كرمان.. وجه «السلام» اليمني

فوزها بجائزة نوبل للسلام يشكل منعطفا مهما في العلاقة بين «الحركات الإسلامية» والغرب

TT

بدأ اسم توكل كرمان بالظهور بشكل لافت بعد تبنيها قضية مهجري منطقة «الجعاشن». حينها ذكرت الأنباء أن شيخا قبليا في منطقة العدين في اليمن أرغم عشرات الأسر على الرحيل من الأراضي الزراعية التي تعمل بها هذه الأسر في منطقة تسمى الجعاشن، بحجة عدم التزام هذه الأسر بمستحقات مالية له في نظام من الإتاوات، التي قيل إن الشيخ القبلي كان يفرضها على هذه الأسر ضمن منظومة أقرب إلى «الإقطاع» المتبع في الأراضي الزراعية. يومها تبنت كرمان القضية من جانب حقوقي وإنساني ضمن إطار المنظمة التي ترأسها منظمة «صحافيات بلا قيود». وذهبت بها إلى أبعد مدى وتفاعلت معها منظمات حقوقية عدة داخل اليمن وخارجه. ثم واصلت كرمان نشاطها السياسي مع عدد من نشطاء «الحراك الجنوبي» خلال السنوات الأخيرة إلى أن توجت هذه الجهود بتفجر ما بات يعرف بـ«ثورة الشباب» في اليمن، التي كان لكرمان مع عدد من القيادات الشبابية دور في انطلاقتها واستمراريتها.

كرمان تبلغ من العمر 32 عاما، وهي متزوجة وأم لثلاثة أطفال، وقد فازت الناشطة اليمنية بالمشاركة مع رئيسة ليبريا إلين جونسون سيرليف والناشطة الليبيرية ليما غبوي بجائزة نوبل للسلام لعام 2011. وقالت لجنة نوبل في بيانها إنها اختارت النساء الثلاث «تقديرا لنضالهن السلمي من أجل سلامة وحقوق النساء ولمشاركتهن في جهود بناء وتحقيق السلام». وقال رئيس لجنة نوبل ثوربجورن جاغلاند حين إعلانه أسماء الفائزات «ليس بإمكاننا تحقيق الديمقراطية والسلام الدائم في العالم ما لم تحصل النساء على فرص متساوية للتأثير على التطورات في المجتمع في جميع المستويات». وأضاف «تأمل لجان نوبل النرويجية أن تساهم الجائزة في إنهاء قمع النساء الذي ما زال يحدث في بلدان كثيرة، وفي إدراك الدور الذي يمكن أن تلعبه النساء من أجل تحقيق السلام والديمقراطية». وفي أول تصريح لها قالت توكل كرمان إنها تلقت خبر فوزها عبر قناة «بي بي سي» العربية. وأضافت: «أنا في غاية السعادة، وأهدي الجائزة إلى شباب ثورة اليمن وإلى الشعب اليمني، وإلى شهداء الثورات العربية». ولاحقا تبرعت كرمان بقيمة الجائزة لخزينة الدولة اليمنية بعد أن تنتصر الثورة السلمية في اليمن، حسب قولها. ودعت يوم سماعها بالخبر إلى «التسامح بين الأديان وقبول الآخر»، وهي الإسلامية المحجبة التي لم يثنها انتماؤها الإسلامي ولا حجابها عن المشاركة في العمل العام صحافيا وسياسيا وحقوقيا.

وجاء في التعريف بتوكل كرمان «توكل عبد السلام خالد كرمان (أو توكل كرمان كما اشتهرت إعلاميا) (7 فبراير «شباط» 1979 بمحافظة تعز، اليمن) كاتبة صحافية ورئيسة «منظمة صحافيات بلا قيود» وناشطة حاصلة على جائزة نوبل للسلام في 2011، وكانت قبل ذلك أديبة وشاعرة. وهي أحد أبرز المدافعات عن حرية الصحافة وحقوق المرأة وحقوق الإنسان في اليمن وبرزت بشكل كبير بعد قيام الاحتجاجات اليمنية 2011. وهي عضو مجلس شورى (اللجنة المركزية) لحزب التجمع اليمني للإصلاح، اللقاء المشترك الذي يمثل تيار «المعارضة». تتحدر من أسرة ريفية من منطقة بني عون مخلاف شرعب في محافظة تعز، وفدت أسرتها مبكرا إلى العاصمة صنعاء مهاجرة من محافظة تعز، تبعا لعمل والدها القانوني والسياسي المعروف عبد السلام كرمان. تخرجت في جامعة العلوم والتكنولوجيا في صنعاء، بكالوريوس تجارة عام 1999، وبعدها حصلت على الماجستير في العلوم السياسية وحصلت على دبلوم عام تربية من جامعة صنعاء، ودبلوم صحافة استقصائية من الولايات المتحدة الأميركية. عرفت بمناهضة انتهاكات حقوق الإنسان والفساد المالي والإداري، ومطالبتها بالإصلاحات السياسية في البلد، وكذلك بعملية الانفتاح الديمقراطي وحقوق المرأة. كانت توكل كرمان في طليعة الثوار الذين طالبوا بإسقاط نظام علي صالح بدعوة مبكرة بدأت في عام 2007 بمقال نشرته صحيفة «الثوري» وموقع «مأرب برس» دعت فيه توكل كرمان إلى إسقاط النظام اليمني بشكل صريح.

وكرمان قيادية بارزة في الثورة الشبابية الشعبية، وترأس منظمة «صحافيات بلا قيود»، شاركت في الكثير من البرامج والمؤتمرات المهمة خارج اليمن حول حوار الأديان، والإصلاحات السياسية في العالم العربي، وحرية التعبير، ومكافحة الفساد. وهي عضو فاعلة في كثير من النقابات والمنظمات الحقوقية والصحافية داخل اليمن وخارجه. قادت كرمان الكثير من الاعتصامات والمظاهرات السلمية التي تنظمها أسبوعيا في ساحة أطلقت عليها مع مجموعة من نشطاء حقوق الإنسان في اليمن اسم «ساحة التغيير» وأضحت الساحة مكانا يجتمع فيه كثير من الصحافيين ونشطاء المجتمع المدني والسياسيين وكثير ممن لديهم مطالب وقضايا حقوقية بشكل أسبوعي. فشاركت في قيادة أكثر من 80 اعتصاما في 2009 و2010 للمطالبة بإيقاف المحكمة الاستثنائية المتخصصة بالصحافيين، وضد إيقاف الصحف، وضد إيقاف صحيفة «الأيام»، و5 اعتصامات في 2008 ضد إيقاف صحيفة «الوسط»، و26 اعتصاما في عام 2007 للمطالبة بإطلاق تراخيص الصحف وإعادة خدمات الجوال الإخبارية.

كما شاركت في الكثير من الاعتصامات والمهرجانات الجماهيرية في الجنوب المنددة بالفساد على رأسها اعتصام ردفان، والضالع، وأعدت الكثير من أوراق العمل في كثير من الندوات والمؤتمرات داخل الوطن وخارجه حول حقوق المرأة، وحرية التعبير، وحق الحصول على المعلومة، ومكافحة الفساد، وتعزيز الحكم الرشيد. اعتقلت مساء السبت 23 يناير (كانون الثاني) 2011 من قبل القوات الأمنية، بتهمة إقامة تجمعات ومسيرات غير مرخصة لها قانونا والتحريض على ارتكاب أعمال فوضى وشغب وتقويض السلم الاجتماعي العام. وأفرجت السلطات اليمنية عنها في 24 يناير 2011 بعد أن أثار القبض عليها موجة احتجاجات جديدة في العاصمة صنعاء وعدد من المدن اليمنية، وبعد أن هددت مجاميع قبلية بالانتقام لاعتقالها.

وقد هنأ كرمان عدد كبير من الأشخاص والمنظمات والهيئات اليمنية والعربية والدولية، حيث هنأتها الأمم المتحدة والجامعة العربية، وعدد من منظمات حقوق الإنسان والمنظمات النسوية حول العالم. وجاء في رسالة تهنئة من المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل «عزيزتي السيدة كرمان، تلقيت بسرور بالغ نبأ منحكم جائزة نوبل للسلام لهذا العام بالمشاركة كذلك مع الرئيسة إلين جونسون - سيرليف وليما غبوي، وأود أن أهنئكم من صميم قلبي على هذه الجائزة. إن التزامك المستمر والشجاع من أجل الديمقراطية وحقوق الإنسان في بلدكم، وخاصة حقوق المرأة، يُعد نموذجا يحتذى لسعينا المشترك من أجل عالم أكثر عدلا وسلاما، وإن التزامك هذا ليستحق أعلى درجات التقدير. وإني أتمنى لك دوام العزيمة والنجاح فيما تقومين به».

وقد كتبت لاورا كاسينوف وروبرت وورث من العاصمة اليمنية صنعاء لصحيفة «نيويورك تايمز» تقريرا نقلته «الشرق الأوسط» عن توكل كرمان، الناشطة اليمنية التي فازت بجائزة نوبل للسلام، قالا فيه: «عمرها 32 عاما، متحدثة جريئة وناشطة في مجال حقوق الإنسان وأم لثلاثة أطفال. لم يكن يعرفها أحد خارج بلادها، حتى بدأت بقيادة مظاهرات مناوئة للنظام في بلادها. ولكن عندما منحت توكل كرمان جائزة نوبل للسلام يوم الجمعة الماضي، أصبحت حاملة لمشعل الربيع العربي ودور المرأة في المنطقة العربية. وكمسلمة معتدلة توقفت عن استخدام البرقع الذي يغطي كامل الوجه منذ ثلاث سنوات، فهي تمثل وجها آخر هو: أمل الغرب في أن تلعب الحركات الإسلامية يوما ما دورا إيجابيا في إعادة بناء المجتمعات العربية».

وتقول نادية مصطفى الأستاذة في العلاقات الدولية في جامعة القاهرة «إن إعطاء جائزة نوبل لإسلامية يعني أن هناك عملية إعادة تقييم. إنه يعني أن الإسلام ليس ضد السلام، ليس ضد المرأة، والإسلاميات يمكن أن يكنّ ناشطات يحاربن من أجل حقوق الإنسان والحرية والديمقراطية». وقال عبد الباري طاهر الكاتب والمفكر اليمني «أن تفوز كرمان بجائزة بوزن نوبل هو انتصار للحداثة وكل معاني العدل والإنسانية، وهو انتصار يعطي مؤشرا بأن الخيار السلمي هو الذي يحظى الآن بتأييد العالم ويحوز أفضل الجوائز».

أما القيادي في الثورة الشبابية السلمية خالد الأنسي فيعتقد أن الجائزة تنطوي على تكريمين، أحدهما لتوكل باعتبارها ناشطة حقوقية وثائرة ومدافعة عن حقوق الناس وصحافية، والآخر للثورة والثوار والربيع العربي عموما. وقال محمد قحطان الناطق الرسمي باسم أحزاب اللقاء المشترك ورئيس الدائرة السياسية للتجمع اليمني للإصلاح الذي تنتمي له كرمان فقد قال في حوار مع «الشرق الأوسط»: «منح توكل كرمان هذه الجائزة مؤشر إيجابي لاتجاه العلاقة بين الشرق المسلم والغرب المسيحي، وهو اتجاه يعكس التعايش الحضاري وحوار الحضارات بدلا من المفاهيم التي كانت سائدة خلال الفترات الماضية، التي تعكس صراع الحضارات وتخندقها. وبما أن توكل امرأة مسلمة محجبة ومنتمية للإصلاح، وقد منحت هذه الجائزة، فهذا يؤشر على أن هناك تغيرا في رؤية الغرب نحو العالم الإسلامي. وهي رسالة واضحة للثورة السلمية في اليمن وللثورات العربية السلمية ضمن ما بات يعرف باسم (الربيع العربي)، تؤكد هذه الرسالة أن الغرب لا يقف في تقييماته على حدود الأشكال والمظاهر والأجناس. ومنح هذه الجائزة لامرأة محجبة يعني أن الغرب لا ينظر للحجاب كشكل أو صورة، ولكنه ينظر لما مثله من يحمل هذه الجائزة من قيم تتسق مع حقوق الإنسان والديمقراطية والحرية وحقوق المرأة، بعيدا عن تصنيفات من هي محجبة ومن هي غير محجبة. وعلى كل فإن الرسالة جميلة للعرب والمسلمين والثورات العربية والمرأة العربية على وجه الخصوص».

وقد توقع الكثيرون أن تذهب الجائزة إلى أحد وجوه ثورتي تونس ومصر اللتين أسقطتا زعيمين متسلطين، لكن الجائزة ذهبت إلى اليمن البلد الفقير والمنسي إلى حد ما إلا من أخبار معاناته وفقره وصراع ساسته وتوثب شبابه. ومع أن الجائزة في نظر كثيرين تشكل دفعة قوية للثورة الشبابية السلمية، وبما أنها كذلك تعطي زخما واسعا للثوار العرب واليمنيين خصوصا، وكذلك بما أنها في نظر البعض تشكل عامل ضغط قويا على النظام في صنعاء من أجل الإسراع بتلبية مطالب الثوار، إلا أن الوضع في اليمن فيما يبدو لا يزال بالغ التعقيد لجهة حسم الأمور سريعا لصالح التغيير في ظل وجود شبكة من التداخلات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، وفي ظل وجود من يتخوف من تحول الصراع السياسي في البلاد إلى حرب أهلية.

وعودة إلى توكل كرمان فإنها رغم كل نشاطها تبقى شخصية مثيرة للجدل في بلدها اليمن، حيث هي عضو بارز في التجمع اليمني للإصلاح ذي التوجهات الإسلامية من جهة ومن جهة أخرى فإنها محل لانتقاد حتى من جهات إسلامية ضمن الإصلاح وخارجه على اعتبار أنها حزبية غير منضبطة وأنها تعمل لحسابها الخاص وفقا لما تمليه عليها طموحاتها الشخصية.

ومع ذلك فقد اعتبر اختيار لجنة نوبل - التي تتخذ من أوسلو مقرا لها - تعبيرا عن الأمل في المستقبل - الذي اعتبره بعض المراقبين أحلام يقظة - أكثر منه تكريما لما مضى من النضال. وهو أمر مشابه لظروف منح جائزة نوبل للسلام للرئيس الأميركي باراك أوباما عام 2009. ففي كلتا الحالتين بدت لجنة نوبل تميل نحو تجسيد الأمل وتلمس الإمكانات لتحقيق الإنجازات في المستقبل ودفع الأحداث نحو الاتجاه المرغوب به. وعلى الرغم من أن قطاعات واسعة أظهرت الابتهاج بنيل هذه السيدة من اليمن لجائزة نوبل، فإن البعض في اليمن خاصة بدا مشككا في نوايا منح هذه الجائزة لكرمان التي يراها البعض أقل من نوبل رغم كفاحها المرير لنيل الحريات وحقوق الإنسان في بلادها، ويراها آخرون محرضة على العنف في البلاد. وحتى في صفوف الشباب الثائر فإن البعض يأخذ عليها تسلطها وميلها إلى الاحتكار وحب الظهور. ورغم الاعتراف الواسع النطاق بشجاعة كرمان ودورها الريادي في قيادة الثورة اليمنية فإن الكثير من المحتجين اليمنيين المستقلين يتذمرون من هيمنة حزب الإصلاح الإسلامي على الثورة، ودور كرمان في ذلك. كما يرى البعض أنها تلعب دورا سلطويا وأنانيا في الثورة، ويذهب آخرون إلى مسألة تسييس جائزة نوبل، وأن منح كرمان الجائزة غير بعيد من توجه عام في المنطقة تتزعمه قطر التي دعمت كرمان سياسيا وإعلاميا عبر قناة «الجزيرة»، وأفردت لها حيزا إعلاميا واسعا في تغطياتها للشأن اليمني. ويقول بعض قادة الشباب إن نجم كرمان قد خبا في الفترة السابقة لعدة أسباب حتى جاءت جائزة نوبل فعادت مرة أخرى إلى الواجهة. ومهما يكن فإن حصول كرمان على نوبل للسلام يعد حدثا استثنائيا في اليمن والمنطقة العربية له أبعاده المختلفة، وسوف تكون له تداعيات عميقة التفاعل على مستوى العلاقة المتبادلة بين الغرب والشرق، والعلاقة بين جيل الآباء والأبناء في المنطقة التي تمور بمخاضات كثيرة لميلاد لم تتحدد بعد طبيعته ومآلاته، كما أن للحدث أثرا بالغا على اليمن بشكل خاص، حيث من المؤمل أن يسهم الحدث في تغيير الصورة النمطية عن اليمن، الذي مثل للغرب صورة البلاد التي تخرج منها المفخخات والعمليات الإرهابية.

قالت كرمان في رسالة قصيرة لها بمناسبة فوزها بنوبل: «إلى مهجري الجعاشن الذين قاسمتهم الألم والأمل، إلى طلاب جامعة صنعاء الذين شاركتهم الحلم وقاسمتهم تحمل كلفة البداية، إلى نشطاء بلا قيود ورفيقة الدرب بشرى الصرابي، إلى أولادي وزوجي وأبي وأمي وإخواني الذين منحوني الرضا والمساندة للخوض بالشأن العام بحرية وثقة مطلقة ولأن أكون رجلا بين الرجال، إلى زملائي الصحافيين وناشطي حقوق الإنسان في كل مكان، إلى إخوتي في الحراك الجنوبي الذي تعلمت منه كيف يكون النضال السلمي ممهورا بالتضحيات، إلى رفاقي شباب الثورة في كل ساحات وميادين الحرية والتغيير في اليمن، إلى رفاقي الأحبة مفجري ثورات الربيع العربي وحاملي مشروعها الكبير، إليكم جميعا أقول.. أنا مدينة لكم في كل ما أنا عليه أيها الأحبة، والأكيد أن شعبنا وأمتنا العظيمة ممتنة لكم.. ولكم أنا فخورة بكم أيها الكبار. إلى شهدائنا الخالدين وجرحانا الأبطال أجدد العهد والوعد بالمضي على الدرب حتى يتحقق لشعبنا الحلم الكبير في الحياة الحرة والكريمة، وإنها لثورة سلمية حتى النصر».