الأمويون.. دولة ذات مذاق

د. محمد عبد الستار البدري

TT

لم أحاول أن ألمس السبب الحقيقي الذي يجعلني دائما أميل لقراءة تاريخ الدولة الأموية أكثر من غيرها في التاريخ الإسلامي، لكن هذا الاهتمام الخاص بدأ بعد محاضرة حضرتها للمستشرق الشهير «فاتيكيوتس» عام 1987، والتي صدمنا فيها بتأكيده أن التاريخ الإسلامي مدين للدولة الأموية بالكثير، لأنها تمثل في تقديره الدولة السياسية التي ضمنت مركزية الدولة الإسلامية لقرون قادمة، وأذكر أيضا انزعاجي الشديد من هذه الأطروحة لأنني كنت ممن كانوا يتأثرون عند قراءة تاريخ الفتنة الكبرى وكيف أن الدهاء السياسي غلب البعد الروحي، فآلت الخلافة من النقاء الديني إلى العالم السفلي للسياسة شأنها شأن باقي سنة التاريخ والسياسة، ويشتد بي الحزن كلما قرأت رائعة الأديب المصري الشهير عبد الرحمن الشرقاوي «علي إمام المتقين» وهو يصف آخر الخلفاء الراشدين وخلقه ومهارته كرجل دولة.

لكن الموضوع أعمق من ذلك التوجه الرومانسي الذي يخالج كل من يبدأ في قراءة التاريخ الإسلامي، ومع إيماننا بأن التاريخ كالطعام، لكله مذاقه الخاص، فإن ما يميز تاريخ هذه الدولة في تقديري هو عدد من العناصر التي أجازف بصياغتها في ما يلي:

أولا: أن بداية هذه الدولة جاءت بعد فتنة كبرى بين صحابة الرسول عليه الصلاة والسلام دامت سنوات، وبالتالي فإنها تمثل انتشال التاريخ الإسلامي من آخر ذيول الوحي والروحانية إلى الواقعية التاريخية والسياسية، حيث استطاعت السياسة وحنكة أمثال عمرو بن العاص ومعاوية بن أبي سفيان وضع شرعية جديدة لنظام الحكم في الإسلام على أساس الوراثة وترتيب المصالح وتوازنها بعد أن كانت مبنية على شرعية المقام الديني والتقوى والصحابية، فالساسة تولوا بدلا من الصحابة.

ثانيا: ارتباطا بما سبق، فإن تغيير مفهوم الشرعية نتجت عنه حركات وأفكار سياسية ودينية واسعة الأهمية أثرت مباشرة في تاريخ الدول الإسلامية المتعاقبة إلى يومنا هذا، ولعل من أبرز هذه التيارات التشيع وما تزامن معه من تيارات أخرى مثل المرجئة على سبيل المثال الذين دعوا لإرجاء محاسبة الحاكم إلى الدار الآخرة حتى لا يكون ذلك سببا في الفتن، ثم اشتد تطرف الخوارج في هذه الفترة كرد فعل لعدم القدرة على التصدي للشرعية الجديدة التي يرفضونها ولانكفائهم على مفاهيم ضيقة في التفسير؛ خلاصة القول أننا نستطيع التأكيد على أن أفكارا وحركات مختلفة من التي نشهده اليوم في عالمنا العربي وحوله تمتد جذورها لهذه الفترة التاريخية التي كانت بمثابة الحضانة الحقيقة التي أسهمت في بلورة هذا الفكر.

ثالثا: إن قراءة التاريخ الأموي مليئة بالحركة التاريخية، فتاريخ هذه الدولة مليء بالفتن والثورات والحروب بشكل يجعل صفحات التاريخ مليئة بها، ففي عهد هذه الدولة اشتد عود الشيعة وفكرهم بعد مقتل الحسين بن علي على أيدي شمر بن ذي الجوشن، حتى انتصروا على الأمويين على أيدي سليمان بن صرد الخزاعي.. ثم كانت فتن وثورات الخوارج والتي أنهكت الدولة ومواردها ثم الفتوحات المختلفة، إلخ..

رابعا: وجود تباين في شخصيات وقدرات ملوك بني أمية بطبيعة الحال، فهذه الدولة هي التي أنجبت داهية العرب معاوية بن أبي سفيان الذي يعد بكل المقاييس أحد أبرع الساسة في التاريخ الإسلامي بل والعربي، وإن كانت هناك تحفظات شديدة على سلوكه ونواياه، وقد تدلت عبقريته في مقولته الشهيرة «لا أضع سيفي حيث يكفيني سوطي، ولا أضع سوطي حيث يكفيني لساني، والله لو كانت بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت، إن أرخوها شددتها وإن شدوها أرخيتها». كما أنجبت هذه الدولة خامس الخلفاء الراشدين عمر بن عبد العزيز، والذي مثل العودة إلى روح الصحابة وبدأ يغير في مفاهيم الشرعية، مما دفع الأمويين للتخلص منه في أسرع وقت، فلم يدم عدله أكثر من ثلاث سنوات، وفي تناقض واضح أنجبت هذه الدولة أمثال الحجاج بن يوسف الثقفي والمهلب بن أبي الصفرة، اللذين كانا من رموز القهر والعنف والخسة، وكل ما يخالف الضمير الإنساني رغم دورهما السياسي البارز والمهم.

وحتى عند احتضار هذه الدولة ترك لنا أحد رجالها وهو نصر بن صيار والي آخر خلفاء أمية على خراسان أبياتا خالدة من الشعر السياسي، وهو يحذر من علو شأن الدعوة العباسية في ولايته بشعره الفصيح:

«أرى بين الرماد وميض نار يوشك أن يكون لها ضرام فإن لم يطفها عقلاء قوم يكون وقودها جثث وهام فإن النار بالعودين تُذكى وأن الحرب أولها كلام أقول من التعجب ليت شعري أأيقاظ أمية أم نيام؟» وصدق حس الرجل وسقطت الدولة الأموية بعد أن انهارت جبهتها الشرقية في خراسان على أيدي أبي مسلم الخراساني، والجبهة الغربية على أيدي المصريين في معركة «الزاب»، وقتل آخر الخلفاء الأمويين في مصر؛ وحتى في احتضار هذه الدولة عبرة لتجربة مميزة في التاريخ الإسلامي، فهي الدولة التي يمكن أن نقول إنها تهاوت من المشرق والمغرب ومن الداخل في آن واحد، فقد فقدت هذه الدولة الشرعية التي قامت عليها لصالح شرعية مكبوتة تربو لها نفوس المسلمين، مبنية على حب بيت الرسول، وهو ما استغله العباسيون للترويج لبزوغ دولتهم.

لقد مر أكثر من ثلاثة عشر قرنا من الزمان على سقوط هذه الدولة، لكنها لا تزال تؤثر فينا، ليس فقط لأنها غيرت مجرى التاريخ الإسلامي تماما، أو لأنها تركت لنا العبر والشعر والسير المتنوعة، لكنها انتهجت سياسة تثبيت العنصر العربي وتعريب مؤسسات الدولة بعد الفتوحات وسيطرة اللغة العربية على الدولة، فصدت عن نفسها التغلغل الأجنبي في الشؤون الداخلية. والتقدير أن هذه السياسة الثابتة للأمويين جعلت من الشام مقرا راسخا لمفهوم العروبة حتى بعد زوال ملك بني أمية، لكي تخرج منها نبتة القومية العربية بعد قرون طويلة على أيدي ساطع الحصري وميشال عفلق وغيرهما من دعاة القومية العربية الذين كانت الشام مسقط فكرهم.

أيا كانت نظرتنا للدولة الأموية، فهي بلا شك عنصر جذب لأي قارئ، فلا يمكن للمرء أن يمل من قراءة تاريخ هذه الدولة الذي يمثل مشوارا في التثقيف السياسي أكثر منه التاريخي، ثم يمهد لنفسه أن يتثقف أدبيا وفكريا وتاريخيا عند قراءة الدولة العباسية وملحقاتها. إن في أطلال هذه الدولة جذورا لفكرنا وأبعادا لتراثنا ونبتا لحاضرنا.

* كاتب مصري