حكاية المرأة السعودية

حاضرة ومؤثرة دائما.. منذ ما قبل الإسلام وصولا إلى العصر الحديث

TT

موضوع المرأة السعودية، المرأة في مجتمعاتنا الخليجية ذات المكون الثقافي الإسلامي والاجتماعي المحافظ القائم على تقاليد القرية والعشيرة وهيمنة الاسم العائلي الذي يحكم كل أفراد العائلة ويلقي عليهم ثقل الاسم، هو موضوع شائك ولكنه مزدحم بالأوهام التي يرددها بعضنا دون تبصر ولا تفحص تاريخي أو مراقبة واعية للتحولات الاجتماعية والاقتصادية الضخمة التي ألمت بالمجتمعات الخليجية، والمرأة منها، وهي تحولات تستوجب مقاربات أكثر رشاقة ودقة، تفكك ألغام الأوهام حول دور المرأة وصورتها، كما تزيل الحواجز السرابية التي أفلح الخطاب المتوتر في إحاطة موضوع المرأة بها.

المرأة قبل الإسلام

* كانت امرأة الجزيرة العربية قبل الإسلام ذات حضور متعدد في المتن الاجتماعي والثقافة الحاكمة، فهي من جهة كانت «تتمتع بالحرية التي يتمتع بها الرجل في مجتمع بلا دولة ولا شريعة، لكن حقوقها كانت قليلة، وكانت الجنسوية تحكم عادة الجنسين: التحيز ضد الأنثى العاجزة عن فرض المساواة مع نمو النظام الأبوي وتراجع سلطتها (بسبب، كما يرى بعض المختصين، انهيار النظام الأمومي السحيق في الجزيرة العربية الذي بقيت منه بعض البقايا في صورة عادات متسللة من ذلك العهد، مثل حق المرأة في تعديد الرجال كما يتبين من صيغة نكاح الاستبضاع الذي أشارت إليه أحاديث صحيحة عن أنكحة الجاهلية، وكما تشي بذلك الأسماء الأنثوية للآلهة الجاهلية)، وقد تعقدت كراهية الأنثى بتأثير حالة الغزو السائد في المجتمع الجاهلي بما عكسه القرآن في الآية: «وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (59)». سورة النحل. (هادي العلوي - فصول عن المرأة - دار الكنوز الأدبية ص 18).

امرأة الجزيرة العربية في الجاهلية، رغم الحيف الذي وقع عليها في قضايا الميراث والزيجات، كان لها حضور بارز في الشعر والكهانة، وكانت ذات دور مؤثر في الحروب، ومن ظريف ما يروى أن الصاحب بن عباد لما وفد عليه العالم أبو بكر الخوارزمي واستأذن بالدخول، قال الصاحب للحاجب: قل له لا نأذن إلا لمن يحفظ عشرين ألف بيت من شعر العرب (ويقصد مرحلة ما قبل الإسلام وصدر الإسلام طبعا)، فقال الخوارزمي للحاجب: قل له من شعر الرجال أم من شعر النساء! لكن حضور المرأة العربية لم يقتصر على هذه الصورة، فنحن نرى من نساء العرب خارج حدود الصحراء العربية من بلغن شأوا عظيما، وصل ذروته مع الملكة العربية الزباء، أو زينب كما تسميها بعض المصادر العربية (العلوي ص24)، التي أقامت أول مملكة عربية انطلاقا من جنوب سوريا في تدمر ليمتد سلطانها من الفرات إلى البحر المتوسط ومن صحراء العرب في الجزيرة إلى آسيا الصغرى، وتحالفت معها قبائل عربية ضد حكم الرومان، وكانت تتقن عدة لغات سامية كما تتقن القبطية واليونانية، لكنها هُزمت آخر الأمر على يد الإمبراطور الروماني أورليانوس، ودامت مملكتها 17 عاما.

المرأة في الإسلام

* جاء الإسلام فكان ثورة شاملة بكل المقاييس، وكان من ضمن مجالات هذه الثورة المرأة، حتى إن الخليفة الراشدي الثاني عمر بن الخطاب كان يقول: «والله إن كنا في الجاهلية ما نعد للنساء أمرا حتى أنزل الله فيهن ما أنزل وقسم لهن ما قسم». (صحيح البخاري - 4629). ووضع الإسلام حدا للاستكثار من الزوجات أكثر من أربع نساء، بينما الحال لدى عرب الجاهلية أن يعدد الرجل ما يشاء من الزوجات، ومما يرد في السنة النبوية أن غيلان بن سلمة الثقفي أسلم وتحته عشر نسوة، فقال له النبي (ص): «اختر منهن أربعا» (رواه أحمد في المسند ج2، ص13، وابن ماجة في سننه ج1، ص628).

ونهى الإسلام عن تزويج البكر بغير إذنها والثيب بغير أمرها، وساوى الخطاب القرآني بين الذكر والأنثى إلا في أحكام معينة، وكانت الصيغة دوما ترد بـ«المؤمنين والمؤمنات» والصابرين والصابرات، وتنص الآية القرآنية صراحة «فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ مِّن ذَكَرٍ أو أُنْثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ» (195 - سورة آل عمران).

وغزت النساء في جل غزوات الإسلام وكان لهن دور بارز في الرأي السياسي، كما فعلت أم المؤمنين أم سلمة حينما أشارت على النبي (ص) في صلح الحديبية. وكان النبي (ص) يسلم على النساء في الطرقات، ويخطب فيهن بالأعياد، بل ويعتاد بيوت أصحابه بحضور النساء. والمجال لا يتسع لسرد الوقائع والمرويات الكثيرة في هذا الصدد، ويكفي الاطلاع على موسوعة العلامة الأزهري المرحوم عبد الحليم أبو شقة (تحرير المرأة في عصر الرسالة) لنرى صورة للمرأة في العهد النبوي تختلف كليا عن الصورة التي يريد الأصوليون وأنصارهم، من بعض جهلة السياسة والإعلام، رسمها للمرأة المسلمة الآن واحتكارها داخل أسوار هذه الصورة الوهمية. فالمرأة، وفق كتاب الشيخ أبو شقة الحافل بعشرات وعشرات من الأحاديث والروايات ونصوص الفقهاء، امرأة موجودة في الحياة العامة، تختلط في كل شيء بشرط الحشمة وعدم الخضوع بالقول، وبشرط عدم الخلوة، فقط هذه الشروط الثلاثة هي الواضحة من مجمل النصوص الغزيرة التي دونها الشيخ أبو شقة.

بماذا يجادل أعداء حقوق المرأة المسلمة الحاليون إذن؟! يجادلون بالتأويل والاحتيال، فهم يفرغون هذه الوقائع والمرويات من محتواها حينما يتدخلون في التأويل والتفسير، وهذا الأمر قديم، أعني إفراغ نصوص العهد الإسلامي الأول ومروياته عن واقع المرأة، فتجد من يتجرأ بكل وضوح على القول بأن ذلك خاص بنساء العهد النبوي الذي كانت الفضيلة شائعة فيه، وهنا نرى عالما من علماء القرن الثالث الهجري يقول لنا: «أَذِن رسول الله للنساء في حضور المسجد، والصواب الآن المنع إلا للعجائز»! (أبو حامد الغزالي - إحياء علوم الدين - كتاب النكاح. انظر العلوي في كتابه عن المرأة ص33).

المرأة كانت حاضرة في متن الحياة السياسية في عهد الصحابة والدولة الأموية، وحاضرة في الفقه والأدب، فهذه الخنساء أشهر شاعرة عربية تقول القصائد الغرر ويتناقلها الرواة والصحابة يملأون الأرض، والنساء يقمن بأدوار بارزة في معسكر علي بن أبي طالب ويلقين الخطب العصماء للتحريض مثل الزرقاء بنت عدي وبكارة الهلالية وأم الخير البارقية وسودة بنت عمارة، كما ينقل عنها ابن طيفور في كتابه بلاغات النساء، بل وتفد إحداهن، وهي سودة بنت عمارة الهمدانية، إلى معاوية بعد أن دالت الأمور إليه وتجادله وتلح في المطالبة بحقوق قومها ورفع الحيف عنهم وعزل الوالي الغشوم بسر بن أرطاة عنهم، أي أنها كانت «سفيرة» قومها إلى الخليفة.

لوحة المرأة المسلمة من العصور الوسطى

* ويشير العلوي في كتابه الشيق إلى أنه قد وصلت إلينا لوحة للرسام يحيى الواسطي من القرن السابع تصور امرأة وهي تلقي دروسا على الرجال، وهي مكشوفة الوجه محجبة الشعر.

ويحدثنا التاريخ وكتب التراجم عن عشرات الفقيهات والمحدثات اللواتي كان لهن إسهام واضح في تكوين المتون الفقهية والحديثية والمكتبة الصوفية أيضا مثل رابعة العدوية ومثل المحدثة الشهيرة كريمة المروزية التي تعتبر نسختها لصحيح البخاري من أصح النسخ، ويحدثنا التاريخ كما يروي بفخر الأستاذ محمود السعدني في كتابه عن «مصر من تاني»، والكاتبة والباحثة المصرية المتميز سناء البيسي، عن السيدة نفيسة التي أحبها أهل مصر حتى إنهم طلبوا من زوجها عدم العودة إلى الحجاز، وكانت مقصدا للمظاليم والضعفاء وشاركت بفعالية في الثورة ضد الوالي الغشوم هي والإمام الشافعي أثناء حكم المأمون العباسي، وقد أوصى الشافعي بأن تصلي عليه نفيسة إذا توفي. ويحدثنا التاريخ أيضا عن فاطمة بنت الأقرع التي كانت خطاطة مشهورة كتبت بيدها وثيقة الهدنة بين المسلمين والروم، وتوفيت عام 480 هـ.

يحدثنا التاريخ أيضا عن المرأة الداهية التي حكمت مصر ثلاثة أشهر وخلصت البلد من أزمة خطيرة بعد وفاة زوجها والعدو الصليبي يهدد مصر، وهي شجرة الدر التي دبرت الحرب والسياسة فكانت أعجوبة لم تتكرر، إلا بعد قرون وفي كبد الجزيرة العربية على يد البطلة البدوية غالية البقمية أو غالية «الوهابية» كما تسميها المصادر الأجنبية، وهي التي ساهمت في صد حملات جيش محمد علي باشا مهزوما على مشارف بلدتها تربة.

المرأة في الخليج والجزيرة العربية

* المرأة في الخليج اليوم لا تفعل شيئا جديدا ومبتكرا إن هي نشطت في الشأن العام أو حصلت تعليما أو حتى شاركت بأدب وفن وثقافة، فجدتها الخليجية من البحر الأحمر إلى الخليج العربي ومن بحر عمان وخليج عدن إلى سهول الشام وبطائح العراق كانت فاعلة وليست سلبية، صحيح أنها كانت تفعل ذلك بطريقتها ولغة عصرها، إلا أنها لم تكن قط كائنا سليب الإرادة والهمة والفعل.

وتحدثنا الدكتورة السعودية دلال الحربي في كتابها الجميل «نساء شهيرات من نجد»، الذي أصدرته دارة الملك عبد العزيز عن اثنتين وخمسين امرأة من اللاتي عشن في نجد في الفترات السابقة وكان لهن تأثير في مجتمعاتهن في تلك الفترات، وتقتصر حدود هذا الكتاب مكانيا على منطقة نجد، وزمانيا على الفترة ما بين بداية القرن الثاني عشر الهجري (الثامن عشر الميلادي) ووفاة الملك عبد العزيز عام 1373هـ. وقد اعتمدت المؤلفة على مصادر متنوعة في جمع مادة هذا الكتاب، وهي: الكتب والمقالات المنشورة، والمحفوظات، والوثائق، بالإضافة إلى الروايات الشفهية التي كان لها دور كبير في إثراء مادة هذا الكتاب (كما في تعريف الدارة بكتاب المؤلفة).

وقد قرأت عن سيدات قمن بأدوار عامة مميزة في عمق المجتمع النجدي، فمنهن من أشرفت على وقف الكتب على طلبة العلم، ومنهن من شاركت في التدبير السياسي وصناعة القرار، ومنهن من فتحت بيتها للأسرى وساهمت بمالها في علاج المجاعات العامة، ولن أذكر أسماء محددة، لكن الكتاب جدير بالقراءة حتى نطلع على صورة حية ونشطة للمرأة ابنة وسط الجزيرة العربية في تلك الأوقات.

مثلا، كانت السيدة موضي بنت وهطان، زوجة الإمام محمد بن سعود، مؤسس الدولة السعودية الأولى (توفي عام 1179 هـ- 1765م)، ذات رأي مؤثر في تشجيع زوجها على احتضان الشيخ محمد بن عبد الوهاب وانطلاقة الدعوة والدولة، كما يذكر المؤرخ الأشهر عثمان بن بشر في كتابه «عنوان المجد في تاريخ نجد».

المرأة السعودية في العصور الحديثة

* في السعودية تبدو الصورة مركبة وغنية نوعا ما، فنحن نتحدث عن بلد شاسع يتكون من أقاليم كبيرة وفيه تعددية ثقافية واجتماعية خصبة، عكس ما يتوهم الغرباء عن الصورة السعودية الصماء. يكفي أن نعلم أن رجلا مثل الأديب أحمد السباعي كتب مقالا بعنوان «الأدب النسوي في الحجاز»، في جريدة «صوت الحجاز» في الـ21 مايو (أيار) 1934 عن أديبة آثرت إخفاء اسمها، وهي تحمل الكثير من العلم والثقافة، ويقول على لسانها إن هذه السيدة المثقفة سألت نفسها بعدما نهلت من الكتب وقفز وعيها فتقول: «لا أدري ماذا عن بني وبنات جنسي؟ أيسمونني شاذة ويصمونني بالخروج ما دمت أحتفظ برأي الحجاب على أن تتعلم المرأة؟».

وفي نفس العدد يكتب السباعي ردا على رئيس تحرير «صوت الحجاز» محمد علي رضا، الذي كان ضد فتح مدارس للبنات بدعوى أن بيت المرأة أصون لها، وحجة السباعي أن تعليم المرأة ليس مدعاة لفسادها، ويخرج السباعي كتابه «وحي الصحراء» سنة 1936 حاويا مجموعة مقالات له، ومنها مقال بعنوان: «حاجتنا إلى تعليم البنات». وقبله يكتب محمد راسم مقالة في «صوت الحجاز» 1933، مؤيدا حق المرأة في التعلم ومشجعا عليه خاتما بقوله: «أين هي حياة العلم من حياة الجهل؟».

وفي جريدة «أخبار الظهران» التي كانت تصدر من شرق السعودية نجد الأديب والمثقف السعودي عبد الكريم الجهيمان يكتب مقالا سنة 1955 بعنوان «نصفنا الآخر»، نشره وقتها باسم مستعار هو البصير، ثم عاد بعد سنوات ونشره باسمه الصريح وسبب له هذا المقال مشكلات معروفة، ومما جاء فيه: «لا نزال نرى كثيرا من مواطنينا يتهيبون تعليم بناتهم ويذهبون في تهيبهم هذا إلى حالات هي أقرب إلى الخيال منها إلى الحقيقة، ويتركون بناتهم أشبه ما تكون بالببغاء». ومثله كتب الأستاذ سعد البواردي في العدد السادس من مجلته «مجلة الإشعاع» التي كانت تصدر من الأخبار وأسسها هو عام 1956.

وفي إقليم نجد أصوات قوية في معركة تعليم البنات، واللافت أن الأصوات الصادحة هذه بحق المرأة في التعليم كانت موقعة بأسماء بنات وسيدات، فنجدها موقعة من قبل «لجنة الأدب والتأليف لطالبات المدرسة السعودية بآل سويلم (حي قديم في الرياض) نشرنه في جريدة «القصيم» التي يحوي أرشيفها سجلا ناصعا لمعركة تعليم البنات في السعودية، تلك الطالبات نشرن مقالهن في زاوية «حواء تتكلم»، في العدد الـ21 سنة 1960 يؤيدن الملك سعود في سياسته حول تعليم البنات التي لاقت معارضة من قبل المحافظين ويلقبنه بملك الديمقراطية. ويرد مقال في جريدة «القصيم» في العدد الـ107 سنة 1962 للشاعرة والكاتبة سارة أبو حيمد بعنوان «لا تمنعوا العلم عن فتياتكم».

معركة تعليم البنات التي خاضها الملك سعود بداية، ثم الملك فيصل بكل قوة وتصميم، كانت معركة شرسة تجاه أعداء التطور، والمفارقة أن كثيرا ممن كانوا أبرز المعارضين درست بناتهم ودرسن في سلك التعليم لاحقا، وكان للمرأة السعودية ومعها شقيقها الرجل صوت رفيع في هذه المعركة، من هذه الأصوات سيدات مثل شريفة الدرعان وجيهان الأموي وجوهرة المعمر وحصة الدبيخي وحصة السدحان وسارة أبو حيمد وأسيمة درويش وهدى الدباغ ونوال اسقاف وغيرهن (للتوسع ينظر بحث محمد عبد الرزاق القشعمي في كتاب «حقول الخامس». وأيضا كتاب «فتنة القول بتعليم البنات» لعبد الله الوشمي).

معركة تعليم البنات هي أبرز محطات المرأة السعودية التي تم خوضها بجرأة، وتعتبر مكسبا ثابتا للمرأة اخترق حواجز التشدد والثقافة الانغلاقية وتم بدعم سياسي واضح. ويجب هنا تذكر سيدة عظيمة كان لها دور أساسي في معركة تعليم البنات، وهي الأميرة عفت زوجة الملك فيصل، فقد كانت هذه السيدة العاقلة مؤمنة أشد الإيمان بأهمية تعليم الفتاة والارتقاء بالمرأة، وهي بحق رائدة تعليم البنات، تذكر عنها إحدى السيدات اللواتي عملن مع الأميرة عفت في بداية تعليم البنات، وهي مديرة «دار الحنان» سيسيل رشدي، و«دار الحنان» مدرسة بنات أسستها عفت، ثم أدارتها الأستاذة سيسل رشدي. وتحدثت سيسيل مؤخرا ضمن فعاليات معرض الفيصل شاهدا وشهيدا، في مدينة جدة، عن رحلتها مع «دار الحنان» بعد تخرجها من الجامعة الأميركية بمصر. فحين جاءت المملكة جمعتها الصدفة بالأميرة عفت الثنيان، حرم ولي العهد (آنذاك) الأمير فيصل بن عبد العزيز، وأقامت معها لعشر سنوات. وولدت في ذلك الحين فكرة الأميرة عفت بتأسيس دار لرعاية وتدريس اليتيمات والمحتاجات، فتأسست مدارس «دار الحنان» عام 1955م - 1375هـ. وقد تولت الإدارة مفيدة الدباغ ثم سيسيل رشدي.

وكان نجاح مدارس «دار الحنان»، كما تقول سيسيل رشدي، خطوة شجعت الدولة على إنشاء مدارس البنات الحكومية. وكشفت سيسيل أنه طالما حلمت الأميرة عفت بأن تمضي مع آمال طالباتها إلى المرحلة الجامعية، وتجسد حلمها في ما بعد في مشروع «كلية عفت» التي سعدت بقيامها قبل وفاتها.

وهذا الأمر الأخير حول حلم الأميرة عفت بإنشاء كلية أو جامعة للبنات، ولنا أن نستذكر الوقت والظرف الذي كانت عفت تحلم فيه بهذا الحلم الجميل، هذا الحلم أشارت إليه أيضا إحدى الكاتبات السعوديات، وهي جهير المساعد التي كتبت في «عكاظ» بتاريخ الـ13 من مايو 2009 تشير في أول حديث صحافي مع الأميرة عفت، التي سمتها أُمّ كل البنات السعوديات، وكان الحديث بتاريخ 22 - 4 - 1396 هـ، إلى أن عفت قالت لها بالحرف الواحد: «أتمنى أن أراك أنت وأخواتك السعوديات في جامعة للبنات».

لقد كانت قضية تعليم البنات تعليما نظاميا ملحمة مثيرة بكل فصولها في السعودية، وقطعت الفتاة السعودية مشوارا طويلا من فتح مدرسة في بريدة أو الزلفى بحماية القوات الأمنية، إلى افتتاح جامعة كبرى للبنات، يقرر الملك عبد الله بن عبد العزيز تغيير اسمها في اللحظات الأخيرة من جامعة الملك عبد الله إلى جامعة الأميرة نورة بنت عبد الرحمن للبنات، تقديرا لقيمة ودور شقيقة المؤسس العظيم الملك عبد العزيز التي كانت سيدة قوية ومؤثرة في أكثر من مجال.

ولكن بعد هذه المعركة الضخمة لم يحدث تحول كبير في مسيرة المرأة، صحيح أنه تم إنشاء جمعيات نسائية مثل «جمعية النهضة» التي قامت عليها حرم الملك فيصل الأميرة عفت، ثم بناتها من بعدها مع بعض الأميرات والسيدات السعوديات، إلا أن أنشطة هذه الجمعيات ظلت مقتصرة على العمل الخيري العام، ولم تخرج عن هذا الإطار كما تخبر كاتب هذه الورقة إحدى السيدات السعوديات الخبيرات في الجمعيات النسائية.

ظلت مسألة المرأة خامدة حتى اشتعلت مرة أخرى بعد قيام نحو 47 سيدة سعودية من المثقفات والناشطات في 6 نوفمبر (تشرين الثاني) 1990 في أجواء حرب الخليج الثانية بقيادة سياراتهن في شوارع الرياض واختراق المنع العرفي المفروض عليهن، وحينها اندلعت معركة فكرية وإعلامية واجتماعية كبرى أعادت طرح مسألة المرأة ودورها مجددا، ثم هدأت المسألة عدة سنين بفعل عوادي الأحداث الكبرى.

في عهد الملك عبد الله بن عبد العزيز الحالي شهدت مسيرة المرأة السعودية خطوات كبيرة للأمام، بعد أن أبدى الملك عبد الله جملة من الخطوات المنفتحة على حقوق المرأة، وكان لافتا الاستقبال العلني لمجموعة من المثقفات والأكاديميات والتربويات في ديوان الملك والاستماع إليهن، ثم شاركت المرأة بفعالية في جولات الحوار الوطني، وأخذ الملك عبد الله معه وفدا نسائيا من ذوات الخبرة أثناء جولته الآسيوية، وكانت الذروة في تعيين الملك عبد الله لأول امرأة في منصب نائب وزير، ثم كانت البصمة الملكية الكبرى حينما دشن الملك عبد الله في مجلس الشورى في خطابه الملكي الأخير مرحلة جديدة في حقوق المرأة السعودية بمنحها الحق في عضوية مجلس الشورى، والحق في التصويت والترشح للمجلس البلدي، وخوض الانتخابات.

وأخيرا، فإن المسؤولية الرئيسية في مسألة تمكين المرأة تقع على عاتق المرأة نفسها، وبدعم من الرجل، ففي تصدي المرأة لقضيتها ما يتيح قوة للقضية نفسها، فإن «لصاحب الحق لسانا» كما يقال، ومن هنا اكتسبت قضية المرأة في مصر أو بلاد الشام قوتها بسبب تصدي رائدات لها وبدعم من الوسط الثقافي المستنير، ويجب أن تدرك المرأة أن أعداءها في هذه المعركة لن يكونوا من الرجال فقط، بل ربما تكون عداوة النساء أكثر وأشد ضراوة.

كما يجب الحذر في قضية المرأة من ربطها بأجندة خارجية، لأن هذه الصورة هي ما يسعى أعداء قضيتها إلى تكريسه عبر ربط حقوق المرأة بالتغريب والغزو الفكري الخارجي، رغم أن قضية المرأة أقدم من ذلك بكثير، ولذلك كان لافتا التصريح الإيجابي لوزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل عندما قال في مؤتمر صحافي له مع وزير الخارجية الهولندي: «إن قضية حقوق الإنسان عندنا هي جزء من ثقافتنا وديننا وتراثنا، ونحن مؤمنون بها، لا على سبيل المجاملة للغرب، بل لأن ذلك من مقتضيات ديننا».

ثم هذا الحراك اللافت الذي نراه في ميدان قضية المرأة بالسعودية في عهد الملك عبد الله الذي عيّن امرأة نائبة لوزير، وفعّل حضور المرأة والتقى ببنات وسيدات الوطن في شتى المجالات، وآخرها لقاؤه بزميلات الطب السعوديات والتقاطه الصور العامة معهن، وتصريحاته الإيجابية حول إيمانه العميق بحقوقها ودعمه لهذه الحقوق، ثم تصريحات النائب الثاني ووزير الداخلية الأمير نايف الذي قال أثناء لقائه بمنسوبات وطالبات جامعة الأميرة نورة بنت عبد الرحمن إن مواقع العمل في البلد تنتظر المرأة السعودية.

وبعد.. ما يحصل من تقدم للمرأة السعودية في كل الميادين على رافعة القرار السياسي السيادي، إنما هو امتداد لمسيرة امرأة الأمس، وتفاعل قرار الأمس السياسي مع قرار اليوم.

لا فصل، بل هو وصل للأيام ودرب للأحلام...