الشعوب البؤرية في التاريخ

د. محمد عبد الستار البدري*

TT

تقول الحكمة إن الجغرافيا هو العنصر الوحيد الثابت في التاريخ، وبالتالي لم يكن من المستغرب أن يشهد مطلع القرن العشرين حالة من التحرك الفكري تجاه الجغرافيا في ما عرف بنظريات الجغرافيا السياسية أو Geopolitics، وهو علم تأثير المكان على حركتي السياسة والتاريخ، وفي هذا الإطار تبرز نظرية «الأرض المركزية»Heartland Theory لعالم الجغرافيا السياسية البريطاني هالفورد ماكيندر في مطلع القرن الماضي الذي رأى في منطقة وسط آسيا ما سماه «بؤرة الثقل الجغرافي للتاريخ» Geographic Pivot of History، وكان تقديره أن من سيسيطر عليها سيسيطر على العالم، وعلى الرغم من أن التاريخ أثبت بدائية نظريته وآثارها المحدودة، فإن النظرية ابتكرت مفهوم «مركز الثقل» كوحدة قياس للدور التاريخي.

لقد غلب على نظريته بعد المكان، ولو عاش ماكيندر حتى يومنا هذا فغالبا ما كان سيتجه نحو تنقيح نظريته لتشمل مفهوم «البؤر الشعبية للتاريخ»، أي المناطق التي كانت بشعوبها، وليس بجغرافيتها فقط، تمثل مراكز الثقل السياسي عبر التاريخ؛ فدولة مثل بنما وضعها الجيوستراتيجي فريد لا تنافسها فيه إلا بعض الدول القليلة، ولكنها لم تكن أبدا مركزا لصناعة التاريخ، فالمقصود هنا هي الشعوب التي اقترن وجودها بمناطق جغرافية محددة عبر التاريخ فأصبح دورها محوريا بتزاوج العنصر البشري مع عنصر المكان.

إن الأمثلة على هذه الشعوب عديدة، منها على سبيل المثال لا الحصر، شعوب مثل الشعب الصيني والياباني والتركي والروسي والألماني والمصري والإيراني والبريطاني والهندي والفرنسي، وأخيرا الأميركي. ولقد تميزت هذه الشعوب بقواسم مشتركة عديدة خلال لعبها لهذا الدور، منها على سبيل المثال:

أولا: أن كل هذه الشعوب أثرت بشكل مباشر أكثر من غيرها في صناعة السياسية الإقليمية لمنطقتها، وفي مناسبات عديدة أثرت على السياسة الدولية وشكلتها، فكانت لها الغلبة على منافسيها أكثر من غيرها عبر التاريخ، مما جعل دورها متميزا مقارنة بغيرها من الشعوب، فكل شعب ممن سبق ذكرهم ساهم بشكل متكرر في صناعة أنماط التغيير التاريخي، بل إن هذه الشعوب كانت المحرك الرئيسي للأحداث في منطقتها أكثر من غيرها.

ثانيا: أن قوة هذه الشعوب كانت مرتبطة بمساحة جغرافية محددة بما في ذلك دوائر نفوذها، فكانت تميل للتوسع على حساب غيرها من دول الجوار في أغلب الأوقات، أي إنها طبقت في وقت ما مفهوم الـ «Libenraum»أو «مساحة للحياة» لعالم الجغرافيا السياسية الألماني راتزل Ratzel في مطلع القرن الماضي، أي إن المساحة الجغرافية كانت أضيق من طاقات هذه الشعوب، فكان لها حاجة للخروج من بؤرة تمركزها في أوقات كثيرة عبر تاريخها فتتجه نحو التوسع على حساب جيرانها، وقد ارتبط دائما تعاظم قوتها بالخروج خارج دائرة النطاق الجغرافي التقليدي لها، أغلب الظن من خلال الاحتلال أو الحكم بالوكالة أو مد النفوذ.

ثالثا: أثبت التاريخ أنه لا يمكن الاستغناء عن العنصر البشري في صناعة القوة الإقليمية لهذه الدول؛ فكل هذه الدول تميزت بحجم سكاني ضخم مقارنة بغيرها، والاعتقاد الراسخ بأن الشعوب عبء على حكوماتها، ضرب من ضروب الجهل بالتاريخ، فقديما قالوا إن الشعوب مصدر للقوة العسكرية، واليوم هي مصدر للقوة البشرية، والصين خير مثال على ذلك، فلقد كانت قوة بشرية هائلة عبر العصور، فكانت دولة مؤثرة من خلال هذا العنصر وغيره خلال «أسرة المنج» على سبيل المثال، وغيرها من فترات قوتها العظيمة، واليوم تظل الصين قوة دولية عسكرية وسياسية على حد سواء، على الرغم من ضخامة تعداد سكانها، ومثال الهند ليس ببعيد عن هذا أيضا.

كان من الطبيعي أن يؤثر تطبيق مثل هذه السياسيات على طبيعة وشكل قوة الدولة التي تقطنها هذه الشعوب؛ فالدولة الفرنسية والألمانية والروسية، على سبيل المثال، كانت تميل دائما لأن تصبح قوى قارية - برية، فتركز جيوشها ونفوذها على وسط القارة الأوروبية كأولوية أولى على حساب ما هو خارج القارة الأوروبية، والدولة المصرية عبر التاريخ كانت تميل دائما إلى الامتداد البري نحو الشرق والجنوب، وبعد الفتح الإسلامي أضيف لها الحجاز لما يمثله من قيمة تاريخية ودينية، أما شعوب مثل شعوب اليابان وبريطانيا، والولايات المتحدة بدرجة أقل، فكانت فلسفة قوتهم العسكرية مبنية دائما على الامتداد البحري، ولعل كتابا زبجنيو بريزنسكي «رقعة الشطرنج الكبرى» ورسالة الدكتوراه الخاصة بكيسنجر، كانت أفضل من عبر عن هذا المفهوم؛ فالأول أوضح أن العقيدة العسكرية الأميركية مبنية على قوة أسطولين يسمحان لها بالاشتباك في جبهتين مختلفتين دون التأثير على كفاءتها القتالية، في حين أكد الثاني أن بريطانيا عبر تاريخها الحديث عملت دائما على تفرقة القارة سياسيا وتطوير قدراتها البحرية ممثلة في الأسطول كأساس لقوتها الدولية.

رابعا: يلاحظ أيضا وجود قاسم مشترك يربط هذه الدول، وهو البعد الثقافي، حيث إنها جميعا وبلا استثناء بؤر لتصدير الثقافات للمناطق المجاورة، فكل هذه الشعوب أو الدول التي تمثل هذه الشعوب كانت منارات للإشعاع الثقافي والإنارة الحضارية في فترات زمنية كثيرة، فالصين خير مثال على ذلك، باعتبارها دولة ذات حضارة عريقة للغاية تمتد عبر آلاف السنين، وتشاركها في ذلك الهند، كما أن الشعوب الأوروبية مثل الفرنسية والألمانية والبريطانية والإيطالية هي التي بنت الحضارة الغربية تقريبا، وحتى دولة مثل الولايات المتحدة على الرغم من صغر عمرها المقارن، فإنها أصبحت دولة تصدير ثقافي، فلا يكاد يخلوا بيت في العالم من رموز هذه الثقافة، فكل هذه الشعوب تتميز بكونها بؤر حضارية وثقافية وتشكل في مجموعها المركز الأكبر للثقل الحضاري عبر التاريخ.

خلاصة القول أن التاريخ يشير إلى أن السياسة تُصنع بالشعوب أولا، وليس بالجغرافيا التي يجب أن تأخذ مكانها كعامل مساعد وليس العامل الأساسي؛ فما من دولة عظمي إلا وكان شعبها هو المكون الأول لصناعة القوة عبر التاريخ، ومن ثم تستحق هذه الشعوب أن تُلقب بـ«الشعوب البؤرية في صناعة التاريخ».

* كاتب مصري