غاندي الجديد

آنا هازاري يمارس اليوغا بانتظام.. ولا يملك سوى 1500 دولار في حسابه المصرفي ويعيش من معاشه التقاعدي من الخدمة في الجيش

TT

أمهات يحملن أطفالا صغارا، مسنون يتحدون ضعفهم، طلاب يبحثون عن مستقبل أكثر إشراقا، ومهنيون ضاقوا ذرعا من دفع الرشى لقضاء مصالحهم الحكومية. كان هذا مشهدا من بين مئات آلاف الهنود الذين يسيرون وراء رجل واحد: الناشط الهندي ضد الفساد آنا هازاري. هذا الرجل الذي ليس لديه عائلة ولا أملاك ولا رصيد مصرفي، ولكنه يملك الشعب الهندي بكامله. اليوم، أصبح آنا هازاري الوجه الذي يعبر عن معركة الهند ضد الفساد. لقد نجح في نقل هذه المعركة إلى أروقة السلطة وتحدى أعلى المستويات الحكومية. إنه يحظى بدعم الشعب والآلاف من الشخصيات المعروفة والعامة على حد سواء. إن الثورة الحالية، والتي استلهمت قوتها من الربيع العربي، تمتد إلى الشوارع الهندية التي تمتلئ بالعلامات والشعارات المكتوبة على الجدران والتي تدين جميعها الفساد بكل أشكاله.

لقد استحوذ هازاري على مخيلة الهنود، ولا سيما الشباب الذين يرتدون قبعات مكتوب عليها «أنا هازاري». كما أن المدونات على شبكات التواصل الاجتماعي وعلى موقع «تويتر» تضج بالرسائل النصية المؤيدة له والتي تحث الشعب على دعمه وتأييده.

ولكن قبل عام من الآن، لم يكن اسم آنا هازاري معروفا سوى للناشطين في المناطق الريفية. وفي شهر أبريل (نيسان) الماضي، استحوذ هازاري على الاهتمام الوطني من خلال الدخول في إضراب عن الطعام في مرصد جانتار المنطار، حيث تجمعت حشود من الناس لمدة خمسة أيام ونددوا بالسياسيين، وانضم إليه نجوم السينما على المنصة، وهو ما أدى إلى اندلاع الاحتجاجات في جميع أنحاء البلاد. إنه يطالب بسن قانون صارم لمكافحة الفساد. وقد أنهى هازاري الإضراب عن الطعام بعدما وافقت الحكومة الهندية على مطالبه، ولكن بعد التعاون مع فريق هازاري، تراجعت الحكومة ووضعت التشريعات الخاصة بها والتي تبقي السلطة القضائية ورئيس مجلس الوزراء بعيدا عن التحقيق.

ويكمن المأزق الأخير في الصلاحيات التي ستتمتع بها اللجنة المستقلة المقترح تشكيلها والمعروفة باسم «لوكبال»، حيث يرغب كل من هازاري وأنصاره في أن تكون اللجنة قادرة على التحقيق بشكل مستقل مع رئيس الوزراء والمحكمة العليا، في حين يقول المسؤولون الحكوميون إن مثل هذه الخطوة سوف تعطي سلطة غير محددة إلى حد كبير إلى اللجنة الجديدة. وتقول الحكومة أيضا إن البرلمان يجب أن يكون الجهة التي تمرر هذا القانون من دون ضغوط لا داعي لها من نشطاء المجتمع المدني الذين لم يتم انتخابهم من الشعب.

أما هازاري، فقد أعلن الشروع في إضراب جديد عن الطعام وقررت الحكومة الهندية حبسه في سجن تيهار الشهير بالمدينة - والذي يتم فيه احتجاز مجموعة من السياسيين البارزين وكبار البيروقراطيين الذين يشتبه بتورطهم في جرائم مختلفة تتعلق بالفساد.

وفي بلد يقدس فيه المسنون على نطاق واسع، حظيت رؤية الرجل، الذي يبلغ من العمر 74 عاما والذي سيق إلى السجن لقضاء بعض الوقت مع عدد من السياسيين المتورطين في فضائح تتعلق بالفساد، بتأييد كبير. وقد أدى القرار الأحمق بسجن هازاري إلى نتائج عكسية لا يمكن تخيلها حيث اندلعت احتجاجات عامة على نطاق واسع في البلاد.

وقد ارتفعت شعبية هازاري بصورة كبيرة بعدما رفض الخروج من السجن حتى بعد أن عرضت الحكومة الإفراج عنه. وبدلا من ذلك، جعل هازاري إطلاق سراحه مشروطا بأن تسمح الحكومة له بالدخول في إضراب عام عن الطعام لمدة تتراوح بين أسبوعين وثلاثة أسابيع. وعلى الرغم من تحفظاتها على ذلك، توصلت الحكومة إلى حل وسط ومنحته الإذن بالدخول في الإضراب.

ولم يكن الفساد وافدا جديدا على السياسة الهندية، حيث يعد جزءا من الحياة العامة الهندية، ويشكو المواطنون بشكل متكرر من هذه العلة ولكنهم نادرا ما لجأوا إلى تنظيم احتجاج علني للتعبير عن إحباطهم وغضبهم إزاء هذه الظاهرة المتفشية بشكل كبير في المجتمع الهندي. وقد هزت بعض حالات الفساد في الآونة الأخيرة، مثل فضيحة الاتصالات الهندية والتي كلفت خزانة الدولة 39 مليار دولار وارتفاع مستوى الفساد في دورة ألعاب الكومنولث التاسعة عشرة والتي أقيمت في دلهي، حكومة رئيس الوزراء الهندي مانموهان سينغ، حيث يلعب سينغ دورا فعالا في خلق ثورة اقتصادية في الهند.

وحتى وقت كتابة هذا التقرير، ما زال هازاري يواصل إضرابه عن الطعام لليوم التاسع وقد بدأت مؤشرات تدل على تدهور حالته الصحية، إذ بدأ يعاني من مشكلات بسيطة في الكلى. ومع بدء صحته في التدهور، كتب له رئيس الحكومة الهندي مانموهان سينغ، وطلب منه وقف إضرابه عن الطعام ووعد بأن يبذل جهده ليلبي طلباته. ولكن يعتقد الخبراء أن هازاري يمكنه الاستمرار في الإضراب بسلاسة لمدة خمسة عشر يوما أخرى، وذلك بفضل حياته المنضبطة والدهون المخزنة في جسمه.

ومن الجدير بالذكر أن هازاري يمارس رياضة اليوغا بانتظام، وهو ما يجعله سليما من الناحية البدنية حتى بعد أيام طويلة من عدم تناول الطعام. وكان هازاري قد دخل في إضراب مماثل لمدة نحو 15 يوما. ومن الناحية الطبية، يمكن لهازاري مواصلة إضرابه عن الطعام بسلاسة ما لم ينخفض مستوى الدهون في جسده عن سبعة في المائة.

ويستلهم الناشط الاجتماعي هازاري قوته من المهاتما غاندي والملقب بأبي الهند (حيث ساعدت مجهوداته غير العنيفة الهند على الاستقلال عن الحكم البريطاني في عام 1947) وسوامي فيفكانادا (مصدر رئيسي في نهضة الهند الروحية في أواخر القرن التاسع عشر). ويؤدي ما يقوم به هازاري إلى إزعاج قيادة البلاد على أعلى المستويات، كما أنه يحظى بدعم كبير من الشعب الهندي.

ولكن السؤال الآن هو، من يكون آنا هازاري وما هو مصدر قوته التي تجعل منه غاندي الثاني في الهند وتؤدي إلى إزعاج الحكومة؟ يرتدي هازاري، الذي يبلغ من العمر 74 عاما، ثيابا يسمي الخادي (زي بسيط مصنوع من القطن) ويعيش في غرفة بعيدة كل البعد عن الطرف تبلغ مساحتها 100 قدم مربع ملحقة بمعبد في مسقط رأسه بقرية راليغان سيدهي في ولاية مهاراشترا غرب الهند. ولا يملك هازاري سوى 1500 دولار في حسابه المصرفي ويعيش على معاشه التقاعدي من الخدمة في الجيش. ويقول إن حملاته يتم تمويلها من خلال التبرعات الطوعية من جانب مؤيديه. ودائما ما يرتدي هازاري ثيابا أبيض اللون والغطاء الهندي التقليدي.

اسمه الحقيقي هو كيسان بابوراف هاجاري. ولد في عائلة ريفية، ودفعت الظروف المعاكسة أسرته إلى براثن الفقر. وفي عام 1952 انتقل هازاري إلى منزل أجداده. واحتضنته إحدى عماته التي لا تستطيع الإنجاب، وقامت بدفع مصاريفه الدراسية في مومباي، غير أن عدم الاستقرار المالي دفعه إلى بيع الزهور واضطر إلى ترك الدراسة في سن مبكرة.

وانضم هازاري إلى الجيش الهندي في عام 1963 ملبيا النداءات الوطنية من قبل الحكومة بعد هزيمة القوات الهندية في حرب حدودية مع الصين في عام 1962.

وأثناء الحرب الهندية الباكستانية في عام 1965، رأى زملاءه وهم يموتون أمام عينيه، وهو ما أدى إلى شعوره بالاكتئاب. وفي بحثه عن جواب للسبب وراء وجود الإنسان، فكر هازاري في الانتحار، وكتب مقالا من صفحتين يوضح فيه السبب الذي دفعه إلى إنهاء حياته. وخلال الفترة التي عانى منها من الاكتئاب، عثر بالصدفة على كتاب لسوامي فيفكانادا في محطة سكة حديد نيو دلهي، وقال إنه قرأ الكتاب وتوصل للإجابة عن السؤال الذي ظل يبحث عنها طويلا - وهو أن الدافع وراء حياته يكمن في خدمة زملائه من البشر. وتقاعد هازاري من الجيش الهندي وقطع على نفسه عهدا بالعمل في مجال الخدمة العامة. وحصل هازاري على لقب آنا (الأخ الأكبر باللغة الهندية) بفضل نشاطه في العمل الاجتماعي.

ويعتبر هازاري معارضا قويا في مجال مكافحة الفساد على مدى ثلاثة عقود، ولكنه ظهر بقوة على الساحة الوطنية خلال الأشهر الأخيرة باعتباره صوت الشعب ضد الفساد المستشري الذي ابتليت به الهند والتي تعد واحدة من أسرع الاقتصادات نموا في العالم.

وعندما بدأ هازاري حملته لمكافحة الفساد، اعترف خصومه وكذلك السياسيون الذين يكرهونه على مضض بأنه هو الشخص الوحيد القادر على تعبئة الناس العاديين في جميع أنحاء البلاد وزعزعة الحكومة. وقد عانى جسده النحيل من عدد لا يحصى من الجولات والإضرابات عن الطعام منذ عمله في الحياة العامة بدءا من عام 1975.

ويقول هازاري: «لست خائفا من الموت، وليس لدي عائلة أبكي عليها، وسوف أكون سعيدا إذا ما مت وأنا أقوم بشيء لهذا البلد. إننا بحاجة لبدء حركة ثانية للحرية بهدف التخلص من الفساد والروتين الذي يؤدي إلى تأخير العمل في المكاتب الحكومية والنقل المتكرر للمسؤولين الشرفاء والأوفياء وانعدام الشفافية».

وفقد هازاري والدته في عام 2002 ولديه أختان متزوجتان، غير أنه اختار البقاء بعيدا عن أي روابط أسرية ولم يقم قط بزيارة أي من شقيقتيه، وقال ذات يوم: «لدي منزل في قريتي ولكن لم تطأه قدماي على مدار العقود الأربعة الماضية».

وقد حصل هازاري بفضل إنجازاته على العديد من الجوائز مثل جائزة انديرا بريادارشيني فريكشاميترا وجائزة كريشي بوشانا وجائزة بادما شري وجائزة بادما بوشان ورامون ماجسايساي.

وقد تقاعد بشكل طوعي من الجيش وعاد إلى قريته في عام 1975 والتي كانت تعاني آنذاك من الجفاف والجرائم والفقر والإدمان، ولذا أنفق مدخراته في العمل التنموي في القرية. وتعاني القرى الهندية اليوم من مشكلات اجتماعية معقدة وعميقة تتمثل في الإدمان والعنف المنزلي والأمية وسوء التغذية، كما تفتقر معظم القرى لشبكات الصرف الصحي وشبكات الطاقة والكهرباء، كما يمثل نقص المياه مشكلة كبيرة لمعظم قاطني القرى. في البداية، قام هازاري بحشد جميع الأشخاص الذين يشعرون بالقلق من انتشار إدمان الكحول في المجتمع وطلب من أي شخص يبيع الخمور أن يتوقف عن بيعها أو أن يغادر البلاد. واضطر أولئك الذين لم يستسلموا للضغوط الاجتماعية لإغلاق أعمالهم. وعندما تم العثور على بعض القرويين وهم في حالة سكر، تم ربطهم في أعمدة المعبد وجلدهم، وقام هازاري بجلد بعضهم بنفسه وبرر هذه العقوبة القاسية من خلال التأكيد في إحدى المقابلات الشخصية على أن «الريف الهندي كان مجتمعا قاسيا»، وتساءل: «ألا تعطي الأم الأدوية شديدة المرارة لطفلها المريض عندما تعلم أن الدواء يمكن أن يعالجه؟ قد لا يحب الطفل الدواء، ولكن الأم تعطيه الدواء لأنها تهتم به. لقد تم عقابهم على تناول الكحوليات حتى لا يتم تدمير أسرهم».

وقد كانت قريته معرضة للجفاف بسبب ندرة المياه، ولذا تبنى هازاري قضية الحفاظ على المياه وتنمية مستجمعات المياه من الأمطار، وعمل مع القرويين على بناء الخنادق ونظم الري بهدف تحسين الأراضي ومياه الأمطار. وعلى مر السنين، قام هازاري وأنصاره بتنفيذ سلسلة من المشروعات الإنمائية التي جعلت قرية راليغان سيدهي تحصل على لقب «القرية النموذجية» في دوائر التنمية. وحث هازاري القرويين على الاشتراك في العمل التطوعي، وتم بناء القنوات والسدود للتحكم في مياه الأمطار، وهو ما أدى إلى حل مشكلة ندرة المياه وزيادة إمكانات الري في القرية. وعندما جاء هازاري إلى قرية راليغان سيدهي في عام 1975، كان يتم ري 70 فدانا من الأراضي فقط، وبفضل مجهوداته ارتفع هذا الرقم إلى 2,500 فدان. وتعتزم الحكومة الهندية إنشاء مركز تدريب في قرية راليغان سيدهي بهدف فهم وتنفيذ نموذج هازاري لتنمية مستجمعات المياه في قرى أخرى في البلاد.

وفي عام 1980، بدأ هازاري في مشروع بنك القرية في المعبد وذلك بهدف توفير الأمن الغذائي للمزارعين في أوقات الجفاف أو تلف المحاصيل، حيث يمكن للمزارعين الأغنياء أو الذين لديهم فائض في إنتاج الحبوب التبرع بقنطار من تلك الحبوب للبنك. وفي أوقات الحاجة، يمكن للمزارعين اقتراض هذه الحبوب، ولكن يتعين عليهم إعادة نفس الكمية التي اقترضوها من الحبوب بالإضافة إلى قنطار إضافي كفائدة. وبفضل هذه الفكرة، لم يشعر أي فرد بالجوع أو يضطر إلى اقتراض الأموال لشراء الحبوب، كما أدت هذه الفكرة إلى القضاء على ظاهرة بيع الحبوب بأسعار أقل في وقت الحصاد. وعلى مدار كل هذه السنوات، ظل هازاري يعمل لمكافحة الاحتيال والسرقات من قبل المسؤولين الحكوميين.

وفيما يتعلق بإضرابه الحالي عن الطعام، يقول هازاري إن الدعم الصادق من الشباب الهندي هو ما أعطاه الطاقة اللازمة لمواصلة الإضراب.