأة ظهرت مدونة سورية تناولت وسائل الإعلام البريطاني والأميركي وما تسرده من وصف يومي لما يجري من أحداث داخل سوريا. وكانت قد قدمت نفسها لجمهورها من خلال مدونتها على أنها «فتاة سحاقية» تكتب تحت اسم أمينة عبد الله العمري (35 عاما)، منذ فبراير (شباط) الماضي، وأصبح عندها الكثير من المتابعين لما تكتبه، لكن بعد فترة كتبت «ابنة عمها» على الإنترنت تقول إن أمينة اختفت بعد أن تعرف على هويتها الحقيقية مجموعة من رجال المخابرات السورية الذين قاموا باختطافها. اختفاؤها أثار ضجة عالمية وحملة لإطلاق سراحها. الطالب الأميركي ماك ماستر بعد كشف أمره اعترف بأنه لا توجد هناك فتاة سورية بهذا الاسم، واعتذر من دون تردد أو تحفظ في مقابلة مع «بي بي سي» على ما قام به، وعلى ما سببه من خطورة للنشطاء السوريين الذين تعرضت حياتهم للخطر بسبب ما قام به. وقال إن ما كتبه يعكس حقيقة حياة الناس داخل سوريا.

وقال ماك ماستر على المدونة التي سماها «خدمة»: «لقد خيبت ظن الكثير من الناس، ولعبت بمشاعر وعواطف الكثيرين، كما أنني صرفت نظر الناس عن قضية مهمة جدا وهي ما يواجهونه حقيقة».

ربما هذه القصة نموذج حقيقي لما يمكن أن يقوم به الإعلام الجديد بدور سلبي في التضليل الإعلامي، وقبل أن يقول آخرون إن الإعلام الحقيقي يمكن أن يمارس نفس الدور، يجب أن نشير هنا تحديدا إلى أن الإعلام الحقيقي يمكن أن يحاكم بمعايير مهنية محترفة صارمة، تسهل على المتابع تقييم هذه الوسيلة، فضلا عن إمكانية الملاحقة القضائية في القضايا الإعلامية.

تعليقا على هذه القصة، كتب إيفيغيني موروزوف، مؤلف كتاب «وهم الإنترنت.. والجانب المظلم لحرية الإنترنت»، في صحيفة «فايننشيال تايمز» قائلا: «قد يتسامح المرء مع سذاجة مستخدمي (فيس بوك) النشطين، وعلى أي حال ربما دافع كثيرون منهم بينما كانوا يتحدثون مع الزملاء في المدرسة الثانوية أو يحلون ألغاز السودوكو. ولكن حقيقة أن فضحية أمينة غيت (على غرار فضحية «ووترغيت») حدثت أيضا داخل بعض أرفع المؤسسات الإعلامية في العالم، تكشف مشكلات أعمق بشأن طريقة تفكيرنا وحديثنا عن الإنترنت».

ويضيف شارحا: «ساعد توم ماك ماستر، ربما من دون قصد، على إظهار مقدار الضحالة والتحيز الآيديولوجي الذي يصاحب الكثير من التقارير حول قضايا مثل النشاط على شبكة الإنترنت وحرية الإنترنت. وفي الحقيقة فإن (أمينة غيت) يجب أن تصنف ضمن نفس القالب القصصي المبتكر كما الحال مع (ثورة تويتر) داخل إيران عام 2009، التي نظمت بدرجة كبيرة بعيدة عن شبكة الإنترنت، على الرغم من جميع الآراء. إن الضجيج حول مثل هذه القصص حاليا جزء من نمط متوقع تشعر فيه وسائل الإعلام - والجمهور - بقدر كبير من الإثارة بشأن قدرة الإنترنت على تغيير العالم. غير أن هذه المثالية المرتبطة بالإنترنت - التي يغيب عنها التدقيق - يمكن في الأغلب أن تقوي من ديكتاتوريين، وتساعدهم على نزع الثقة عن نشطاء حقيقيين على الأرض من خلال تصويرهم كشخصيات زائفة أو عملاء يحصلون على تمويل من الغرب».

ويختم موروزوف مقاله بقوله: «الطريقة لتجنب حدوث (أمينة غيت) أخرى ليست عن طريق الحد من خيارات الخصوصية لنشطاء شرعيين، ولكنها تعني حث ذوي النيات الطيبة ليتخلوا عن افتراضات مثالية تتعلق بالإنترنت والبدء في التفكير بطريقة نقدية أكثر في الدور الذي يمكن أن يلعبه الإنترنت في ترويج الديمقراطية بمختلف أنحاء العالم».

بالطبع نحن لا نستطيع في هذا الاستقراء، الإلمام بأمثلة من جميع أنحاء العالم العربي، ولكن سنختم بقصة صغيرة لخبر يخص موضوع قيادة المرأة للسيارة في السعودية، حيث نشرت إحدى الصحف العربية أن سعوديات قمن بكتابة خطاب لهيلاري كلينتون وزيرة الخارجية الأميركية، وحمل توقيعات أكثر من عشرة آلاف شخص بعد تحميله على أحد مواقع الإنترنت الأميركية.

والحال أن داخل السعودية نفسها يمكن جمع أضعاف مضاعفة من هذا الرقم تؤيد قيادة المرأة للسيارة، وليس هذا حق السعوديات في القيادة موضع المراجعة، بل تجاهل الصحيفة التي أوردت الخبر أن التفاعل على الموقع الإنترنتي جاء جله من الأميركيين زوار الموقع، وليس من عشرة آلاف سعودية يستنجدن بهيلاري كلينتون، كما أوحت صيغة الخبر.

الأكيد أن الإعلام الجديد جزء من المشهد العام في العالم العربي، ولكن إذا كان يروق للكثيرين تصويره بأنه مرآة للمجتمع، فربما هو أشبه بمرآة السيارات الجانبية التي يكتب عليها «الأجسام الظاهرة بالمرآة تبدو أصغر وأبعد مما هي عليه في الواقع».

* صحافي سعودي من باريس.