قصة خطاب شغل العالم

أعاد قضية فلسطين لحاضنتها الطبيعية.. ورفع منزلة أبو مازن

الرئيس الفلسطيني محمود عباس (ا.ب)
TT

إنها قصة خطاب شغل العالم وأقامه ولم يقعده، من قبل إلقائه ومن بعده.. خطاب انتظره الملايين في الوطن والشتات، وشخصوا إلى سماعه باحثين عن بصيص أمل يعيد إليهم ثقة بالنفس فقدت منذ زمن بعيد، وقضية تنتظر استرداد زمام المبادرة فيها وتصويب مسارها بعد أكثر من عشرين سنة ضياع.

إنه خطاب الرئيس الفلسطيني محمود عباس (أبو مازن) أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة الذي استبقه بتقديم طلب العضوية الكاملة لدولة فلسطين في المنظومة الدولية، رغم الرفض الأميركي المطلق والتهديد المعلن باستخدام حق النقض (الفيتو) وهو ما يتنافى مع الأعراف الدبلوماسية، ومعارضة بعض الدول العربية المبطنة التي لم تستسغ فكرة الدخول في مواجهة وتحد مع الولايات المتحدة.

الخطاب أعاد القضية الفلسطينية وبقوة مجددا إلى المسرح العالمي وإلى حاضنتها الطبيعية ومسارها الصحيح، إلى الأمم المتحدة التي كان قرارها (181) بتقسيم فلسطين سببا فيها، وذلك بعد سنوات طوال من الاستفراد الأميركي الإسرائيلي بها.

الخطاب أذهل الفلسطينيين فصائل ومواطنين، قبل أن يفاجئ العرب وبقية العالم من ورائهم، بلغته التي غابت أو غيبت في زمن الهيمنة الأميركية والعربدة الإسرائيلية، وبجرأته ووضوحه وحزمه صرامته وتحديه.. أعاد فيها أبو مازن إليهم، الثقة إلى النفس وأثار فيهم الحمية التي انطفأت لبعض الوقت.

الخطاب عبر عما يجول في نفس كل فلسطيني وعربي.. برفضه صراحة وبوضوح الظلم الأميركي والطغيان الإسرائيلي.. وتعريفه بمعاناة الشعب الفلسطينية وتأكيده بحزم حقه في الحصول على دولته والاعتراف بها وفق قرارات الشرعية الدولية التي تأبى الولايات المتحدة تطبيقها عندما يتعلق الأمر بطفلها المدلل إسرائيل، وتسارع إلى تطبيقها إذا ما كانت ضد العرب.

جاء الخطاب مفصليا.. فاختار الانحياز إلى الشعب وقضيته على الانصياع للضغوط والتهديدات الأميركية التي خرجت حتى عن الأعراف الدبلوماسية. فجاء الانحياز إلى الشعب والقضية بامتياز يشهد له العالم أجمع.. وحفاوة الاستقبال من الجماهير العطشى في الأراضي المحتلة.. وحتى الخصوم السياسيون ممثلون بحركة حماس ما كان أمامهم سوى الاعتراف بذلك فخرج رئيس المكتب السياسي للحركة خالد مشعل ومن طهران يقول إن تحدي الولايات المتحدة والوقوف في وجهها أمر يحتسب له.

الخطاب أعاد أبو مازن إلى المعادلة ورفع من منزلته فلسطينيا وعربيا وحتى عالميا، بعدما كانوا قد نفضوا الأيادي منه وتوقعوا له نهاية سياسية سيئة.

والأمثلة على ذلك عديدة اذكر منها واحدا فقط على سبيل المثال لا الحصر.. قبل يوم من إلقاء الخطاب خرج مسؤول فلسطيني يتمشى في شوارع نيويورك.. فدخل محلا للملابس الرجالية.. وكان صاحب المحل مغربيا.. أعجب المسؤول بإحدى البدل المعروضة ولكنه لم يشترها، واعدا صاحب المحل بالعودة إليه في اليوم التالي. وبالفعل وبعد الانتهاء من هموم الخطاب والاستقبال الحافل الذي استقبل به سواء داخل أروقة الأمم المتحدة أو في فلسطين والعالم العربي، وقبل ساعتين على انطلاق الموكب إلى مطار جون كيندي العسكري، قرر ذاك المسؤول أن يعود إلى نفس المحل لشراء البدلة. وبالفعل وصل إلى المحل وطلب من صاحبه تجريبها مرة أخرى.. وقرر شراءها رغم حاجتها إلى بعض التعديلات الطفيفة التي قال لصاحب المحل إنه سيفعل ذلك عندما يعود إلى رام الله. غير أن صاحب المحل رفض الفكرة رفضا قاطعا وأصر على أن يعمل التعديلات الضرورية عليها في أسرع وقت ممكن.. في هذه الأثناء عرض عليه أن يختار قميصا ورغم رفض المسؤول بالتأكيد أن لديه الكثير من القمصان فإن صاحب المحل أصر على اختيار واحد له.. وانتقل فيما بعد إلى ربطات العنق وأصر على اختيار واحدة تليق بالبدلة غير آبه بمعارضة المسؤول.. وبعد أن أحضر له البدلة والقميص وربطة العنق سأل المسؤول عن الثمن الذي سيدفعه له.. فرد صاحب المحل وابتسامة عريضة على وجهه.. «هذه هدية مني لك علشان خطاب أبو مازن الذي رفع رؤوسنا».

ولكن لكي يصل هذا الخطاب إلى صيغته النهائية التي خاطب فيها أبو مازن العالم، من على منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة ظهيرة يوم الجمعة الموافق 23 سبتمبر (أيلول) الماضي، مر في مراحل عدة وفي حالات مخاض عديدة وعمليات ميلاد عسيرة وساعات طويلة من العمل والنقاش والجدل شارك فيها العشرات من المسؤولين. فلم يكتب هذا الخطاب.. التاريخي بجدارة، الذي سبب الأرق لأبو مازن عشية إلقائه فطير النوم من عينه كما قال لـ«الشرق الأوسط» بعد سويعات من إلقاء الخطاب، بين ليلة وضحاها، ولا يستطيع شخص بعينه الزعم بأنه كاتبه.. كما هي حال خطابات زعماء العالم الذين يعينون شخصا يحمل لقب «كاتب الخطابات». لقد جاء هذه الخطاب بحلته النهائية عصارة جهود جبارة ساهم فيها العشرات من المسؤولين المقربين المتمرسين سياسيا ولغويا.

واستغرقت صياغة هذا الخطاب في حلته الأولى ساعات طوالا، وشاركت فيها حلقة ضيقة فقط من المقربين من الرئيس، التي بنت على ركائز أساسية للخطاب، وضعها بنفسه أبو مازن وهو الرجل الحقوقي والحامل لشهادة الدكتوراه في العلاقات الدولية المحب للمطالعة والشعر واللغة العربية. وحسب ما علمت «الشرق الأوسط» فإن من بين الذين شاركوا في وضع الصيغة الأولى للخطاب قبل أيام عديدة من السفر إلى نيويورك:

- أكرم هنية رئيس تحرير صحيفة «الأيام» الصادرة في رام الله، الذي يوصف برجل الظل المقل في الكلام ويتجنب الظهور في وسائل الإعلام. ولكنه المرافق الدائم لأبو مازن في كل رحلاته إلى الولايات المتحدة فقط. وكان على متن الطائرة التي أقلتنا مع الرئيس أبو مازن في رحلته الأخيرة، وظل يشارك في التعديلات حتى اللحظة الأخيرة التي سبقت إلقاء الخطاب.

- محمد شتية عضو اللجنة المركزية لحركة فتح والمقرب من أبو مازن الذي أدار حملته في انتخابات الرئاسة عام 2005.. ورافق أيضا أبو مازن إلى نيويورك.

- قيس عبد الكريم (أبو ليلى) أرفع قادة الجبهة الديمقراطية في الأراضي الفلسطينية. وهو عراقي الأصل دخل الضفة بعد اتفاقات أوسلو.

- نمر حماد المستشار السياسي لأبو مازن الذي عمل سفيرا لفلسطين لدى إيطاليا إلى أن أحيل إلى التقاعد بعد تولي أبو مازن الرئاسة.

يضاف إلى هؤلاء مجموعة أخرى من السياسيين والقانونيين، عملت من وراء الكواليس، حتى استقر الأمر على صيغة الخطاب الأولى التي حملها الرئيس معه في رحلته إلى نيويورك ورافقه فيها مجموعة من المساعدين والمسؤولين الذين قضوا ساعات الرحلة التي استغرقت نحو 14 ساعة مع التوقف في مطار شنون في العاصمة الايرلندية دبلن، للتزود بالوقود، وهم يضيفون ويحذفون ويعدلون.. يقرأون كل فقرة ويتعاملون مع كل كلمة معنى وموقعا. لقد كانت الأجواء في الطائرة كخلية نحل لم تتوقف فيها عجلة العمل قط، خاصة عندما يختلط الليل بالنهار.

ولم تتوقف التعديلات والتغييرات على الخطاب التي تجاوزت عشرات المرات، مع توقف محرك الطائرة الرئاسية في مطار جون كيندي في نيويورك، في الساعة العاشرة والنصف مساء حسب توقيت نيويورك (الثانية والنصف صباحا حسب غرينتش)، فتواصلت على مدى الأيام والليالي الأربع، وحتى اللحظات الأخيرة.

وكان عبء تطبيق التعديلات على جهاز الكومبيوتر، يقع على كاهل حسين حسين مدير مراسم الرئيس، الذي كان يعمل بصمت شديد ويطبع الخطاب بعد التعديلات.. ثم ينفذ مزيدا من التعديلات ويعيد طباعة الخطاب وتوزيعه على المسؤولين.. وظل الأمر كذلك حتى قبيل موعد الخطاب.

وشارك في التعديلات المسؤولون السبعة الذين رافقوا الرئيس وهم إضافة إلى هنية وشتية وعبد الكريم..

- صائب عريقات رئيس دائرة المفاوضات في منظمة التحرير الفلسطينية وعضو مركزية فتح.

- عزام الأحمد (مركزية فتح).

- نبيل شعث (مركزية فتح) وكاتب خطاب الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات (أبو عمار) في الأمم المتحدة عام 1974 وقال فيه عبارته الشهيرة «جئتكم بغصن الزيتون بيد والبندقية في اليد الأخرى فلا تسقطوا غصن الزيتون من يدي».

- نبيل أبو ردينة المتحدث باسم الرئاسة وعضو مركزية فتح ومفوض الإعلام فيها وهو منصب حل فيه محل محمد دحلان الذي جمدت عضويته في اللجنة المركزية، لتجاوزات تنظيمية وغيرها أقدم عليها كما جاء في بيان المركزية.

- أحمد الطيبي عضو الكنيست الإسرائيلي ومستشار أبو مازن للشؤون الإسرائيلية.

- ياسر عبد ربه أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الذي كان قد سبق الوفد إلى نيويورك.

- مجدي الخالدي.. المستشار الدبلوماسي لأبو مازن.. الرجل الهادئ الذي يختار دوما الجلوس في المقاعد الخلفية، ويقل من الكلام.

- حنان عشراوي المفاوضة السابقة وعضو المجلس التشريعي.

باختصار فإن كل فقرة وكل جملة بل وكل كلمة في هذا الخطاب الذي استغرق إلقاؤه 51 دقيقة بما في ذلك التصفيق وقوفا الذي تجاوز الـ13 مرة، خضعت لعدسة المجهر بل عدسات المجهر مرارا وتكرارا، وأخضعت للتدقيق والتمحيص مرة ومرتين بل أكثر لمنع أي تأويل أو تفسير خاطئ. وكانت صحيفة «الشرق الأوسط» شاهد عيان على ذلك سواء على متن الطائرة أو في مقر إقامة الرئاسة في فندق «الملينييم»، الواقع في شارع 41 بين تقاطعه مع شارعي (فيرست افينيو وسكند افينيو) المواجه لمبنى الأمم المتحدة.

لذا جاء هذا الخطاب وحسب اعتراف المراقبين متماسكا متناغما واضحا وصريحا، واضعا للنقاط على الحروف. وحظي بالإجماع على الأقل على الصعيد الفلسطيني بأنه أفضل وثيقة فلسطينية قدمت حتى الآن منذ انطلاقة عملية التفاوض قبل عشرين عاما في العاصمة الإسبانية مدريد وتحديدا في أكتوبر (تشرين الأول) من عام 1991، وتواصلت حتى سبتمبر (أيلول) 2010 وسط استمرار النشاط الاستيطاني في الضفة الغربية والقدس الشرقية المحتلة دون هوادة ودون احترام لأي قوانين دولية من قبل إسرائيل وبدعم إن لم يكن على نحو مباشر فعلى نحو غير مباشر من قبل الإدارة الأميركية التي لجأت في فبراير (شباط) الماضي إلى استخدام حقها في النقض في مجلس الأمن لإحباط مشروع قرار فلسطيني يدين النشاط الاستيطاني، استعير نصه من ردود الفعل الأميركية لا سيما تصريحات وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون في ردود أفعالها على النشاط الاستيطاني حسبما قاله أبو مازن لـ«الشرق الأوسط» في حينه. وكانت تلك المرة الحادية والأربعين التي يستخدم فيها الأميركيون الفيتو ضد قرارات تتعلق بالقضية الفلسطينية. وسيرتفع هذا العدد إلى 42 عندما يستخدمونه ضد عضوية فلسطين في الأمم المتحدة كما أعلنوا غير مرة بطريقة منافية للأعراف الدبلوماسية كما قال مسؤول فلسطيني كبير لـ«الشرق الأوسط».

أبرز نقاط الخطاب

* رفض الشرط الإسرائيلي الذي وصفه بالجديد وهو المطالبة بالاعتراف بيهودية إسرائيل.

* اعتبر القبول بحدود عام 1967 تنازلا فلسطينيا كبيرا.

* منظمة التحرير الفلسطينية ستبقى حتى انتهاء كل القضايا الرئيسية.. ردا على الذين قالوا إن طلب العضوية سيعني نهاية منظمة التحرير ودورها.

* التأكيد على القدس الشرقية عاصمة لدولة فلسطين وفق قرارات الشرعية الدولية.

* حل قضية اللاجئين وفق مبادرة السلام العربية وقرار مجلس الأمن الدولي 194.

* الإفراج عن جميع أسرى الحرية وبقية المعتقلين.

* رفض العنف وجميع أشكال الإرهاب خاصة إرهاب الدولة كررها غير مرة.

* المفاوضات: التمسك بها كخيار للوصل إلى اتفاق سلام.

* المقاومة الشعبية.

* لا ندعو إلى عزل إسرائيل بل الاستيطان.

* الشفافية في عمل الحكومة والسلطة مشيرا إلى شهادات البنك الدولي وصندوق النقد والمجتمعات الدولية.

* المصالحة: الحوار لتحقيق المصالحة وعبر عن الأمل في الإسراع في تحقيقها في الأسابيع القادمة.

* في هجوم مبطن على الرفض الأميركي والإسرائيلي لطلب الدولة: لا أحد لديه ذرة وجدان يمكن أن يرفض طلبنا للعضوية.

* لا مفاوضات دون مرجعية وفي ظل وجود الاحتلال هذا أمر غير مقبول.

* إنها لحظة الحقيقة وشعبنا ينتظر سماع موقف العالم.. وهل سيسمح العالم بأن نبقى محتلين إلى الأبد. نحن الشعب المحتل الوحيد في العالم. هل سيسمح العالم بذلك.

* بعد 63 عاما من العذابات المستمرة أقول كفى كفى كفى.

* دقت أيضا ساعة الربيع الفلسطيني.

* نريد دولة دون مستوطنين.. سكوت... مع كلابهم.

* مختتما ببيت شعر للشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش: إنا هنا قاعدون.. هنا كنا وهنا سنكون..