دويلة إسبرطة العجيبة!

TT

تعد دولة إسبرطة Sparta في اليونان القديم أحد النماذج الفريدة للمجتمعات الإنسانية لأسباب تتعلق بأنماطها الشاذة عن المجتمعات البشرية عبر التاريخ، وهذه الدويلة التي كانت بؤرة القوة في العالم اليوناني القديم ستظل رمزا لعسكرة المجتمعات إما لأسباب عقائدية أو لأسباب متعلقة بأنماط اجتماعية وثقافية مختلفة.

لقد كان اليونان القديم ينقسم إلى دويلات City States، لأنها كانت دولا صغيرة نسبيا في الحجم وتعداد السكان ولكنها كانت أكبر من المدن، وقد تميز الكيان الإسبرطي في هذا الإطار عن أغلبية الدويلات الأخرى بأنه كان مجتمعا يتمحور حول الجيش الذي كان مقصورا على طبقة الذكور من مواطني إسبرطة دون غيرهم، وكانت هذه الفئة العسكرية هي الأساس الذي دار حوله هذا المجتمع، بينما كانت الطاقات الإنتاجية فيه تعتمد على السخرة Helots التي كلفت بزراعة الأرض وجميع الأعمال الدونية الأخرى، بينما اقتصر دور طبقة المواطنين الأحرار على بعض الأعمال الرفيعة.

ولكن تميز إسبرطة عبر التاريخ جاء لعدد من الأسباب الأخرى يمكن تلخيصها فيما يلي:

أولا: إن نشأة الجيش الإسبرطي كانت مختلفة إلى أكبر الحدود، فالتكوين والتدريب كانا يعتمدان على المواطن القوي منذ طفولته، فلم يكن هناك مكان للضعفاء أو ذوي الاحتياجات الخاصة، فهؤلاء التعساء من الأطفال كانوا يتعرضون للوأد من قبل ذويهم ليفسحوا المجال للأصحاء من الأطفال الذكور لمدارس الجيش التي تقوم بتنشئتهم نشأة عسكرية صرفة يتم خلالها عزلهم لسنوات عن المجتمع ثم يعودون إليه مرة أخرى بعد اكتمال تدريبهم واستعدادهم الكامل للحرب، وكنتيجة طبيعية ساد الشذوذ الفكري والاجتماعي، بل والجنسي بين هذه الفئة بسبب الانعزالية وشظف الحياة والنمط غير الاجتماعي أو حتى الإنساني للتطور، ولكن كل هذه الظواهر قوت شوكة الجيش فكان جيشا على أعلى مستوى مقارنة بكل الدويلات اليونانية.

ثانيا: إن الجيش الإسبرطي كان نواة أي تحرك يوناني جماعي، فكانت إسبرطة دائما ما تقود الجيوش اليونانية الجماعية بفضل تفوقها العسكري بسبب التطوير التكتيكي المستمر لتشكيلاتها العسكرية، فهم أول من طور في تشكيلات الفالانكس Phalanx الشهيرة (مربع أو مستطيل المشاة) التي سمحت بالتكتل وكسر خطوط الجيوش المعادية، إضافة إلى التفوق النوعي للجيوش الإسبرطية مقارنة بغيرها بسبب التدريب العالي والقدرة على التحمل. وتشير رائعة الكاتب اليوناني الشهير ثيوسيديديس «تاريخ الحروب البيلوبونسية History of The Peloponnesian War» التي تعد المرجع الأساسي لهذه الحرب الضروس التي دارت بين اليونان وإسبرطة وحلفائها خلال القرن الخامس قبل الميلاد، إلى أهمية دور المشاة مقارنة بالأفرع الحربية الأخرى، إذ إن البحرية اليونانية على الرغم من تفوقها لم تستطع حسم الحرب لصالحها بسبب قوة المشاة الإسبرطية وتحالفاتها.

ولكن أبرز البطولات العسكرية لإسبرطة جاءت خلال الحرب الفارسية - اليونانية في القرن الخامس قبل الميلاد عندما استطاع ملك إسبرطة «ليونيدس» على رأس قوة من ثلاثمائة إسبرطي بدعم من بعض وحدات يونانية أخرى الصمود في ممر «ثيرموبولي» وتعطيل زحف جيوش الملك الفارسي «زيريكسيس» لأيام طويلة، وهلك ليونيدس ومن معه ولكن ليس قبل أن يمنحوا باقي الدويلات اليونانية الفرصة للتكتل لهزيمة الغزو الفارسي فيما بعد.

ثالثا: تشير المصادر التاريخية المختلفة إلى أن النظام الدستوري لإسبرطة كان غريبا هو الآخر، فهذه الدولة كان يحكمها ملكان منتخبان من المواطنين الأحرار، وكان دورهم في البداية يتضمن بعدا روحيا مرتبطا بالآلهة، إضافة إلى مهامهما التقليدية في إدارة الدولة والجندية وتوزيع القيم والأموال، وكان المواطنون ينتخبون أيضا مجلسا قويا من المواطنين الإسبرطيين الأحرار وكان له دور الرقابة والتشريع ثم تحول إلى دور صانع السياسة مع مرور الوقت، ولقد استمر النظام السياسي الإسبرطي صامدا لقرون طويلة ولكن تفوقها العسكري ضعف مع مرور الوقت.

رابعا: نظرا للطريقة غير الطبيعية التي بني عليها المجتمع الإسبرطي، فإن الهيكل الاقتصادي والاجتماعي للدولة لم يكن من الممكن أن يستمر بطبيعة الحال، ففكرة النقاء الوطني والعرقي وتشدد المجتمع الإسبرطي في المحافظة على مفهوم السمو الذاتي أضعف هذه الطبقة بطبيعة الحال مع مرور الوقت، لأنها لم تقبل الدم الجديد، كذلك فإن فكرة الاعتماد على طبقة العبيد أو السخرة والخوف المستمر من ثوراتهم دفع المواطنين إلى استخدام العنف والقتل الانتقائي كنوع من الردع لهم، ومع ذلك لم يخل الأمر من ثورات مستمرة للعبيد أضعفت الأمن الداخلي لهذا الكيان.

من ناحية أخرى، أدت ظاهرة عسكرة الدولة إلى ظهور ضغوط على الهيكل الاجتماعي بها، فكان من الطبيعي أن تتأثر الطبقات الاجتماعية الرئيسية الثلاث المكونة من المواطنين الأحرار، وطبقة أنصاف المواطنين الذين تميزوا في التجارة والأعمال الأخرى، وطبقة العبيد، فكان من الطبيعي أن تضعف الهياكل الاجتماعية للدولة الإسبرطية مع مرور الوقت، لا سيما مع ضعف طبقة المواطنين واستمرار الضغوط والتوترات القائمة بين الطبقات، بالتالي كان متوقعا أن تضعف القوة الكلية لإسبرطة مع الزمن لأن النظامين الاقتصادي والاجتماعي كانا غير قادرين على التحمل الممتد.

خامسا: من الملاحظ أن دولة إسبرطة، لم تترك لنا رصيدا ثقافيا مقارنة بقوتها العسكرية المتميزة، وذلك على عكس عدوها اللدود دويلة أثينا التي تمثل البنية الأساسية للثقافة الغربية، وهو أمر لا يجب أن يكون محط استغراب لأن الثقافة والرقي الحضاري لا يبنيان على قوة السلاح، بل قوة العقل وخصوبة أفكاره وسلامة المجتمع، فالقتال خارج الأراضي في وقت الحرب، والتفرغ لمطاردة طبقة العبيد لكبتها في وقت السلم، وعسكرة المجتمع كله، والضغوط عبر الطبقية.. كلها عوامل لا تترك مجالا لأساس فكري صلب باستثناء بعض المفكرين وقليل من الفلاسفة وكثير من السفسطائيين.

في التقدير أن كل هذه العوامل جعلت من إسبرطة إنذار خطر للإنسانية لما مثلته من خطورة اتحاد فكرتي العسكرة والعنصرية داخل أي مجتمع، فضلا عن استعدائها للمجتمعات التي حولها، فهذه العناصر مجتمعة كفيلة بالتدمير التدريجي لأي مجتمع، إذ لا يمكن للمجتمعات الاستمرار وهي في حالة عدم وئام مع جيرانها وداخل مجتمعها، فمثل هذه المجتمعات أو الدول المتعسكرة التي ترصع نفسها بخرافات السمو العرقي أو الديني مثل إسبرطة حتما في خلاف مع التاريخ وصدام مع الواقع، ومثواها كتب التاريخ بجوار دولة إسبرطة لتتعلم منها الشعوب الأخرى كيف لا تصبح مثلها.

* كاتب مصري