الأقباط.. متأصلون في تاريخ مصر

أسقف الإسكندرية كان أول من حصل على لقب «بابا» قبل الكنيسة الكاثوليكية بعقود

TT

يعرف أقباط مصر اليوم على أنهم المسيحيون الذين يعيشون في مصر، ولكن كلمة «قبطي» كانت تعني «مصري» قبل أن يتحول اللفظ إلى تصنيفه المسيحي، وقد كانت هذه الروح القومية هي التي فصلت مصر والمصريين عن حكم وثقافة المستعمر الروماني والبيزنطي في عصر احتلالهما للبلاد، فلفظ قبطي في الأساس انعكاس وتجسيد للقومية المصرية أو مرادف لها في حقبة زمنية محددة، وهي القومية التي بنيت على اللغة القبطية المشتقة من الفرعونية القديمة وامتداد للروح الفرعونية التي ميزت الشخصية المصرية عن غيرها وأعطتها روحا مختلفة. ولكن هذه القومية سرعان ما تغيرت خلال القرنين الثاني والثالث الميلاديين بعد قدوم المسيحية لمصر، فامتزجت القومية المصرية بالقومية المسيحية وتجسدتا معا، وهو أمر ليس بمستغرب على مصر فقد تكرر هذا في تاريخها في مناسبات كثيرة وليس فقط مع المسيحية.

تشير أغلبية من المصادر إلى أن المسيحية دخلت مصر مع قدوم القديس مرقس الرسول، أحد تلاميذ السيد المسيح في حدود عام 44م، وقد كتب القديس مرقس إنجيله في الإسكندرية. والثابت تاريخيا هو أن كنيسة الإسكندرية التي أسسها سبقت كنيسة روما، فهي أول كنيسة بالفعل، ويكاد يكون من المؤكد أن أسقف الإسكندرية كان أول من حصل على لقب «بابا» قبل الكنيسة الكاثوليكية بعقود. والمرجح تاريخيا أيضا أن المسيحية انتشرت في مصر بقوة خلال أواخر القرن الأول والثاني الميلادي إلى أن اعتنقتها أغلبية عظمى من شعبها، وذلك رغم محاولات كثيرة للتشكيك في هذه الحقائق من قبل مؤرخي فرق أخرى مسيحية.

لقد زاد من قيمة الكنيسة القبطية أن مهمتها كانت أصعب من غيرها في أركان الإمبراطورية الرومانية، فلقد كانت تعاني معاناة إضافية لأسباب أخرى جعلتها تحظى بالاحترام، منها:

أولا: أن الكنيسة القبطية وخلفاء القديس مرقس عانوا بقوة من الزخم الفكري والفلسفي لمدينة الإسكندرية، إضافة لمواجهة عنيفة مع مفاهيم دينية راسخة من العصور الفرعونية والاحتلال الهيليني للبلاد، فلقد جاءت الديانة المسيحية الجديدة في أرض روحية وعرة ومع شعب متمسك بتقاليده الدينية، ولعل طائفة إيزيس Cult of Isis وحدها كانت كفيلة بتقليص فرص انتشار أي دين جديد في البلاد، ناهيك عن أن الإسكندرية كانت بالفعل مركز الثقل الفكري في المتوسط أكثر من أي مدينة أخرى مثل أنطاكيا أو إيفسوس.. إلخ، وبالتالي كان على الكنيسة أن تتغلب على الفلسفات القوية المعارضة لها، وهو ما أضفى على فكرها قوة ورجاحة فلسفية سمحت لها في المستقبل بحماية معتقداتها.

ثانيا: واتصالا بما سبق، فإن الشعب المصري لم يكن على استعداد لقبول الديانة الجديدة بسهولة، بل إن المقاومة العقائدية له كانت السمة القوية في التعامل مع من اقترب من عباداته وأركانه بحكم تكوينه المتدين. ولكن هذا لم يثنِ القديس مرقس وخلفاءه عن التبشير بالدين الجديد والاستشهاد دفاعا عنه. وتشير المصادر التاريخية إلى أن القديس مرقس تعرض لهجوم وتم سجنه ثم ترك للعامة لضربه ومات مسحولا بغضب شعبي - وهو أمر يجب أن لا يكون محل استغراب، خاصة إذا ما تذكرنا أن القديس بطرس الذي أدخل الديانة المسيحية لروما مات مصلوبا رأسا على عقب في يوم ليس ببعيد عن مقتل القديس مرقس في الإسكندرية بسبب رفض الرومان له. ولكن القديس مرقس لم يمت قبل أن يرمي بذرة الديانة الجديدة للمصريين التي نبتت في قلوبهم.

ثالثا: لقد تجرعت الكنيسة القبطية ألوانا من العذاب والعنف والتنكيل على أيدي الدولة الرومانية ومن بعدها البيزنطية إضافة لبعض الكنائس الأخرى في القرون الأولى، من أشكال هذه المعارضة رفض كنيسة روما الاعتراف بأول تسعة خلفاء للقديس مرقس. بل أعلنت مسيحيي مصر «هراطقة»، أي خارجين عن الدين. وسرعان ما شككت المصادر الكنسية الأخرى في اعتناق أغلبية المصريين للديانة المسيحية حتى نهاية القرن الثاني الميلادي كمحاولة للنيل من الكنيسة المصرية ومحاربتها في معتقداتها، وهي أمور مفهومة بالنظر للتنافس القوي بين الكنيسة في روما والإسكندرية في ذلك الوقت التي أدت لتمترس كنيسة الإسكندرية أمام محاولات كنيسة روما والإمبراطور فرض معتقداتهم على الديانة المسيحية عالميا من خلال بعض المجامع الدينية التي أقيمت لحسم الخلافات حول المسائل المتعلقة بالمعتقدات المسيحية.

وعلى الرغم من محاولات بعض المصادر التقليل من قيمة كنيسة الإسكندرية فإن الحقائق التاريخية تعكس بكل وضوح أن هذه الكنيسة كان لها دورها المحوري في التطور التاريخي والعقائدي للمسيحية ذاتها خلال القرون الخمسة الأولى لانتشار المسيحية، وهذه الحقائق تضيف قيمة عالمية ولاهوتية خاصة للكنيسة القبطية وتجعلها بالفعل مصدر فخر لكل المصريين والعرب على حد سواء، ومن أهم هذه الوقفات المؤثرة ما يلي:

أولا: لقد لعبت كنيسة الإسكندرية دورا مهما في استقبال وإظهار الأفكار المسيحية وبلورتها وتصديرها للعالم الخارجي بأشكال مختلفة، وهي حركة فكرية طبيعية بالنظر لمحورية مدينة الإسكندرية واحتضانها للتيارات الفكرية والفلسفية المختلفة، فزادت مساهماتها من الثقل الفكري للعقيدة المسيحية، ولعل أهم مؤسسة في هذا الصدد إلى جانب الكنيسة كانت المدرسة اللاهوتية بالإسكندرية والتي أخرجت فلاسفة عظماء وفكرا دينيا مستنيرا وبلورة غطاء فلسفي للعقيدة الوليدة.

ثانيا: التزمت الكنيسة القبطية باستقلالها الديني والسياسي فكانت أحد أهم مراكز المعارضة للحد من تأثير السلطة الزمنية ممثلة في روما ومن بعدها القسطنطينية عليها، وهو ما دفعها للصمود من أجل مبادئها في كافة المجامع الكنسية التي حاولت توحيد نقاط الاختلافات العقائدية للكنائس، فكانت دائما كنيسة مستقلة لها رونقها الفكري وصلابتها العقائدية سواء اختلف أو اتفق معها.

ثالثا: من الأدوار التي لعبتها كنيسة الإسكندرية في تطوير المسيحية ما عرف بدورها في إقرار «الأساس الديني لمجمع نيقيا Nicene Creed»، وهو ما تمخض عن المجمع الديني الذي عقد في المدينة التي تحمل نفس الاسم (نيقية) عام 325م والذي حسم إحدى أهم المسائل الخلافية المرتبطة بالعقيدة المسيحية ذات الصلة بطبيعة ألوهية السيد المسيح، وقد ساهم في تكوين هذا الفكر رجال دين من الكنيسة القبطية في مواجهة فتنة «أريوس» أحد رجال الدين المتمصرين وقد تصدى له فكر القديس «أثاناسيوس» بطريرك كنيسة الإسكندرية بقوة.

رابعا: لعل مجمع خلقدونيا عام 451م كان أكبر انعكاس لذلك عندما أصرت كنيسة الإسكندرية على الانشقاق عن الرغبة السياسية والدينية للمجمع بسبب إقرارهم طبيعة للسيد المسيح تختلف عن إيمانها، فأصرت الكنيسة القبطية على الالتزام برأيها بالطبيعة الواحدة للسيد المسيح وهو ما دفع بعض المؤرخين لتسمية أقباط مصر بالـMonophysites أي الذين يؤمنون بأن طبيعية المسيح بعد التوحد كانت واحدة ولم يفرق بين لاهوته ونسوته، وفي سبيل هذا المعتقد تم عزل البطريرك المصري وحرمانه، وقد صمد بطريرك كنيسة الإسكندرية ومعه المصريون على معتقدهم، بل إن البطريرك الجديد الذي عينته دولة بيزنطة رُفض ولُفظ من قبل الشعب المصري الذي تمسك ببطريركه المعزول، ففشل الرجل في مهمته في مصر رغم محاولاته استمالة القيادات المختلفة في الكنيسة وإذاقتهم كل ألوان العذاب والهوان، ولولا هذه المواقف المشهودة فقد كان من الممكن أن تختفي العقيدة القبطية وإذابة الهوية المصرية معها، فقوة السيف البيزنطي لم تستطع كسر إيمان شعب مصر.

خامسا: بغض النظر عن إيجابية أو سلبية هذا الدور فتشير المراجع التاريخية إلى أن الكنيسة القبطية لعبت دورا حاسما في مواجهة خطر ما سمي بـ«النساطرة» وهم فئة ينتمون إلى بطريرك أنطاكيا الذي رفض تقديس العذراء كما اختلف حول طبيعة الروح القدس، وتؤكد كل المراجع أن «القديس كيرولس» (الملقب بعماد الدين) بطريرك الإسكندرية Cyril of Alexandria كان من تصدى له بكل قوة لهذه الهرطقة فكريا وعمليا، ولولاه لكان يمكن أن تتأثر مسيرة المسيحية، ويورد المؤرخ بول جونسون في كتابه «المسيحية» أن أعداء هذا البطريرك الفيلسوف امتدحوا موته بقولهم «الأحياء سعداء بموته، والأموات يخشون وجوده معهم»، وهذه العداوة تعكس الدور القوي الذي واجه به هذا البطريرك الفتنة ومحاصرة تعاليمها والقضاء على ثقلها في المسيحية، وهذا الأمر انعكاس آخر لمساهمة كنيسة الإسكندرية في الحفاظ على العقيدة المسيحية.

سادسا: من الثابت تاريخيا أن فكرة الرهبنة كانت فكرة وممارسة مصرية صرفة انتقلت منها إلى الكنائس الأخرى حول العالم. وتشير بعض المصادر المصرية إلى أن فكرة الاعتزال والاختلاء في الصحراء كانت فكرة فرعونية، حيث كان الناسك يعتزل الحياة في الصحراء ليواجه شظف العيش وصعوبته ومحاربة قوى الشر الأرضية الموجودة فيها، وبصفة عامة فإن القديس أنطونيوس يعد من أوائل القديسين الذين نشروا هذا السلوك. ويشار كذلك إلى أن الاضطهاد الذي لاقاه مسيحيو مصر كان سببا مباشرا في هروب المتدينين والقابضين على دينهم المسيحي في مواجهة الطغيان الروماني والبيزنطي، وقد كانت الأديرة بالفعل أداة لتطوير الدين والتفكر والتزهد، بالتالي تكون المسيحية مدينة لمصر وكنيسة الإسكندرية بهذا الأمر.

ومع كل هذا، فلم يقتصر دور الكنيسة المصرية والأقباط المصريين على التطور التاريخي للعقيدة المسيحية، بل إن الكنيسة القبطية المصرية كان لها إسهاماتها الكبيرة لمصر وتاريخها وتكوين شخصيتها، بالتالي فثقلها في التاريخ المصري يمكن أن نختار من معالمه أهم ما يلي:

أولا: إن فضل الكنيسة القبطية حاسم في تطوير الفكر القومي المصري، فقد كانت تمثل قومية مصر وروحها التي ميزتها عن الثقافة الهيلينية والقوة الرومانية، فبفضل هذه القومية المصرية الناشئة حافظت مصر على هويتها إلى أن انتشرت المسيحية في البلاد، وهو ما يعيد للذهن ما حدث في مصر في العصرين المملوكي والعثماني بالأخص حين أصبح المكون الديني أبرز عناصر المكون القومي والمهيمن عليها، وفي هذا الإطار جسدت الكنيسة الروح القومية المصرية في مواجهة الاحتلال ومحاولاته تغيير المعتقدات والهوية المصرية، حيث وقفت الكنيسة في مواجهة الاحتلال الروماني والبيزنطي بقوة، وجسدت الرفض المصري لهما من خلال مقاومة العزل والحرمان الكنسي لقيادات الكنيسة المصرية ومعاقبة المصريين لإصرارهم على الالتزام بمعتقداتهم وسعيهم لطرد المستعمر، ولعل هذا ما يبرر ارتياح الأقباط لاستبدال الحكم البيزنطي بالحكم الإسلامي الذي احترم الكنيسة المصرية ولم يحاول العبث بمعتقداتها أو تغييرها.

ثانيا: لقد منحت كنيسة الإسكندرية قيمة مضافة لمصر سياسيا على مر العصور حتى عندما كانت تترنح تحت الحكم الروماني والبيزنطي، فالثابت تاريخيا أن أغلبية من الفكر المسيحي على مدار القرون الأربعة الأولى كان إما مصريا، أو متأثرا بفكر مصري أو تقدم به مصريون، وهو ما جعل لمصر رغم كونها دولة محتلة دورا مهما وقيمة سياسية وفكرية مضافة لكونها منارة للفكر العقائدي الجديد والسائد لدى شعوب البحر المتوسط.

ثالثا: لقد دأبت كنيسة الإسكندرية وقياداتها على مدار التاريخ على المحافظة على استقلالها في التعاملات الخارجية، فلم يستطع أباطرة روما أو بيزنطة أن يكسروها أو يجعلوها طيعة لمعتقداتهم كما رأينا، وهذه الاستقلالية منحتها مصداقية عالية لم تتغير مع مر القرون. ويقال إنه حتى في منتصف القرن التاسع عشر عندما لجأت روسيا لمحاولة استمالة الكنائس الأرثوذكسية المختلفة لمد نفوذها، فإن القنصل الروسي لدى مصر سعى لمحاولة وضع الكنيسة المصرية تحت حماية قيصر روسيا نيكولاس الثاني. فلما عرض ذلك على بطريرك الكنيسة رد عليه مستفسرا عما إذا كان القيصر الروسي سيموت، ولما رد القنصل مؤكدا ذلك بطبيعة الحال، سأله البطريرك مستغربا عن السبب الذي يجعله يضع كنيسته تحت حماية من سيموت بينما هي تحت حماية الإله الذي لا يموت أبدا. وقد كان هذا نموذجا واضحا لاستقلالية الكنيسة التي منحت لها وضعية خاصة ومصداقية وطنية لا يتوقع أن تحيد عنها أبدا.

رابعا: لقد أضافت الكنيسة المصرية لما يسمى بالقوة الناعمة لمصر، فإلى جانب كل ما سبق الإشارة له، فإنها كانت ترأس في حد ذاتها كنائس كثيرة حول العالم منها كنيسة الحبشة على سبيل المثال، ويكفي هنا التأكيد على أن بابا كنيسة الإسكندرية يحظى بمساواة مع قيادات الكنائس القليلة الأخرى، ويجب عدم خلط مسألة أسبقية بابا الفاتيكان لدى البعض، حيث إن هذه الأسبقية تحكمها القاعدة العامة Primus inter pares أو «الأول ضمن متساوين»، وهي كلها أمور تصب في بند الإضافة لقوة الدولة المصرية.

يؤكد التاريخ أن أقباط مصر جزء متأصل فكريا وثقافيا في الحضارة المصرية، وقيمة مضافة للفكر المسيحي العالمي، وهذه حقائق ثابتة لا مجال للاختلاف حولها. ولو أن الكنيسة القبطية كانت قد رضخت لمطالب إمبراطورية أو دولة عظمى فأغلب الظن أنها كانت ستصبح من أكثر المذاهب المسيحية انتشارا في العالم في ذلك الوقت، ولكن نظرا لأنها كانت دائما قابضة على استقلاليتها أمام المستعمر في فترات التكوين الأساسية للمسيحية بعدها..

أيا كانت أيديولوجية المرء أو بوصلته الدينية، فالتاريخ القبطي جزء لا يتجزأ من الميراث المصري، كما أنه يضيف لرصيد الدولة المصرية وعمقها وقوتها إلى يومنا هذا، ويجب أن لا نجحف دور أمثال «أثاناسيوس» و«بنيامين» وغيرهما ممن قادوا حركات التحرر والصمود أمام المستعمر، تماما مثل رموز حركة التحرير الوطني الحديثة كمصطفى كامل وسعد زغلول ومكرم عبيد وغيرهم آخذين في الاعتبار الاختلاف الزمني وشكل الوطنية ومظلتها، فهم جميعا مثلوا القومية المصرية وخدموها. خلاصة الأمر فإن طمس هذه الحقائق أو إغفالها يعد تغريرا بالحاضر وحرمان مستقبل مصر من مصدر ثراء مهم له.

* كاتب مصري