مدينة تحتص الماء

بانكوك.. فينيسيا الشرق وقلب تايلاند الاقتصادي والسياسي تشهد أسوأ فيضانات تكلف الدولة المليارات.. والحلول آجلة

TT

بينما تحصي بانكوك (عاصمة تايلاند)، أو «فينيسيا الشرق»، عدة مليارات كتكلفة لأسوأ فيضانات تضرب البلاد منذ عام 1942، تأتي هذه الأزمة لتكون اختبارا مهما لينغلوك شيناواترا، أول امرأة تشغل منصب رئيس الوزراء في تايلاند، التي تولت مقاليد الحكم في يوليو (تموز) بعد انتخابات ساخنة.

وقد انتخبت حكومتها بعد مجموعة كبيرة من التعهدات، من بينها ضمان سعر ثابت للأرز ورفع الحد الأدنى للأجور في البلاد وتقديم كومبيوترات لوحية مجانية لطلاب المدارس. ولكن تأتي الفيضانات والقتلى والدمار في البلاد لتطغى على هذه التعهدات. ويعتقد الكثير من المحللين أن ينغلوك (44 عاما) المنتخبة حديثا تعاني في سعيها للسيطرة على المؤسسة في أول اختبار مهم للإدارة التي تولت مهامها قبل شهرين، وكانت استجابتها حيال الأزمة ضعيفة.

وعلى الرغم من أن ينغلوك وصلت إلى سدة الحكم من خلال تأييدها لسياسات شعبية مناصرة للفقراء، فإن استجابة الحكومة للكارثة أعطت أولوية لحماية مؤسسات صناعية وعقارات بوسط بانكوك على حماية عامة الشعب والمحافظة على أسباب عيشهم. وقد تعرضت الحكومة لانتقادات شديدة اللهجة لعدم قيامها برد فعل سريع وحازم لحماية المدن المهمة شمال العاصمة من مياه الفيضانات. وتواجه تايلاند أسوأ فيضان تتعرض له على مدار نصف قرن، وقد نتج عن الفيضانات تدمير محاصيل زراعية وغرق أكثر من 14000 مصنع، بما في ذلك مصانع لشركات متعددة الجنسيات مثل «هوندا» و«تويوتا»، كما خلفت الفيضانات قرابة 400 قتيل. وتعرض ما يصل إلى 8 ملايين طن من الأرز، وهي تمثل 23 في المائة من المحصول الرئيسي خلال العام، وتواجه الآلاف من المصانع فترات توقف عن العمل، مما يؤثر على سلسلة الإمداد العالمية ويهدد بإفلاس مصانع تايلاندية وعجزها عن سداد أكثر من ملياري دولار في صورة قروض مستحقة، ولن يعلن عن إجمالي حصيلة القتلى حتى تنحسر المياه عن أكثر من 14 محافظة تضررت من الفيضانات.

وتعد صور الفيضانات التي ضربت تايلاند مألوفة نوعا ما. ويظهر فيها مواطنون ينقلون أشياء ثمينة إلى أماكن مرتفعة، فيما تركت عشرات الآلاف من السيارات في أماكن إيواء السيارات داخل المطارات والمراكز التجارية، ونقلت بعض السيارات إلى بعض الجسور وأماكن مرتفعة أخرى.

وتقول الحكومة إن الفيضانات يمكن أن تظل ما بين 4 و6 أسابيع قبل انحسارها، ودعت إلى التحلي بالصبر، في وقت تقل فيه إمدادات السلع الاستهلاكية مثل الأرز والمياه المعبأة والمعكرونة فورية الإعداد داخل المحلات التجارية. ويشعر المواطنون بحالة من الذعر، ويقبلون على شراء كل ما يباع بالمحلات التجارية. ويبحث المواطنون عن أماكن بديلة لإيواء السيارات. وقد حول مطار في شمال منطقة دون موينغ إلى مركز إيواء، وينام المواطنون النازحون في الردهات أو داخل خيام نصبت في صالة الاستقبال. وفيما اضطر الكثيرون إلى النزوح من المنازل طلبا للشعور بالأمان، بدأت تنتشر تقارير عن وقوع حوادث سرقة. وانتشرت عناصر الشرطة لمراقبة المنازل المهجورة، وليس مساعدة الضحايا.

ما الذي جعل تايلاند تشهد هذه الفيضانات المدمرة؟ سؤال ظل يتردد لمدة من الزمن. لقد اشتركت عوامل طبيعية وأخرى بشرية في خلق هذه الأزمة، فقد جاءت الرياح الموسمية قبل موعدها بستة أسابيع واستمرت أطول من المعتاد، لتملأ المستودعات والسدود والحقول بأمطار تفوق المتوسط بمقدار 30 في المائة. وخزنت الكثير من المياه في سدود خلال فصل الصيف في محاولة لتوفير المياه لزراعة الأرز.

وقال سميث دارماساروجانا، المدير العام السابق لقسم الأرصاد الجوية والرئيس الحالي للمجلس الوطني للتحذير من الكوارث في تايلاند، في تقرير إعلامي إن مما فاقم أسوأ فيضانات تعرضت لها تايلاند على مدار عقود التخطيط العمراني الضعيف. وقد تحولت الفيضانات إلى كارثة بسبب عمليات إزالة الغابات والإفراط في البناء وبناء السدود على الكثير من مجاري المياه الطبيعية والتوسع الحضري وامتلاء القنوات، هذا بالإضافة إلى التخطيط السيئ.

وقد حاولت الحكومة حماية بانكوك، قلب الدولة الاقتصادي والسياسي، من خلال استخدام خنادق وقنوات. ولكن استمرت المياه تندفع تجاه الحواجز التي تحمي المدينة، وانتشرت الفيضانات في بعض المناطق بالأطراف الشمالية والشرقية. وفيما تنتظر باقي المدينة لاكتشاف ما إذا كان من الممكن تصريف مياه الفيضانات بأمان عبر شبكة قنواتها، يتساءل متخصصون في قضايا بيئية وفي إدارة المياه عما إذا كانت تايلاند قادرة على التعلم من كارثة العام الحالي وتتعلم من جديد وسائل قديمة عن التكيف مع الفيضانات الشديدة.

ونقلت صحيفة «بانكوك بوست» عن هانارونغ ياووالرت، رئيس مؤسسة إدارة موارد المياه المتكاملة في بانكوك: «في الماضي، كانت هناك أراض رطبة وغابات ساعدت على امتصاص تدافع الفيضانات، ولكن اختفى الكثير من هذا في الوقت الحالي، حيث تستخدم الأراضي الرطبة لزراعة الأرز، وفي بعض الأحيان تتم زراعة ثلاثة محاصيل في العام بدلا من اثنين كما كان من قبل. وتقوم السلطات بتحويل كميات أكبر من المياه أسفل التيار. وفي نفس الوقت، قام مقاولون محليون بالبناء في السهول الفيضية شمال بانكوك. ويتآكل حزام سعته 65 كيلومترا حول العاصمة ومدينة أيوتهايا القديمة بسبب المنشآت الصناعية والسكنية. ويحمى الكثير منها باستخدام خنادق خراسانية لحمايتها من الفيضانات الموسمية».

ويقول بعض الخبراء إن تايلاند ودولا نامية أخرى في المنطقة يجب أن تحاول التعلم من الأخطاء الأميركية في إدارة المياه. وقد أدت عقود من بناء السدود وغيرها من مشاريع الهندسة المدنية المصممة من أجل تسخير طاقة نهري الميسيسيبي وميسوري في بعض الحالات إلى زيادة الفيضانات بطول سهول وسط غرب الولايات المتحدة ودلتا النهر الممتد إلى خليج المكسيك. ويضغط متخصصون في البيئة حاليا من أجل استخدام أوسع لما يطلق عليه دفاعات الفيضانات الطبيعية، مثل حماية الأراضي الرطبة والمانغروف وتبني وسائل أخرى لدفع أكبر قدر ممكن من المياه للدخول إلى الأرض.

ويتسبب تبادل الاتهامات بخصوص كيفية التعامل مع أسوأ فيضانات في تايلاند في انتكاسات جديدة لرئيسة الوزراء التايلاندية، فيما تستمر التكلفة المالية للكارثة في الارتفاع وتعمل حكومتها على خطط لضخ مليارات من الدولارات بهدف تعزيز الاقتصاد المتعثر في البلاد.

ويقول محللون إن مشكلة ينغلوك الرئيسية ترجع إلى المعلومات العشوائية عن الفيضان، ولخص ذلك دعوة وزير العلوم المتعجلة الأسبوع الماضي لإخلاء جزء من العاصمة.

وقد أثارت المعلومات الخاطئة المواطنين وبثت الرعب في الشركات الأجنبية، التي أغلقت عمليات في مصانع داخل تايلاند لشراء الوقت للسيطرة على الأزمة. ويقدر المصرف المركزي حاليا أن الفيضانات، التي خلفت 380 قتيلا على الأقل وتأثرت بها أكثر من ربع مليون وظيفة، ستخفض معدل النمو داخل البلاد بمقدار نقطتين مئويتين على الأقل خلال العام الحالي، فيما يستمر الارتباك في سلاسل الإمداد بمختلف أنحاء آسيا.

وقد كانت استجابة الحكومة التايلاندية للكارثة تفتقر إلى الصواب والتنسيق في كافة الجوانب، مما أظهر ضعف خبرتها السياسية وسيطرتها على الإدارة. ويوجد تصور شائع بأن الحكومة في الواقع تحت سيطرة شقيق ينغلوك الأكبر رئيس الوزراء السابق تاكسين شيناواترا، الذي يقال إنه يمارس نفوذه من إمارة دبي، حيث يعيش هاربا من حكم بالسجن لسوء استخدامه المنصب ونفي بعد الإطاحة به قبل خمسة أعوام. وقد واجهت ينغلوك، الأخت الصغيرة للهارب تاكسين، تساؤلات منذ البداية عن مؤهلاتها واستقلالها. وقد اختارها تاكسين كمرشح للحزب السياسي الذي يدعمه، ويعتقد أنه من اختيار مجلسها الوزاري من دبي.

لم تكن رئيسة الوزراء تمتلك أي سيطرة على الموقف لأن غالبية الوزراء لم يكونوا يأبهون لحديثها - وكانوا ينتظرون أوامر تاكسين. كانت هناك فوضى في مجال الاتصال بين الحكومة - وكانت الوكالات المختلفة تتناول قصصا مختلفة. وجد تحول التايلانديين إلى «يوتيوب» سعيا للحصول على الحقائق من أساتذة الجامعات أو الأكاديميين. ويرى تاكسين أن ينغلوك تناضل بقوة وستسعى في الوقت الراهن إلى الاستعانة بالجيش - محاولة يائسة أخيرة من جانب تاكسين على اعتبار أنه على غير وفاق مع المؤسسة العسكرية - التي تزعم معارضته لها.

لا تحيط مياه الفيضانات التي تفيض عن الحواجز حول العاصمة بانكوك بحكومة ينغلوك الوليدة فحسب، بل منتقدوها السياسيون المستعدون لاستغلال هذا الزلل.

ويقود جهود تايلاند لمحاربة الفيضانات غرفة عمليات واحدة في المطار الدولي القديم في بانكوك، حيث الانقسامات بين الحكومة الاشتراكية والبيروقراطيين المحافظين وقادة الجيش - الذين قادوا انقلابا ومظاهرات سياسية حاشدة قبل خمس سنوات بما فيها تلك التي جرت في بانكوك والتي راح ضحيتها 90 شخصا.

أثار الفيضانات تساؤلات جديدة حول الأولويات الاقتصادية لينغلوك، بما في ذلك التزامها القوي بالسياسات الاشتراكية في وقت الأزمة الوطنية. ويرى المحللون الاقتصاديون أن مرحلة الفيضانات تمثل ضرورة لمزيد من الإنفاق على البنية التحتية بما في ذلك إقامة نظم إدارة أفضل للمياه لتجنب الأزمات المقبلة والتأكيد للمستثمرين في الولايات الصناعية أن فيضانات العام الحالي حالة شاذة وليست قاعدة.

وقد حث رئيس الوزراء الأسبق وزعيم المعارضة الحالي أبهيسيت فيجاجيفا، الذي واجه أزمة فيضانات محدودة العام الماضي ينغلوك على إعلان حالة الطوارئ وتأجيل سلسلة المساعدات المالية التي كانت عاملا رئيسيا في فوزها بالانتخابات بداية العام الحالي. واقترح فيجاجيفا أن تعيد ينغلوك تخصيص الأموال المخصصة للسياسة الاشتراكية المدللة لراغبي تملك المنازل والسيارات للمرة الأولى، وهو البرنامج الذي يقول عنه منتقدوه إنه سيفيد عائلتها وأصحاب شركات العقارات المقربين منها، إلى المتضررين من الفيضانات الذين هم في حاجة ماسة إلى المأوى والغذاء الأساسي. لكن هذه الدعاوى جوبهت بالتجاهل. ولا تزال ينغلوك ترفض ذلك حتى الآن، مؤكدة أن مثل هذا الإعلان قد يبث الشكوك في قلب المستثمرين الأجانب حيث تستعد تايلاند لذروة الموسم السياحي.

وقد تسبب أسوأ فيضانات تشهدها تايلاند منذ عقود في إلحاق خسائر قوية وهو ما أثر على الإنتاج الصناعي في البلاد، فأعلنت السلطات أن مستوى البحر سيصل إلى أعلى مستوى له في الفترة من 28 إلى 31 أكتوبر (تشرين الأول) وحذرت التايلانديين بضرورة الاستعداد لمزيد من الفيضانات.

وقد ازداد الوضع سوءا في ولاية أيوذايا حيث طلبت جامعة أيوذايا المساعدة في نقل 70.000 مجلد من النصوص البوذية لتفادي تدميرها، فيما لا يزال هناك نحو 20.000 مخطوطة تنتظر نقلها.

ويقدر وزير المالية ثيراتشاي فوفاناتنارانوبالا الخسائر الناجمة عن الفيضان بأكثر من 6.5 مليار دولار، بحسب تقييمات مصارف الاستثمار العالمية. وتعتبر تايلاند التي كانت دولة زراعية بالدرجة الأولى في السابق، تعتمد بشكل كبير الآن على التجارة مع باقي دول العالم بعد بزوغ نجمها في الثمانينات كمنصة إنتاج للشركات اليابانية والأميركية.

وقد أسهم ارتفاع نصيب التجارة في رفع دخل المواطن التايلاندي، وانخفضت معدلات الوفيات بين الأطفال وارتفع معدل العمر المتوقع. ويقوم 40 في المائة من الاقتصاد التايلاندي على التصنيع والصناعات الأخرى، إلى جانب قطاع الخدمات الذي تفوق في الوقت الراهن على الزراعة.

وقد أخليت المناطق الصناعية التي تعمل فيها الشركات الأجنبية العاملة في مجال الإلكترونيات والسيارات والبضائع الاستهلاكية، وأغلقت الآلاف من المصانع. ويشعر مصنعو الأقراص الصلبة بأثر الفيضانات، كما أغلق مصنع «هوندا» الذي يعمل به 6.000 عامل، وقد غمرت مئات السيارات التي لم تطرح للبيع بمياه الفيضانات. وقد نجت شركات أخرى مثل «جنرال موتورز» و«فورد» من الفيضانات بسبب تمركز مصانعها في شرق تايلاند، خارج منطقة الفيضانات. لكن الكثير من مصانع مورديها تقع في المنطقة التي غمرتها الفيضانات.

وكانت شركات السيارات اليابانية، «مازدا» و«تويوتا» وشركة «توشيبا»، المصنعة للإلكترونيات، الشركات الأخيرة في سلسلة طويلة ومتنامية من الشركات الكبرى التي توقف عمل منشآتها التي تأثرت بالفيضانات. ويتوقع أن تشهد صناعة الحاسبات في البلاد تباطؤا في الإنتاج العالمي لمحركات الأقراص الصلبة نتيجة الفيضانات، حيث تعتبر تايلاند ثاني أضخم دولة في العالم منتجة لهذه الأجهزة، والكثير من المنشآت قد غمرت بالمياه أو تعمل بكفاءة محدودة في المكونات الرئيسية.

وتخطط الحكومة لإنفاق ما لا يقل عن 130 مليار باهت (4.2 مليار دولار) كإعانات للفيضانات وإعادة التأهيل، ودفع العجز في الإنفاق إلى مستواه القانوني 20 في المائة من إجمالي الإنفاق السنوي الكلي. وقد أشارت الحكومة أيضا إلى أنها قد تحصل على قروض خارجية لتمويل جهود الطوارئ.

ومع تحذيرات القادة التايلانديين للشركات والسكان بتوقع حدوث فيضانات هائلة لشهر آخر على الأقل، تحول الانتباه في الوقت الراهن الآن إلى الكيفية التي يمكن من خلالها لهذا المحور الإنتاجي العالمي الرئيسي تجنب أزمات مستقبلية، وما إذا كانت قادرة على إعادة إحياء الأراضي الرطبة والغابات التي استخدمت لتصريف مياه الفيضانات، والتي تم التخلي عنها الآن للولايات الصناعية الممتدة ومشاريع الإسكان.

وأعلن أبيكارت جونغسكول، الأمين العام لمكتب الاقتصاد الزراعي عن تضرر ما يقرب من 15 في المائة من حقول الأرز في تايلاند. تقييمات الدمار هذه لا تشمل الأرز في المخازن التي غمرتها المياه.

وكان وزير الزراعة قد توقع إنتاج 25.8 مليون طن من الأرز، المحصول الرئيسي للبلاد، الذي يمثل 70 في المائة من الإنتاج السنوي، قبيل الفيضانات.