كرومويل والدولة الدينية المتشددة

د. محمد عبد الستار البدري *

TT

يعد أوليفر كرومويل أحد أهم الشخصيات في التاريخ الإنجليزي الحديث، فهو القائد الذي استطاع بحنكته العسكرية وقيادته السياسية أن يدير الصراع المرير بين البرلمان الإنجليزي والملك ويحسمه لصالح الأول ثم يفرض تجربة للحكم البرلماني الخالص والتي كانت نموذجا لتجربة فاشلة فتعلمت منها أوروبا والبشرية عدم تكرارها، كذلك ترجع أهمية الرجل أيضا إلى أن التجربة التي قادها كانت البداية لسلسلة من الصراعات على المستوى الأوروبي بين الشعوب وممثليها من ناحية والملوك من ناحية أخرى، وهي الموجة التي قضت على العهد الذي يطلق عليه المؤرخون «العهد المطلق Age of Absolutism» والذي سيطر فيه الملوك بفضل مبدأ الحق الإلهي المطلق على السلطة في بلادهم.

لقد انتمي كرومويل للطبقة المتوسطة ذات الأملاك المحدودة، فكان شديد التدين ينتمي إلى البروتستانت المتشددين والملقبين بالـ Puritans، الرافضين للكاثوليكية وهم أكثر تطرفا من الأنجليكيين أو البرسبيتارينز، ولكن دوره الحقيقي في الثورة الإنجليزية تأخر بعض الشيء حتى سطع نجمه كقائد للجيش البرلماني، فكان الرجل يدعو في البداية للحد من سلطات الملك الذي اضطر للتفاوض مع البرلمان للحصول على موافقته لفرض ضرائب جديدة، وقد بدأ التوتر يأخذ مجراه بين الطرفين وعندما رفض الملك إقرار ما هو معروف بقانون الحقوق Petition of Rights والذي تضمن عدم فرض أية ضرائب إلا بعد العودة للبرلمان لإقرارها وإلغاء القبض التحكمي على المواطنين، ولكن عندما فرض الملك الضرائب على المدن الساحلية وتحدى القوى البروتستانتية في البلاد بدأ الصراع يأخذ الطابع المسلح خاصة على ضوء استباحة قوات الملك مقر البرلمان للقبض على خمسة أشخاص.

واقع الأمر أن هذا الصراع كان حربا أهلية لأن إنجلترا انقسمت إلى فريقين، الأول ضم إلى جانب الملك النبلاء والكاثوليك والإقطاعيين، بينما ضم الفريق الآخر البرلمان ومعه صغار الملاك والتجار والمُصنعين وأغلبهم يدينون بمذاهب بروتستانتية، بل إنه من الملاحظ أن هذه الحرب شملت أيضا صراعا طبقيا ودينيا، وقد مالت دفة الحرب لصالح الفريق الأول ولكن بمساعدة من كرومويل عاد البرلمان بقوة جديدة إلى الصراع مرة أخرى وهنا كانت البداية السياسية لأوليفر كرومويل الذي ظهر كقائد عسكري هزم قوات الملك في عدد من المعارك على رأسها معركة «نيسبي» الشهيرة فاضطر الملك للاستسلام في 1646، ولكن لأسباب تتعلق بالخلافات داخل البرلمان بين المتشددين والبروتستانت استغل الملك الفرصة فعاود الحرب مرة أخرى غير أن البرلمان لم الشمل وتوحد مرة أخرى فاضطر للاستسلام التام بعد ذلك في 1648.

كان كرومويل ورجاله قد سيطروا خلال هذه الفترة على مجريات الأمور في البرلمان فقاموا بطرد 143 عضوا ممن اختلفوا مع مذاهبهم الدينية، وأعادوا بناء النظام السياسي الإنجليزي من جديد، وقد رفض البرلمان المُحدث الجديد أي نوع من التسامح مع الملك وبدأ كرومويل يضغط لمحاكمته تمهيدا لإعدامه بعد أن قاموا بتعديل لتعريف الخيانة العظمى لتنطبق عليه، وبالفعل نُفذ فيه حكم الإعدام في يناير (كانون الثاني) من عام 1649، وتغيير اسم الدولة إلى الكومنولث، وتم ملء الفراغ الناجم عن اختفاء السلطة التنفيذية بمجلس للدولة المكون من 41 عضوا وإضافة إلى برلمان لا يشمل تمثيل إلا من هم في حزب كرومويل وسمي «ببقايا البرلمان» الـ Rump Parliament، ولكن سرعان ما ضاق به ذرعا فأرسل جيشه ليحل البرلمان بجملته الشهيرة «إن الله لم يعد بحاجة إليكم»، ثم قام ومعه الجيش بكتابة دستور جديد جعل من كرومويل ديكتاتورا مدى الحياة تحت اسم «اللورد الحامي Lord Protectorate».

لقد حكم كرومويل خمس سنوات بقوة الجيش كحاكم أوتوقراطي مطلق وعمل على نشر المذهب المتشدد في كل ربوع إنجلترا، وعلى الرغم من القلق الشديد الذي انتاب الأنجليكيين والكاثوليك من حكمه فإنهم لم يستطيعوا معارضته خاصة بعدما ضمن تأييد الطبقة المتوسطة من خلال إعفاءات تجارية وضريبية جذبت له شعبية الطبقة العاملة بالتجارة والصناعة الصاعدة، إضافة إلى انتصاراته العسكرية في أيرلندا واسكتلندا التي أمدته ببعض الشعبية ولكن بمجرد وفاته في عام 1658 انتقل الحكم لابنه ريتشارد ولكنه لم يكن في حنكة أبيه وسرعان ما عادت السلطة للبرلمان مرة أخرى إلى الملك شارل الثاني الذي ووجه بمشكلة فراغ شديد في الشرعية فاضطر للجوء للشرعية القديمة ممثلة في الحكم المطلق للملوك، وعلى الرغم من طول فترة حكمه فإن الأمور لم تستقر في إنجلترا لأن مبادئ الحكم الأساسية ظلت غير محسومة بين البرلمان والملك، فلم يحسم الصراع السياسي بين البرلمان والملك ولكنه أخذ شكلا جديدا يميل للهدنة إلى أن أتت «الثورة العظيمة Glorious Revolution» لتضع الحدود والحريات في نصابها الحالي.

لقد كانت هذه هي بداية الليبرالية البريطانية الحقيقية والتي ضل كرومويل الطريق في سبيله لتحقيقها، فمن المستغرب له حقا أن الرجل بدأ سعيه ضد الملك رفضا لديكتاتوريته ولكنه دخل التاريخ كآخر ديكتاتور إنجليزي مطلق، هناك بالفعل العديد من التفسيرات لفشل المشروع السياسي لكرومويل ومعه ثورة البرلمان، والتي تتضمن ما يلي:

أولا: السبب الرئيسي والمباشر للفشل يرجع لعوامل الآيديولوجيا الدينية التي وقفت حائلا أمام نجاح الثورة، فالتشدد الديني قلم فرص الرجل في التوصل لحلول وسط كانت كفيلة بتضميد الجراح الإنجليزية وفتح المجال للتوصل لصيغة سياسية مقبولة، لكن استمداد الرجل لشرعيته السياسية من معتقداته الدينية هي التي بررت له سلطويته المطلقة وخلقت عنده قناعة برسالة سياسية من السماء لإقامة المجتمع الديني الصالح، وهذا كان سبب انهيار مشروعه السياسي بمجرد وفاته لأنه لم يمنح للخصوم السياسيين حقوقهم السياسية وعلى رأسها المشاركة السياسية والحريات، كما أنه ضاق ذرعا بحقوق معتنقي المذاهب المختلفة وحاربهم في دينهم، ولعل هذا كان من الأسباب التي دفعت القوى السياسية والملك لنبش قبره وإخراج جثمانه وتعليقه في الشوارع بلا رأس.

ثانيا: حاول كرومويل تدشين مبدأ جديد وهو الأوتوقراطية البرلمانية، وهو مفهوم يستحيل تطبيقه عمليا، بالتالي انهارت فكرة الكومنولث بمجرد وفاة الرجل لأن هذا الكيان كان مبنيا على شخصية كرومويل القوية وقوة الدفع التي ولدتها انتصاراته وسياساته دون مؤسسية حقيقية تضمن الاستمرار والترقي.

ثالثا: وبعيدا عن شخصية كرومويل فإن الشرعية التي قام عليها الكومنولث الإنجليزي لم تكن شرعية متوافقا عليها من الأطياف السياسية المختلفة في البلاد منها الليبراليون والكاثوليك والبروتستانت إلخ.. هنا يكون العقد السياسي قد اختل ومعه موازين الاستمرارية السياسية.

في الاعتقاد أن كرومويل سيظل من أشهر الحكام الأوتوقراطيين في تاريخ البشرية والذي حارب للحرية ولكنه ضل الطريق إليها من فرط تشدده الديني وسطوة معتقداته على حسه السياسي، ولعل سخرية القدر تجلت في أن كرومويل دخل الحقل السياسي ليقضي على مبدأ التفويض الإلهي للملوك، ولكنه أصبح مفوضا إلهيا بديلا! * كاتب مصري