وقفة للتاريخ وضده

د. محمد عبد الستار البدري *

TT

شاركت في مؤتمر حول مستقبل العمل العربي المشترك، فعلقت على عرض قيم لأحد المحاضرين تناول تاريخ العلاقة بين العروبة والإسلام كقوتين فكريتين، وأرجع العلاقة التبادلية بينهما إلى منتصف القرن التاسع عشر، فكان تعليقي منصبا على أن فكرة العروبة كانت موجودة في الجاهلية، وأشرت إلى أن الإسلام جسد العروبة عند إعلان الدولة الإسلامية في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام، لكن التفاعل بين الفكرتين ظل متأرجحا، وبان في أغلبية المناسبات السياسية الحاسمة الخاصة بانتقال السلطة في تاريخ الدولة الإسلامية على مدار قرون من الزمان، مشددا على أن منتصف القرن التاسع عشر يمثل فقط المرحلة الحديثة من هذا التفاعل بين الفكرتين. وعقب المؤتمر فوجئت بشخص أعتز به يقول لي في ما بيننا بنبرة عتاب فكري إننا في الحاضر ونفكر في المستقبل ولا داعي للحديث في التاريخ والماضي الذي لا قيمة له في هذه المرحلة.

حقيقة الأمر أنني أسفت لمحاولة تطليق الحاضر السياسي عن الماضي، فللتاريخ مكانته في كل زمان ومكان، فأغلبية الفلاسفة السياسيين الذين نقلوا لنا الحكمة والعلم أو الساسة نالوا قسطهم من التاريخ، بل إنني أذكر مناقشة بيني وبين المشرف إبان إعداد الدكتوراه، أوضح لي خلالها أن الامتحانات الشاملة قبيل إعداد الرسالة لا بد أن تشمل بشكل إجباري مادة التاريخ السياسي، لأنه لا يمكن أن تُفهم السياسة أو العلاقات الدولية من دون رصيد وفير من الخبرة التاريخية، لأنها المادة الأولية التي نستخلص منها التنظير والتقييم؛ وأيا كانت الآراء فيظل يقيني ثابتا بأن التاريخ عنصر حاسم، ولا أعتقد أن هناك قضية أفضل من العلاقة بين الإسلام والعروبة لندلل بها على هذه المقولة.

إن الانطلاقة الأولى يجب أن تكون التأكيد على أن مفهوم القومية العربية سبق مفهوم القومية الإسلامية لكنه لم يتجسد بالشكل الملحوظ سياسيا، لأنه لم تكن هناك قوة مركزية سياسية تجسد هذه القومية ممثلة في قبيلة أو دولة سائدة، إلا أن مقومات الفكر القومي كان يمكن استشفافها من شعور بمفهوم عربي قبلي مستقل ومنفصل عما هو حوله، مفهوم مرتبط بكينونة منفصلة مربوطة باللغة العربية، وشبكة وثيقة من الأعراف والتقاليد الاجتماعية والدينية والثقافية، مثل الحج والأشهر الحرم وعادات الزواج إلخ.. وهي كلها تخلق القواسم المشتركة التي تميز على الأقل أغلبية من شبه الجزيرة العربية بروح قومية منفصلة عما حولها، وإن كان هذا لم يمنع القبائل من التناحر والإغارة على بعضها بعضا، ناهيك عن عادات الثأر وغيرها من التقاليد، فإن الحقيقة الثابتة هي أن الأعراف القبلية لقريش لم تختلف في مضمونها عن أعراف قبيلة بني بكر أو تميم إلخ..

كذلك فقد كانت هناك مظاهر لهذا الفكر القومي العربي في بعض الوقائع التاريخية، منها يوم ذي قار عندما هنأت القبائل العربية نظيراتها العربية أيضا لسحقها جيش كسرى وهو اليوم الذي خلدته قصيدة الأعشى الشهيرة والتي تضمنت:

«وخيل بكر فما تنفك تطحنهم.. حتى تولوا وكاد اليوم ينتصف لو أن كل معد كان شاركنا.. في يوم ذي قار ما أخطاهم الشرف»..

وقد سبق هذا حدث آخر مماثل ظهرت فيه روح العروبة، فعندما فشلت محاولة أبرهة الحبشي تدمير بيت الله الحرام استغلت العرب هذه المناسبة التاريخية لتهنئة عبد المطلب بن هاشم جد الرسول عليه الصلاة والسلام وزعيم قريش، وهو تجسيد لشعور بالمصير المشترك.

وبدخول الإسلام ظهرت قومية جديدة لمت شمل العرب، قومية فوقية منبعها شريعة الرسول عليه الصلاة والسلام باعتباره همزة الوصل بين الخالق والمخلوق، ولكن بوفاة الرسول بدأت المعادلة القومية تختل، فالعروبة أخذت لنفسها اتجاها والقومية الإسلامية أخذت اتجاها مختلفا، فتجلت ثلاثة توجهات أساسية للقوميتين الإسلامية والعربية، الأول تيار قومي عروبي - إسلامي يدعو لقريش باعتبارها سادة العرب، فحسمت الخلافة في قريش ممثلة في الخلافة الراشدة ومن بعدها الخلافات الأموية والعباسية، وهنا يظل الحكم لقريش (ممثلة العروبة)، ولكن هذه الشرعية لم تكن بلا تحد، فسرعان ما ظهرت قومية إسلامية ممثلة في الخوارج والشيعة، فرأت الفرقة الأولى أن الخلافة حق لأي مسلم تتوافر فيه الشروط وفصلت ذلك عن النبرة القومية العربية، فالانتماء للأمة الإسلامية كفيل بمد أي شخص بالشرعية الكافية، وذلك على حين رأت الشيعة أن الشرعية السياسية للحاكم مستمدة من الانتساب لآل بيت الرسول عليه الصلاة والسلام بأشكال مختلفة، وهنا حسمت الشرعية في النسب الديني.

والحقيقة الثابتة أن تاريخ الدول الإسلامية منذ الخلافة الراشدة وحتى انقضاء الخلافة الإسلامية في بغداد على أيدي المغول، ومن بعدها الخلافة العثمانية، يشتمل على قاسم مشترك وهو اختلافات حول الشرعية والمرجعية السياسية أو الدينية لها بين مؤيد ومعارض، بل إن كثيرا من الحركات السياسية التي نشهدها اليوم جذورها الفكرية في التاريخ الإسلامي. ويلاحظ أيضا أن مرحلة التفاعل الحديث بين التيارين القوميين بدأت بالفعل في منتصف القرن الماضي لأسباب مرجعها ضعف الفكر القومي الإسلامي ممثلا في ضعف الخلافة الإسلامية في إسطنبول حتى زوالها وانسلاخ أغلبية الدول تدريجيا من العباءة الدينية التي ربطتها بالخلافة الإسلامية، فكانت مصر من أوائل من انسلخ عن القومية الإسلامية تدريجيا في مطلع القرن التاسع عشر بعدما صار لها كيانها السياسي والعسكري والثقافي المستقل بعيدا عن الخلافة العثمانية حتى وإن ظلت تحت عباءتها الاسمية فقط، وهو ما يبرر الدور المهم الذي لعبته مصر كمنبر لانطلاقة أو احتضان الفكر القومي العروبي والإسلامي على حد سواء.

والحقيقة الثابتة أيضا هي أن لتاريخ التفاعل بين مفهومي القومية الإسلامية والقومية العربية أو غيرهما أثره المباشر في تحديد ما آلت إليه الأوضاع في الوطن العربي اليوم، فهذا التفاعل كان وسيظل مساهما مهما في حسم قضايا أساسية مثل الهوية والمرجعية السياسية والشرعية، وأنه من العبث ألا نعرف الجذور الفكرية والأبعاد التاريخية للتنافس بين هذه التيارات لأنها تمثل أحد الأركان الأساسية للمنظومة القيمية لأوطاننا، ولهذا التنافس أصوله وفكره في الشيعة والسنة والفكر القومي العربي بفروعه المختلفة، ولو عرفنا أسس هذه التيارات المختلفة لسهلت علينا الاستنارة، ولعرفنا طريق النجاح بدلا من الفرقة والاختلاف، فلو سألت اليوم قوميا عربيا وأحد المنتمين للتيار الإسلامي وآخر ليبراليا لعرفنا أن لكل جذوره الفكرية والآيديولوجية المرتبطة بتاريخ العلاقة بين مفاهيم القومية منذ ما قبل نزول الوحي حتى اليوم، فالأول سيحسم قضية الشرعية في دولة عربية متكاملة مقوماتها العروبة وأنها ستفرض نمط علاقات قوميا، أما المنتمي للتيار الإسلامي فمرجعيته هي الهوية الإسلامية للقطر الذي يقطنه باعتبار الإسلام قومية عليا تعلو على أي مفهوم آيديولوجي آخر، أما الليبرالي فسيؤكد أن الأمة هي مصدر السلطات والهوية ولشعبها أن يختار ما يريد، ويؤكد أن هذا لن يصطدم مع التوجهات الأخرى.

ولو عدنا إلى بداية العهد الأموي وحللنا التيارات السياسية المختلفة فإننا سنجد أن كثيرا منها في حقيقة الأمر هي جذور لأفكار وسياسات نشاهدها اليوم بأشكال مختلفة وتطورات متباينة، بالتالي يصبح من العبث أن نتجاهل البعد التاريخي في صناعة الحاضر وأثره على المستقبل، لا سيما عند وجود أزمة في حسم قضية الشرعية والهوية. لقد كان هذا مجرد مثال لقضية مهمة وحاسمة تعكس أهمية فهم التاريخ واستيعاب دروسه وتياراته الفكرية المختلفة لنتعلم منه ونسترشد به في حاضرنا ومستقبلنا، وهو أمر أعتقد أنه يستحق منا أن نراجع الفكر الداعي للنظر إلى الحاضر بمنظور معزول عن الماضي حتى لا نضل البوصلة الفكرية ونتعلم من الحكمة القائلة «إن التاريخ هو السياسة في الماضي، والسياسة هي حاضر التاريخ».

* كاتب مصري