آخر رموز المسيحية في السياسة الأوروبية

TT

إذا كانت المصلحة هي المحرك الرئيسي للدول في بناء سياساتها الخارجية، فإنه مما لا شك فيه أن العقائد تلعب دورا أيضا في صنع العوامل التي تؤثر على السياسة الخارجية للدول، والعقيدة الدينية على مر التاريخ تركت آثارها على سياسات الدول، ولكن هذا الدافع المهم، على الرغم من أهميته النسبية على المستوى الفردي، فإنه لم يستطع منافسة «المصلحة»، التي ظلت تتبوأ المرتبة الأولى في صنع وإدارة السياسة الخارجية للدول، ولكن هذه القاعدة لها استثناءاتها بطبيعة الحال، وآخر النماذج لها في القارة الأوروبية كانت اتفاقية التحالف المقدس عام 1815 في أوروبا. لقد ولدت هذه الاتفاقية في ظل الظروف المرتبطة بمؤتمر فيينا، الذي كان يعمل على إعادة التوازن للسياسة الأوروبية بعد حروب الثورة الفرنسية، فبدأ الحلفاء (روسيا والنمسا وإنجلترا وألمانيا) في إعادة مفاهيم الشرعية المحافظة للقارة، وعادت مع المؤتمر الأسر الحاكمة التي خلعها نابليون بونابرت إلى الدول والمقاطعات التي كانت تحكمها قبل الغزو الفرنسي. ووسط هذا الجو المشحون بالسياسة والتوتر طرح القيصر الروسي الإسكندر مبادرته الشهيرة ممثلة في اتفاقية التحالف المقدس، فدفعت هذه الاتفاقية الدين المسيحي إلى بؤرة الساحة السياسة الأوروبية في محاولة لجعل قيمها معايير للسياسة الخارجية الأوروبية، ولكنها كانت آخر محاولة لبناء نظام للعلاقات الدولية على أسس دينية، لا سيما بعد «اتفاقية وستفاليا» 1648، التي أدت لعلمنة العلاقات الأوروبية.

كانت هذه الاتفاقية من بنات أفكار القيصر الروسي التي رأى فيها وسيلة لتوحيد الصف الأوروبي من خلال قبول مفاهيم دينية متفق عليها لضمان استقرار السياسة وتفادي المفاهيم الثورية الأخرى، التي ولدتها الثورة الفرنسية، فجاءت المبادرة تدعو لمبادئ مثالية ولكنها كانت جوفاء بلا محتوى سياسي أو عملي، ومن ثم أعيدت صياغة نصوص هذه المبادرة مرات كثيرة لتكون ذات محتوى، وذلك بهدف تملق القيصر واتقاء لشره.

شملت الاتفاقية بعد إقرارها أهم المواد التالية:

أولا: أن هدف الاتفاقية هو الإعلان عن التزام الملوك الأوروبيين بمبادئ الدين المسيحي، مثل العدل والخير المسيحي والسلام، سواء في إطار علاقاتهم فيما بينهم أو لتسيير شؤون رعاياهم.

ثانيا: التزام الدول بالتآخي ومساندة الملوك والدول بعضهم بعضا لحماية الدين المسيحي والسلام والعدالة.

ثالثا: التزام الحكومات بالتعاون المشترك من خلال وحدة الأمة المسيحية الأوروبية، والتأكيد على أن الإله هو ملك الملوك.

هكذا خلت الاتفاقية من أي جوهر فكري أو عملي كأساس لسياسات الدول، وهذا يسمى اليوم في لغة الدبلوماسية «إعلان نوايا» أكثر منه اتفاقية ملزمة للأطراف، بل إن كثيرا من المؤرخين يعتبرون الوثيقة مجرد تعبير عن روح قومية مسيحية وفقا لوجهة نظر القيصر الروسي.

حقيقة الأمر أن كل واحدة من الدول العظمى الثلاث المؤسسة لهذا التحالف كان لها هدفها من وراء الانضمام للاتفاقية، فبالنسبة لروسيا ارتبطت هذه المبادرة شكلا وموضوعا بشخصية القيصر المتأرجحة ونوبات التدين المفاجئ التي كانت تعتريه، فلقد كان الرجل منذ أن كان ضالعا في مقتل والده، يمر بمراحل تأرجح واضطراب نفسي رأى معها المسيحية وسيلة خلاصه، وسعى لتطبيقها في السياسة، من ناحية أخرى كان للقيصر اعتقاد شخصي بدور بلاده القيادي في حماية الكنيسة الأرثوذكسية أينما وجدت.

نظرا لما سبق، فإن كل الساسة الأوروبيين كانوا يخشون التعامل مع القيصر، فلقد كان يخلط بين نقيضين: السياسة العملية، التي تقتضيها المصلحة الروسية العليا، والأبعاد النفسية التي تفرضها ظروف حياته الشخصية، ويضاف إلى هذه المصاعب أن قدرات القيصر الروسي الدبلوماسية والفكرية كانت متواضعة، مما حال دون قراءة نظرائه له، ومع ذلك اضطرت النمسا وبروسيا الدخول في هذه الاتفاقية الجوفاء لأسبابها مختلفة.

لقد كان أمر النمسا في يد المستشار «مترنيخ»، أحد أدهى الساسة الأوروبيين وأكثرهم ميلا للفكر المحافظ، فرأى في هذه الاتفاقية أداة لاستبدال المد الثوري عقب هزيمة فرنسا الثورية، فاعتقد أنها ستعيد التوازن الآيديولوجي للفكر المحافظ في أوروبا، ولكن أهم سبب لقبوله كان اعتقاده أن هذه الآلية ستسهم في دعم التعاون بين بلاده وروسيا وبروسيا باعتبارهم الفريق المحافظ في القارة الأوروبية.

أما بروسيا، فإن خلافاتها مع روسيا أثناء المفاوضات أدت لنشوب صراع مسلح بين الدولتين بسبب عدم التوصل لتسوية مقبولة لإقليم «سكسونيا» وبولندا، فرأت بروسيا قبول الاتفاقية كنوع من التكتيك التفاوضي لتقوية العلاقات مع روسيا، التي لا قبل لها بها عسكريا.

أما باقي الدول، فقد استقبلت الوثيقة بالترحاب واعتبرتها بديلا عن الشرعية الثورية، فسارعت بالانضمام إليها مثلما سارعت الدول عام 1919 للانضمام لعصبة الأمم، التي جسدت مفاهيم جديدة اعتقد معها الجميع أنها أساس الشرعية في النظام العالمي الجديد.

ولكن إنجلترا صاحبة الرصيد والخبرة الطويلة في السياسة أدركت مبكرا مستقبل المبادرة، فرفضت التوقيع عليها، وقد وصفها وزير الخارجية البريطاني «كاسلراه» بأنها «قطعة من الهراء الروحي a piece of mystical nonsense» لاعتقاده بأنها غير قابلة للتوظيف السياسي، فقدم اعتذار بلاده عن التوقيع على هذه الاتفاقية، استنادا إلى أن أسس السياسة البريطانية تمنعها من الانضمام، فلم تكن بريطانيا مقتنعة بجدوى هذه الاتفاقية؛ فسياستها التقليدية كانت تعمل دائما على تفتيت أي إجماع أوروبي، حتى ولو كان محدود الجدوى السياسية.

ولقد أثبت الوقت بُعد النظر البريطاني، فالاتفاقية لم تفعّل في السياسة الأوروبية على مدار السنوات التي تلت توقيعها، ولم تتغير السياسة الأوروبية واستمرت في تبنيها لمعادلات القوة المطلقة والتوازنات الاستراتيجية دون أي اعتبار لمفاهيم «العدل والخير المسيحي والسلام» أو حتى «حماية الدين والسلام والعدالة»، كما ورد في نص الاتفاقية، وذلك ليس بسبب ضعف نوايا الدول الأوروبية في ذلك الوقت، بقدر ما كان نتيجة طبيعية لعدم وجود فكر عملي لهذه الاتفاقية.

وتظل هذه الاتفاقية تمثل درسا سياسيا مهما، فلقد كانت هذه المبادرة فكرة روحية روسية ضالة فرضت المصلحة المؤقتة على الدول تجسيدها في اتفاقية دولية، ولكنها فشلت للأسباب التالية:

أولا: لم تأخذ الاتفاقية في الاعتبار الأسس الحقيقية التي تسير السياسة الدولية؛ فحاولت وضع منظومة قيمية غير مدروسة كبديل أو حتى كعنصر مساند للمصلحة، التي هي محرك العلاقات بين الدول، كما أنها لم تتضمن أي بُعد عملي يضمن تفعيلها السياسي.

ثانيا: إن استخدام البعد الديني في السياسة أمر محفوف بالمخاطر، لأنه يمثل لغة حوار تتغير من دولة لأخرى في ظل الفوران السياسي داخل القارة الأوروبية، وهو ما فتح المجال أمام مشكلات في الاتصال بين الدول حول تطبيق مفاهيم الاتفاقية.

ثالثا: أثبتت التجربة أن تبني أي مبادرة دولية هدفها توحيد رأي مجموعة من الدول حول مبادئ محددة تحكم سياساتها الخارجية لا بد أن تتضمن إطارا تفاعليا، إطار تكون له قاعدة عملية واضحة تستطيع كل الدول التفاعل من خلالها، كتحديد أبعاد محددة تكون ملزمة لكل الدول، وكيفية التعاون فيما بينهما، وعلى أي أسس، ولكن اتفاقية التحالف المقدس لم تقدم أي تعريفات أو أطر لتفعيل المبادئ الواردة بها، مثل «العدل والخير المسيحي والسلام». كما أن التحالف المقدس لم يقدم أي إضافة تذكر للروح المسيحية في القارة الأوروبية، بل العكس هو الصحيح، فإن الساسة الأوروبيين لم يسلكوا طريق مزج الدين بالسياسة مرة أخرى بعد هذه الاتفاقية، وذلك على الرغم من اعتناقهم جميعا الديانة المسيحية، وقناعتهم بأسسها الروحية وبرسالتها الدينية والدنيوية في تحسين حالة الفرد والمجتمع، وذلك لأن العلاقات الخارجية المبنية على أسس لا تأخذ في الاعتبار مصالح الدول.. هي مجرد نتوء يصححه الزمن وتعدل الخبرة والتجربة مساره مع مرور الوقت.

* كاتب مصري