ليبيا: الجنرال الوحيد في الثورتين

الرجل الذي عاش لا يصدقه الأصدقاء ومات لا يصدقه الأعداء

TT

«ألن تأتي إلى بنغازي؟ هل يعقل أن كل وسائل الإعلام الأجنبية هنا وأنتم لا؟ سأنتظرك قريبا، لتكن ضيفي»، بهذه الكلمات اعتاد الجنرال ذو الشعر الأبيض، الذي يشغل منصب القائد العام لهيئة أركان جيش ثوار ليبيا المناهض لنظام حكم العقيد معمر القذافي، أن ينهي كل مكالمة هاتفية أجريها معه من دون أن يفقد ابتسامته.

كان عبد الفتاح يونس العبيدي في معظم الأحيان يرد على اتصالاته بنفسه، أو من خلال مرافق لم يكن دوره يزيد على تمرير الهاتف للرجل الذي كان مفتوحا أمام الجميع ومتاحا معظم الوقت، حتى وهو على خط الجبهة يتفقد جنوده ومقاتليه.

أدرك يونس قيمة وأهمية الإعلام في معركة طويلة يخوضها الليبيون ضد نظام يأبى الرحيل ويصر على البقاء متحديا عوامل الطبيعة وإرادة الشعب في التغيير والحصول على ليبيا أفضل وأكثر ديمقراطية في عهد يخلو من اسم القذافي.

لكن أخيرا، وسد الرجل رأسه في ثرى بلاده، لكنه لم يقتل برصاص الأعداء، بل طالته في لحظة غفلة أيادي الغدر والخيانة، منهية في لحظة دراماتيكية غير متوقعة حياة مليئة الأحداث ومثيرة للجدل لرجل لو قدر له أن يعيش لربما كان رئيس ليبيا المقبل.

مات اللواء عبد الفتاح يونس، القائد العام السابق لهيئة أركان جيش تحرير ليبيا الوطني المناهض لنظام حكم القذافي، بفعل النيران الصديقة، وبأياد طالما ارتفعت فقط لكي تؤدي له التحية العسكرية اعترافا بمكانته كقائد بارز للثوار وتقديرا لدوره في حماية الثورة الشعبية التي اجتاحت مختلف المدن الليبية خاصة في المنطقة الشرقية اعتبارا من السابع عشر من شهر فبراير (شباط) الماضي ضد القذافي.

استدعي الرجل على عجل من على خط لجبهة في أجدابيا والبريقة إلى مقر المجلس الانتقالي في بنغازي، بدعوى الحاجة إلى التحقيق معه في تقارير تتعلق بنقص التسليح والاتصالات، وفقا لما أعلنه رئيس المجلس الانتقالي مصطفى عبد الجليل، قبل أن يتعرض لكمين ويقتل بدم بارد في مفاجأة مذهلة.

لكن قبيلة وعائلة العبيدي لم تصدق تماما كلام عبد الجليل، خصوصا مع حصول «الشرق الأوسط» على معلومات تؤكد ضلوع نظام القذافي في تسريب وثائق مفبركة بشأن ضلوعه في اتصالات مشبوهة مع ممثلين من نظام القذافي. ورغم نفى عبد الجيل أيضا فقد تعرضت جثة يونس ورفيقيه، إلى التنكيل والتمثيل والحرق، في سلوك انتقامي يرجح أيضا أن يكون ما حدث كله جزءا من عملية مخططة ومعدة سلفا لإزاحة الرجل الذي يصح القول إنه عاش حياته لا يصدقه الأصدقاء وبعد مماته لا يصدقه أيضا الأعداء الذين يخشون أن يكون الأمر كله خدعة سينمائية من نوع ما.

بالنسبة للقذافي فإنه قد تخلص من معادلة صعبة للغاية بحجم يونس الذي طالما نظر إليه على أنه رفيقه في الكفاح قبل أن تتقاطع المصالح وتختلف الرؤى، وبالنسبة لمن قتلوه فإن الرجل ذا الشعر الأبيض الذي يحبه الجنود ويحترمه المقتلون قد اختفى، أما بالنسبة لبعض الطامحين سياسيا فإن يونس أخطر المنافسين المحتملين على منصب رئيس البلاد في مرحلة ما بعد سقوط القذافي قد انتهى ولم يعد موجودا.

«ثمة أطراف كثيرة قد تكون لها مصالح مؤكدة في وفاة والدي»، هكذا قال معتصم الابن الأصغر للواء عبد الفتاح يونس لـ«الشرق الأوسط»، وبينما قال موسى إبراهيم الناطق باسم الحكومة الليبية إن تنظيم القاعدة يقف وراء عملية اغتيال يونس، فإن المجلس الانتقالي الوطني اتهم في المقابل بعض الجماعات المسلحة في بنغازي بالتورط في مقتل يونس على هذا النحو.

عاش يونس شهوره الأخيرة تلاحقه إشاعات كثيرة، تتحدث تارة عن إصابته أو مصرعه، وتارة أخرى عن اتصالات سرية مزعومة يجريها مع بعض المسؤولين في نظام القذافي. كان الرجل ضيفا بشكل شبه يومي على المهرج الكوميدي الذي اعتمر عباءة المحلل السياسي في التلفزيون الليبي، يوسف شاكير، وهو يحرض على قتله ويتوعده.

لكن لماذا عادى القذافي يونس إلى هذا الحد، وبلغت كراهيته له أنه طلب تصفيته بأي ثمن وبأي طريقة؟ وهل فعلا أن القذافي هو من دبر وخطط لتقل يونس كما جرى مؤخرا في ملابسات غامضة ومثيرة للجدل؟

يقول فخري العبيدي، ابن عم اللواء يونس، لـ«الشرق الأوسط»: «كان يونس الجنرال الوحيد في الثورتين»، في إشارة إلى ثورة سبتمبر (أيلول) عام 1969، وثورة فبراير (شباط) من العام الحالي، معتبرا أن يونس ما كان ليتأخر عن نداء الواجب أو نصرة المظلومين والدفاع عن حقوقهم. وأضاف فخري الذي يكن الكثير من الاحترام والتقدير للواء يونس كما هو حال بقية وجهاء وأعيان قبيلة العبيدات «كان بطلا قوميا، نعم، وضع نفسه في خدمة ليبيا، والحمد لله على أن عاش رحيما في حياته، مرحوما في مماته».

لم يكن يونس رقما عاديا في عداد القادة العظام في صفوف الثوار الليبيين، بل كان تقريبا الرجل الثالث في المرتبة العسكرية بعد وزير الدفاع جلال الدغيلي، ومسؤول الشؤون العسكرية اللواء عمر الحريري. لكنه كان أول جنرال في صفوف الثوار ينتقد حلف شمال الأطلسي (الناتو) علانية وبشكل واضح، ويطالبه بإعادة تصحيح أوضاعه لتفادي سقوط مدنيين عزل أو مقاتلين من الثوار في الهجمات التي تشنها مقاتلات حلف الناتو على الأهداف والقوات العسكرية التابعة لنظام القذافي.

بجرأته وضع يونس إصبعه في وجه الناتو، وصرخ أن «القصف يجب أن يكون دقيقا حتى نتجنب موت الليبيين بالنيران الصديقة»، كان هاجسه الدائم كيفية تجنب تلك النيران والحد منها، عبر تعزيز الاتصالات بين الناتو والثوار، لكنه لم يكن يدرك أن مقتله سيكون أيضا بنيران صديقة لكنها معادية له.

كان يونس ضمن الدائرة المقربة من القذافي منذ انقلاب عام 1969 الذي أتى بالقذافي إلى السلطة، وكان وزيرا للداخلية قبل أن ينضم للمعارضة في فبراير الماضي.

ولد أبو معتصم وأشرف عام 1944 في قبيلة العبيدات في منطقة الجبل الأخضر بشرق ليبيا، حيث انضم إلى تنظيم الضباط الأحرار الوحدويين، وشارك وعمره لم يتجاوز 25 عاما في الانقلاب العسكري الذي قاده القذافي في الأول من سبتمبر عام 1969 للإطاحة بنظام حكم العاهل الليبي الراحل إدريس السنوسي.

في ليلة الانقلاب الذي تمنى يونس لاحقا لو لم يكن قد وقع حتى لا يرى الليبيون تلك المعاناة المستمرة منذ نحو 42 عاما، لعب يونس دورا مهما ومحوريا في الإطاحة بالنظام السابق، حيث قاد بنفسه عملية الاستيلاء على محطة الإذاعة الرئيسية في بنغازي التي قدر لها أن تكون شاهدة على أهم محطات حياته السياسية والعسكرية الحافلة وأن تشهد في الأخير موته الغامض قبل أن يدفن في ثراها.

وكان طبيعيا بعد الانقلاب أن يعهد القذافي ليونس بالعديد من المهام العسكرية والسياسية، خاصة تدشين القوات الخاصة التي قادها في بنغازي على مدى عقود. وفي كل أزمات القذافي كان يونس حاضرا وبقوة، يتقدم الصفوف بجرأة رجل المهام الخاصة، ويندفع إلى حيث يعتقد أنه الواجب دفاعا عن بلد وشعب أقسم على الولاء لهما.

وتشير أوراق الرجل العسكرية إلى أنه شارك في الحرب التي اندلعت بين ليبيا ومصر في شهر يوليو (تموز) 1978، كما شارك في الحربين اللتين شنهما القذافي على نظام حسين حبري في تشاد المجاورة في الثمانينات. لكن القذافي اختار للرجل مهمة أمنية ذات طابع سياسي، عندما عهد إليه بشكل مفاجئ في عام 2009 بمنصب المسؤول عن اللجنة الشعبية العامة للأمن العام (وزارة الداخلية)، وهو المنصب الذي تولاه حتى لحظة إعلانه في الثاني والعشرين من شهر فبراير المنصرم استقالته من جميع مناصبه السياسية والعسكرية وانحيازه إلى ثورة الشعب الليبي ضد القذافي.

وتولى اللواء العبيدي أثناء عمله وزيرا لداخلية ليبيا مسؤولية التفاوض مع الاتحاد الأوروبي حول ملفي الهجرة واللاجئين القادمين من أفريقيا، كما أشرف في الفترة نفسها على النواحي الأمنية والعسكرية في شرق ليبيا. ولاحقا عندما نقل أحدهم إلى القذافي أن يونس قد انشق على نظامه وأعلن ولاءه الجديد لثورة الشعب الليبي ضده، هاج القذافي وماج بعدما ظل لوقت طويل يرفض تصديق الأمر ويسعى عبر وسائل الإعلام إلى محاولة الوقيعة بين يونس والثوار.

ضحى يونس بموقعه ومكانته الوظيفية والسياسية، وقرر مختارا أن يناصب نظام القذافي العداء حتى النهابة، معلنا تأييده لـ«الثورة الشعبية» التي راهن أنها ستنتصر على القذافي العنيد الذي لن يستسلم، وأنه «إما ينتحر أو يتم اغتياله».

لكن ما الذي دفع يونس، إلى جانب اعتبارات الوطنية، إلى الانشقاق على نظام القذافي والتضحية بكل المزايا السياسية والمادية للاقتراب منه؟ لاحقا رد يونس على هذا السؤال باتهامه القذافي بالتخطيط لمهاجمة المدنيين على نطاق واسع، مشيرا إلى علمه بمقتل قرابة 300 مدني أعزل في بنغازي خلال الأيام الأولى للثورة. كما كشف النقاب عن أن القذافي أخبره أنه يخطط لاستخدام الطائرات ضد الشعب في بنغازي، وأنه قال له إن الآلاف ستقتل إن قام بذلك.

في بادئ الأمر، قال القذافي إن يونس الذي وصفه بـ«أخي ورفيقي في السلاح والثورة»، هو رجل مصاب، ثم عاد ليقول إنه مختطف وواقع تحت الضغط والإكراه، لكن ردود يونس القوية والعنيفة الساخرة عبر شاشات التلفزيون والقنوات الفضائية من تصريحات القذافي، دفعت سيف الإسلام النجل الثاني للعقيد القذافي إلى الرد بشكل مختلف هذه المرة، عندما قال إن يونس رجل كبير وطاعن في السن، وإنه هارب من المسؤولية، وهو تعبير استخدمه أيضا الدكتور البغدادي المحمودي رئيس الحكومة الليبية.

لكن يونس لم يبال بتلك التصريحات، ولم يتوقف كثيرا عن التهديدات، بيد أن ما كان يزعجه هو مسارعة البعض إلى تصديق محاولات القذافي الإعلامية التشويش عليه والإساءة إليه بطرق ساذجة وصبيانية على حد وصفه في حوارات سابقة معه لـ«الشرق الأوسط».

وحتى عندما بث التلفزيون الليبي لقطات تلفزيونية أرشيفية للواء يونس وهو يجتمع مع القذافي، مدعيا أن تلك اللقطات تمت بمناسبة أداء يونس القسم مجددا كوزير للداخلية، كان الجنرال يعتبر أن هذه المشاهد مجرد كوميديا سوداء في تاريخ إعلام ونظام القذافي. ذات مرة قال لي عبر الهاتف «لو جلست طيلة الوقت أرد على ما يقوله أو ما يفعله نظام القذافي، لن أفعل شيئا، لا تصدقوا كل ما تسمعوه، إنه يكذب (القذافي) باستمرار، وفى الأخير صدق نفسه ويطالب الآخرين بتصديق أكاذيبه». وعندما شكك البعض في ولائه، قال يونس بشكل هادئ دونما أن يفقد أعصابه «أنا جندي مخلص لثورة الشعب الليبي ضد نظام القذافي».

لكن تلك الكلمات على ما يبدو لم تكن كافية لكي تمنع قاتلي يونس من تنفيذ مؤامرتهم الصغيرة الدنيئة لقتل رجل طالما عاش في الثورة ومن أجلها.

في رثائه، يقول عبد المنعم الهوني، ممثل المجلس الوطني الانتقالي لدى مصر والجامعة العربية «مهما كانت اليد المجرمة الآثمة التي حملت السلاح وامتدت بجبن وغدر وخديعة لتنفيذ الجريمة، فإن المجرم الذي قام بها وحرض عليها ورسم الخطط التي يقوم المنفذون بتنفيذها، هو رأس النظام الدموي الإجرامي الطاغية القذافي».

ويكشف الهوني عن محاولة اغتيال فاشلة سبق أن سعى إليها القذافي لتصفية يونس، مشيرا إلى أن القذافي سبق أن أرسل عميلا من عملائه المجرمين إليه، منذ أول يوم التحاقه بثورة 17 فبراير في بدء انطلاقها، وأطلق عليه رصاصا لم يصبه. وأضاف «ولم يرتدع مجرم باب العزيزية أو يتوان عن غيه، وواصل رسم الخطط الإجرامية لاغتياله، بل إن إعلامه لم يتوقف يوما واحدا وخلال الأشهر الخمسة الماضية عن التحريض على قتله والتهديد بتنفيذ خطط اغتياله، وبث الإشاعات التي تنال منه، والبعث برسائل التضليل والتزوير لنشر الفتنة بينه وبين جنوده ورفاقه الثوار».

وبذلك فإن نظام القذافي كما يقول الهوني هو المسؤول الأول عن ارتكاب هذه الجريمة البشعة النكراء التي «قام بها بغدر وجبن بعد أن فشل في أن يواجهه مواجهة الرجال للرجال في ميدان المعركة، ولجأ إلى أساليبه الخسيسة في الغدر والدس والخديعة وحيك المكائد في الوصول إليه، وقد كان هذا سبيله وديدنه خلال أكثر من أربعة عقود من حكمه الإجرامي».

ومع ذلك، فإن ثمة انقساما في صفوف المعارضة بشأن من يتحمل مسؤولية مقتل يونس، ويرتاب البعض في أن قادة المعارضة أمروا بإعدامه بتهمة الخيانة، ويعتقد كثيرون أنه قتل على أيدي أنصار القذافي الذين تسللوا وسط صفوف المعارضة، ويلمح البعض الآخر إلى أن مجموعة منشقة من المعارضة تصرفت بشكل منفرد.

في كل الأحوال لم يتمتع يونس بثقة الكثيرين الذين لطالما وضعوا تاريخه مع القذافي قبل الثورة الشعبية الأخيرة ضده نصب أعينهم، ورفضوا تجاوزه حتى وهم يرون الرجل يخاطر بحياته من أجل تحقيق الثوار لمكاسب استراتيجية وحاسمة في المعركة الطويلة ضد قوات القذافي العسكرية وكتائبه الأمنية. ومهما كانت الحقيقة فإن ثمة من يرى أن مقتل يونس يعمق المخاوف بين المؤيدين الغربيين للمعارضة والذين يحرصون على أن تكون لها الغلبة في القتال الدائر منذ خمسة أشهر ويشعرون بالإحباط لافتقار المعارضة للوحدة ويقلقهم نفوذ الإسلاميين.w