صائدو الفكر والمفكرين

د. محمد عبد الستار البدري

TT

قال الزعيم الهندي غاندي «إنك تستطيع أن تقيدني بسلاسل وتعذبني وتدمر هذا الجسد، ولكنك لن تستطيع أبدا أن تسجن عقلي»، فالعقل هو مصدر الفكرة التي هي أساس أي تقدم بشري، فحركات التقدم لا بد أن تسبقها الأرضية الفكرية اللازمة لنجاحها، فالفكر الرأسمالي له إرهاصاته وأرضيته الفكرية التي بشرت به، منها كتابات «الفيزيوقراتس» الفرنسيين وآدم سميث وغيرهم، تماما كما سبق الليبرالية السياسية فكر عظماء المفكرين من أمثال جون لوك وإيمانويل كانت الخ..، وبالتالي فإن الراغبين في وقف عملية التقدم إما لأسباب تتعلق بفكر متشدد أو الخوف من التقدم كان لزاما عليهم الحيطة من الفكرة ومصدرها، لذا ابتكروا وسائل عديدة لضمان الحصار الفكري بحجج مختلفة أغلبها لحماية ما هو قائم من أيديولوجيات أو معتقدات أو أفكار.

لقد كانت أكثر الوسائل شيوعا للمؤسسات الشمولية عبر التاريخ - وأعتقد أنها ستظل - هي السعي لوأد الفكرة من خلال محاصرة المفكرين، فهي الوسيلة التي يُعتقد أنها ستضمن استمرارية الوضع القائم أو تحجم مقومات التغيير، والأمثلة التاريخية لهذا النمط العقيم متعددة نذكر منها على سبيل المثال حرق الهراطقة في العصور المظلمة والوسطى في أوروبا، وبعض حركات التطرف الإسلامي التي استباحت دم من لم يتبع مذاهبها، كما أن التاريخ مليء بالشخصيات التي وقفت ضد حركة التاريخ من أمثال ستالين وهتلر والحاكم بأمر الله الخ... فسعت جميعها لفرض نمط فكري محدد ومحاربة ما دونه.

في التقدير أن من أكبر وأخطر الأمثلة على هذا السلوك العاجز كانت محاكم التفتيش Inquisition The التابعة للكنيسة الكاثوليكية التي استمرت لمدة قرون طويلة، فكان الغرض منها القضاء على أي حركة أو فكر من شأنهما التأثير على تعاليم الكنيسة وسلطاتها، وقد أخذت هذه المحاكم أشكالا مختلفة عبر العصور وتطورت مؤسساتها، التي كانت تعمل لترسيخ المعتقدات الكاثوليكية لدى الشعوب وحمايتها من الأفكار الدخيلة، فكانت أوائل ظهورها خلال القرن الثالث عشر لمحاربة حركة «الكاثار Cathars» في فرنسا، التي اعتبرها بابا الفاتيكان نوعا من الردة عن المسيحية، وقد بدأت هذه المحاكم بنوع من الفكر المتسامح ولكن سرعان ما فشل في مواجهة الفكر المضاد، فلجأت للعنف بالتضامن مع الملوك والأمراء. وتورد بعض المصادر التاريخية واقعة مفادها أنه عندما ذهبت الجيوش الفرنسية ومعها كبير المفتشين الكنسيين لإحدى المدن استفسر القائم على أمر الجيش عن الخطة العسكرية، فأمره القائد بحرق المدينة، فلما علق الرجل بقوله إنه يوجد بالمدينة كاثوليك إلى جانب «الكاثاريين Cathars» رد عليه كبير المفتشين بقوله «نفذ التعليمات.. فإن الله يعرف كيف يُفرق بين المؤمن والكافر في الدار الآخرة». وهكذا استطاعت الكنيسة في روما أن تتخلص من هذه الفتنة بمساعدة الجيوش المدنية مستخدمة العنف والقوة.

وحتى بعد القضاء على هذه الحركة، فإن محاكم التفتيش استمرت تعمل على اليهود والمسلمين المتحولين للمسيحية تحت ضغوط المد السياسي القوي في إسبانيا والبرتغال، كما استمرت كمؤسسة هامة لمتابعة أي حركة فكرية قد تتناقض وتعاليم وأهداف الكنيسة، فكانت عقبة قوية أمام انتشار الفكر الحر، وامتدادا لهذه السياسة أقر «المجمع الكنسي في ترنت» مؤسسية جديدة تابعة للكنيسة الـ Index Librorum Prohibitorum أو قائمة الكتب المحرمة، والتي تضمنت كتبا منعت الكنيسة طباعتها وتداولها في سعيها للسيطرة على مؤثرات الفكر في العالم الغربي، فشملت القائمة أعمالا لمفكرين أوروبيين في عهد النهضة ثم عهد التنوير وغيرهم من الحركات التي باتت تمثل خطرا على الفكر الكنسي خاصة بعد انتشار حركة الإصلاح الديني في أوروبا وشعور الكنيسة بالخوف من اهتزاز سلطانها الديني والسياسي، ولذا اشتدت حركة العنف خاصة مع ظهور تيارات دينية مؤيدة كرد فعل لحركات الإصلاح وعلى رأسها حركة «الجيزويت» التي تضامنت في بعض الأحيان مع محاكم التفتيش لضمان سيادة المذهب الكاثوليكي.

وقد وصل الحال بهذه المؤسسات إلى سعيها لمحاصرة العلماء، ولعل من أغرب الأمثلة ما فعلته الكنيسة بعلماء من أمثال عالم الفلك العظيم «غاليليو غاليلي» فكانت تهمته ادعاءه أن الأرض تدور حول الشمس، وبالتالي فلم تكن مركز الكون واستمر كفره وفجوره بادعائه أن الأرض تلف حول نفسها! فحُوكم العالم الجليل وأدين بتهمة الاشتباه في الهرطقة لأنه خالف تعاليم الكنيسة القائلة بأن الأرض هي مركز الكون، فتم تحديد إقامته وفُرض عليه قراءة أجزاء من العهد الجديد يوميا تكفيرا عن ذنبه، فمات الرجل والهم يعتصره بينما النشوة تملأ رجال الكنيسة بالانتصار على الهرطقة والهراطقة! وقد استمرت محاكم التفتيش حتى بعدما انحسرت قوة البابا في روما، فضعفت في أوروبا مع انتشار حركات التنوير والفكر الحر، ولكنها استمرت ببعض القوة في أميركا اللاتينية الخاضعة لإسبانيا والتي ضمنت محاكم التفتيش - بدعم من ملوك إسبانيا - المحافظة على النقاء النسبي للمذهب الكاثوليكي فيها بعيدا عن نفوذ الحركات الإصلاحية والفكرية وهو ما أخر مرحلة القضاء على محاكم التفتيش.

ورغم القسوة والعنف التي اتبعتها الكنيسة الكاثوليكية للسيطرة على كل من وقف ضد فكرها وتعاليمها، فإنها فشلت تماما في القضاء على معارضيها، بل إنها فقدت تدريجيا خلال هذه العملية الكثير من أتباعها حتى اضطرت لتقديم الاعتذارات في عصرنا هذا عن الجرائم التي ارتكبت ضد المظلومين تحت حجة حماية الدين.

وهناك أيضا حركات مماثلة سجلها التاريخ حدثت في أعتى الديمقراطيات مثل الولايات المتحدة والتي شهدت خلال الأربعينات والخمسينات ما هو معروف بـ«الماكارثية»، نسبة إلى السيناتور «جوزيف ماكارثي» الذي شيد أكبر حملة تطهير من العناصر الشيوعية في البلاد في تغاضٍ كامل عن الدستور وتجاهل تام للحقوق الأساسية للمواطنين، وهو ما يعكس أن مثل هذه الحملات القسرية ليست مقصورة على دين أو دولة أو شعب، بل هي ممارسات تمثل فكرا عقيما شاءت مؤسسات عديدة تطبيقه لحماية نفسها.

ولقد أثبت التاريخ أن سياسة محاربة الفكرة بمعاقبة المفكر أو محاصرته محدودة القيمة وغالبا ما تأتي بعكس المطلوب، فلقد جربتها الكنيسة الكاثوليكية على مدار قرون ففشلت فشلا كاملا، كما أن حرق السحرة والساحرات وحبس المفكرين وتعذيبهم في النظم الشمولية لم يُجدِ على إطلاقه، فليس بالعنف تقهر الأفكار، فالمقولة المتداولة «إن الفكرة لا تُحارب إلا بالفكرة» هي في حقيقة الأمر الوسيلة الوحيدة الثابت جدواها عبر التاريخ للحفاظ على التقاليد والمؤسسية الفكرية إذا ما كانتا جديرتين بالمحافظة عليهما.

خلاصة القول أن الجمود واحد والتخلف ثابت وطريقة المعالجة العقيمة باقية، وقد دفعت الإنسانية الثمن من تطورها، فلم يدرك معيقو التقدم حكمة الكاتب الفرنسي فيكتور هوغو بأنك يمكن أن تتصدى لحملات الجيوش ولكنك لن تستطيع أن توقف فكرة آن أوانها.

* كاتب مصري