عقد اجتماعي أم سياسي؟

د. محمد عبد الستار البدري

TT

لقد دأبنا على استخدام مصطلحات عديدة ورثناها عن المفكرين العظماء ولكننا في حقيقة الأمر بدأنا نستخدمها استخداما لا يتمشى والمقصود بها أو في غير محلها، تماما مثل لفظ «الدولة المدنية» والذي لا أساس له في العلوم السياسية، ولكنه أصبح لفظا دارجا له معناه ومغزاه لدى الشعوب العربية في السنوات القليلة الماضية، وهو نفس ما حدث تقريبا لمفهوم العقد الاجتماعي ولكن بشكل مختلف، فاستخدامات هذا المفهوم اليوم تخرجه عن مساره الطبيعي، وهو ما قد يدعو لاستبدال لفظ جديد به مثل «العقد السياسي»، والذي يمثل في التقدير امتدادا طبيعيا له.

لقد استُخدم مفهوم العقد الاجتماعي خلال القرنين السابع والثامن عشر بأساليب مختلفة، وقد كانت هذه الفترة أخصب مراحل تطور الفلسفة السياسية على مر العصور، وكان ذلك أمرا طبيعيا ومتوقعا على ضوء حركات التحرر السياسي في القارة الأوروبية بضغوط من الشعوب لنيل الحريات، فكان هذا سببا في بزوغ عهد التنوير والذي مهد الشعوب والحكام على حد سواء لما هو قادم من حريات، وسواء كانت هذه الحركات سببا أو نتيجة لحركة التاريخ أو الفكر السياسي لهذا الزمن، إلا أنها تركت للبشرية رصيدا عظيما من الفكر والزخم الفلسفي لإقامة المجتمعات الصحية، ومن هذه التركة كان مفهوم العقد الاجتماعي.

يهدف هذا المفهوم النظري أساسا لتنظيم العلاقة السياسية بين الحاكم والمحكوم، وبصفة عامة يرى هذا المفهوم وجود علاقة تعاقدية نظرية بين الطرفين والتي بمقتضاها يقوم المواطن بإخضاع سلطاته لقوة مركزية في الدولة كي تحافظ له على أمنه وتسير له شؤونه من خلال الدولة، وهو بكل تأكيد عقد نظري وهيكل مجازي، وقد استخدم الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز Hobbes هذا المفهوم في بداية الأمر ليكون أساسا للحكم الملكي حيث غلب على الرجل تشاؤمه الواضح الذي لن يخفى على قارئ كتابه المثير «المارد Leviathan»، فرأى أن الإنسان بطبيعته يميل للعنف والفوضى وأنه كان يعيش فيما وصفه بالـ«حالة الطبيعة State of Nature» والتي هي حالة حرب بين الإنسان ونظرائه فكانت الحياة «قبيحة وقاسية وقصيرة»، وبالتالي رأى أن العقد الاجتماعي وسيلة من جانبه ليكون أساسا لحكم قوي يستطيع أن يمنح كل الأشخاص الأمن والطمأنينة، وهو ما استوجب معه تخويل سلطات واسعة النطاق للملك أو الحاكم، وكان هذا الفكر هو الأساس الفلسفي لمفهوم الأنظمة السلطوية، فالمواطن في هذا العقد يتنازل عن حقوقه لصالح الديكتاتور أو «المارد» من وجهة نظره مقابل الحفاظ على حياته وأمنه.

ولكن المفهوم اختلف استخدامه عند الفيلسوف البريطاني جون لوك John Locke قطب الفكر الليبرالي الحديث بعد الفيلسوف الألماني العظيم «إيمانويل كانط»، فرأى لوك أن هذا العقد ما هو إلا نتيجة طبيعية للشرعية التي تُبنى عليها الحكومات، وأن الحكومات يجب أن تكون مبنية على أساس مراعاة الحقوق الفردية وعلى رأسها الملكية الفردية، من ثم وجوب احترام الحكومة لهذه الحقوق، بالتالي فالعقد الاجتماعي ما هو إلا تأكيد لهذه المبادئ وضمان لالتزام الحكومات بهذه القواعد في تنظيم العلاقة بين أفراد الدولة الواحدة، وهي ليست طليقة الأيدي لأن الحكومة تحكم بموافقة الأفراد ومن ثم فهي حَكمٌ فيما بينهم وليست سيفا مسلطا عليهم، وهنا استخدم المفهوم على اعتباره أساسا للفكر الليبرالي.

ولكن سرعان ما استخدم المفكر الفرنسي جان جاك روسو مفهوم العقد الاجتماعي بشكل جديد فبناه على مفهوم أن العقد هو أساس تحرك الأمة من أجل التعبير عن «الرغبة الجماعية General Will» أو السيادة الشعبية، فالفرد عليه أن يذعن ويسلم حقوقه لإرادة الجماهير والتي هي أفضل تعبير عنه وله وتمثل حقوقه هو وباقي المواطنين، وقد استخدمت فلسفته كحجر زاوية للفكر الشمولي المبني على الأيديولوجيات الشعبية من الثورة الفرنسية إلى الفكر الثوري المعاصر، وهو ما أسفر عن ابتلاء الأمم والشعوب بأساس فلسفي ساهم في تضليل الشعوب تحت ما يمكن تسميته حرية الفرد من خلال التعبير الجماعي لها، وهو التعبير الذي تمثله مجموعة منتقاة، وبالتأكيد كانت نخبة شمولية أو قيادة فردية سلطوية ترى في نفسها مسؤولة عن تجسيد الإرادة الجماعية للمجتمعات، وهو ما حدث في الثورة الفرنسية، وقد ارتبطت نظريته على مدار الأزمنة بالثورات حيث استخدمت كأساس لتبرير أعمال العنف الثوري مثلما حدث في فرنسا وروسيا والعالم العربي وأميركا اللاتينية وأفريقيا.

كانت هذه هي النماذج الثلاثة الأساسية لكيفية استخدام مفهوم العقد الاجتماعي والتي مثلت أرضية لثلاثة توجهات مختلفة لأساليب الحكم، ولكن هل ستظل هذه النماذج الثلاثة هي الأركان الأساسية لاستخدام هذا المفهوم؟ ألم تتطور المسيرة الإنسانية ومعها الفكر الدولي في أغلبية مناطق العالم بما فتح المجال أمام تطور هذا المفهوم؟ والإجابة عن هذه الأسئلة ليست بالأمر المعقد، ففي التقدير أن عهد العقد الاجتماعي كركن فلسفي في القاعدة الفكرية السياسية أوشكت صلاحيته على النفاد لأسباب أهمها:

أولا: أن هذا الإطار أصبح نظريا إلى أقصي الحدود، والتجربة الإنسانية دفعت الشعوب والدول لاتخاذ أطر قانونية وشرعية مختلفة عن فكرة تنازل الفرد عن حقوقه لصالح السلطة المركزية، أو أن هذا الأمر أصبح تحصيل حاصل.

ثانيا: أن هناك ثقافة دولية بازغة منذ انتهاء الحرب البادرة تدعو إلى الفكر الليبرالي في إطار مثلث أضلاعه الثلاثة هي الديمقراطية وحقوق الإنسان وآليات السوق الحر، وهذا الفكر جعل من فكرة تسيد الحكومة واستبدادها فكرا شاذا من الماضي.

ثالثا: أن ركنين أساسيين من القواعد الفكرية التي بُني عليها الأساس الفلسفي لمفهوم العقد الاجتماعي قد استُنفد الغرض منهما، فاستخدام المفهوم للترويج لأفكار شمولية أو سلطوية لم يعد مقبولا أو أنه أصبح معيبا إلى أبعد الحدود.

وكنتيجة طبيعية لهذه التطورات فقد بات من الضروري تطوير مفهوم العقد الاجتماعي بشكل جديد ليشمل فكرا جديدا يتناسب مع البيئة البازغة وثقافة الحرية والليبرالية، وهو ما يُحتاج معه لتطوير المفهوم التاريخي ليصبح «عقدا سياسيا» يتضمن أهم ما يلي:

أولا: التأكيد على أن فكرة العقد في حد ذاتها قد تمت بالفعل عند تكوين الدولة ذات السلطة المركزية، ولكن شكل العقد هو الذي لا بد من حسمه، فمن الناحية النظرية فقد تنازلنا جميعا في كل دولة عن بعض حقوقنا، ولكن صياغة شكل العقد النظري هو الذي سيختلف.

ثانيا: اتصالا بما سبق فإن فكرة تنازل الفرد عن حقوقه للصالح العام ليست مطلقة، ولكنها مشروطة ومقرونة بشرعية السلطة التي سيخول لها مسؤولية إدارة الكيان السياسي، وليست على مطلقها مثلما ادعى توماس هوبز أو مثلما التف روسو حول المفهوم الخاص بها، والمقصود هنا أن يكون هذا التخويل على أساس وجود حقوق سياسية غير قابلة للتصرف inalienable rights لا يمكن للمواطن التنازل عنها تحت أي ظرف من الظروف في علاقته بالدولة.

ثالثا: أن العقد السياسي يتضمن الأطر الثابتة التي ستحكم العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وهي المبنية على الأسس الديمقراطية والحقوق الفردية والثقافة الليبرالية، ففكرة استخدام هذا العقد لتبرير أعمال تتنافى والمبادئ الليبرالية أصبح لا مجال لها اليوم في عالم السياسة، وبالتالي فالتنازل هنا مبني على فلسفة حكم الأغلبية المرتبطة بالحقوق الفردية كأساس للحقوق الجماعية، مع ضرورة مراعاة ألا يتم التفاوض مع المواطن أو المجتمع ومقايضتهما للتنازل عن الحقوق مقابل فكرة الأمن الفردي أو صيانة أمن المجتمع من خلال خفض أسقف هذه الحقوق أو إبطالها.

قد يرى البعض أن المجتمعات ليست بحاجة لعقد سياسي لأن العقد الاجتماعي موجود، ولكن نظرا لأهمية الفكر السياسي في صناعة الشرعية لأي نظام، فإن فكرة العقد السياسي أصبحت ضرورة ملحة للدول المتحولة نحو الديمقراطية حتى يكون العقد النظري بين المواطن والدولة له شكله وقواعده وبنوده القانونية التي يجب أن لا تتغير تحت وطأة الظروف الاستثنائية، إذ إن الاستثناء في الديمقراطية هو القاعدة المؤدية للديكتاتورية.

* كاتب مصري