حرب الأفيون

TT

ظلت الصين تمثل منارة للحضارة ومصدرا مهما للثقافة، وتشير المصادر التاريخية إلى أن الثقافات حول الصين، مثل اليابانية، ترجع جذورها للحضارة القارية الصينية التي نُقلت إلى الدول المجاورة عبر الهجرة والكتب، والحقيقة الثابتة أن الصين كانت لها دائما نظرة اعتزاز بالنفس وبحضاراتها حتى في أحلك ظروفها التاريخية، كما أنها كانت قوة إقليمية فاعلة على مر التاريخ، ولكنها كانت أيضا قوة تجارية عظمى في أغلبية العصور، فلقد كانت الصين منذ أن اكتشف ماركو بولو الطريق البري إليها مجالا لجذب التجارة الغربية، فظهر ما عُرف بطريق «الحرير والتوابل» حيث بدأت أوروبا تستورد منها بقوة، وظلت الصين يعتريها شعور من «البارانويا» تجاه الأجانب، فكانت تُتاجر وتُصدر ولكنها رفضت استيراد الفكر أو الثقافة الغربية وبدرجة أقل السلع الغربية.

ومع تراكم القرون والحقب وانتشار التوجهات الاستعمارية للغرب في الصين بدأ الميزان التجاري يعاني عجزا كبيرا لصالح هذه الدولة ليس فقط على المستوى السلعي والنقدي بل والثقافي أيضا، وبهذا بدأت الصين تستوعب أطناناَ من الذهب والفضة الغربية مقابل السلع التي تصدرها، وهو ما خلق حالة من التوتر الشديد في العلاقات بين الطرفين، وعندما ورثت بريطانيا دور القوة العظمى من إسبانيا بدأت اتصالاتها المباشرة تقوى مع الصين ومعها العجز في الميزان التجاري في غير صالحها، فكان لا بد من إيجاد بديل للمعادن النفيسة لسد العجز المزمن لهذا الميزان لصالح الصين، فكانت تجارة المخدرات هي الحل الأمثل الذي تفتق له الذهن البريطاني ومن قبله الإسباني، وإذا لم تكن الإمبراطورية البريطانية هي صاحبة الفكرة فقد كانت هي صاحبة أوسع تنفيذ لها، فكانت شركة الهند الشرقية بما لها من أراض في آسيا تقوم بزراعة الأفيون لتقوم الشركة بتصديره للصين بدلا عن الفضة والمعادن النفيسة.

كان الإمبراطور الصيني يرفض دائما الوجود الغربي في أراضيه لاختلاف الثقافة والشعور بالعداء تجاه الأجانب وما يمثلونه من قيم يرفضها الشعب الصيني قبل قيادته، ولكن الغرب ظل يضغط من أجل الوجود في المنطقة الساحلية الجنوبية للصين بهدف التجارة، وهكذا ضغط الغرب وتراجعت بكين أمام ضغوطه الشديدة، ولكن بكين حرمت تجارة الأفيون بعدما بدأت تظهر أضراره الاجتماعية والاقتصادية على البلاد، غير أنها لم تكن صاحبة قوة في فرض سيادتها، فالقوة العسكرية كانت في صالح بريطانيا والغرب، وعندما عاقبت بكين التجار الصينيين المتورطين في الاتجار بالأفيون بالإعدام بدأت الأزمة بين لندن وبكين، فظلت السياسة البريطانية تسعى لفتح تجارة الأفيون من ناحية وإيجاد موطئ قدم لتجارتها من ناحية أخرى، وهكذا أصبح الصدام مسألة وقت، وفي 1840 نزلت القوات البريطانية في إقليم «كانتون» وبدأت حرب الأفيون الأولى والتي لم تكن الصين ندا فيها، فالجيش البريطاني تفوق من حيث العدة والعتاد والتكتيك وهو ما كفل له هزيمة الحشود الصينية بسهولة، وانتهت الحرب بإذعان الصين للمطالب البريطانية ففتحت تجارة الأفيون وأجبرت الصين على فتح مدن بعينها للتجارة البريطانية وتم انتزاع جزيرة هونغ كونغ من الوطن الأم، وهكذا خسرت الصين في حرب واحدة جزءا من أراضيها، وجزءا من تجارتها والأهم من ذلك جزءا من عزة النفس الصينية العظيمة، وأخيرا جزءا كبيرا من صحة أبنائها ومجتمعها.

ولكن المارد الصيني أبى واستكبر، وسرعان ما بدأ ينقض بنودا من الاتفاقية وظل راغبا في إبعاد الغربيين عن بلاده ومعهم تأثيراتهم السلبية، وهو ما أدى إلى ما عرف بحرب الأفيون الثانية في عام 1856 والتي اشتركت فيها القوات الفرنسية أيضا وانتهت بمزيد من التنازلات الصينية وأسفرت عن استباحة جنوب البلاد لصالح التجار والمصالح الغربية، بما في ذلك عدم تجريم تجارة الأفيون.

حقيقة الأمر أن التاريخ مليء بالحروب لأسباب مختلفة لها، ولكنّ حربي الأفيون الأولى والثانية في التقدير لها تميز يمكن أن نحدد أهم ملامحه فيما يلي:

أولا: أن هذه حرب بدأت لأسباب تتعلق بإجبار دولة على استيراد المخدرات وفتح تجارتها ضمن أسباب أخرى، والمعتدي هنا دولة غربية نادت بنشر التحضر في العالم النامي، وهو ما يعكس أن السياسة في نهاية المطاف لها وجهها القبيح الذي تمليه المصلحة على المبادئ السامية التي تنادي بها الدول وسياسيوها.

ثانيا: كان لهذه الحرب أهدافها الاستراتيجية الخفية، فإلى جانب محاولة فتح الصين واستباحة أراضيها بأساليب مثلما سعى الاستعمار في مصر والوطن العربي، كان أحد أهداف تجارة الأفيون ضرب الدولة الصينية في قيمتها المضافة وعلى رأسها الطاقات البشرية أو بمفهوم اليوم «الموارد البشرية» الخاصة بها، فالغرب ما كان يريد للصين أن يعلو شأنها، فإلى جانب استنزاف المعادن النفيسة من السوق الصينية، فقد ابتليت هذه الدولة بمرض أخّر نموها الاجتماعي والتجاري والاقتصادي، وهو الأمر الذي أضعف من قوة حكومتها المركزية بشكل كبير.

ثالثا: كانت تجارة الأفيون رمزا مهما لخطورة عدم تنظيم المنظومة التجارية الدولية في ذلك الوقت، فلقد كانت الدول الغربية في حروب تجارية ممتدة منذ فرض النظام «الميركانتيلي Mercantilism» وحتى ظهور مفهوم التجارة الحرة وهو ما تزامن بشكل كبير مع حربي الأفيون أو قبلهما ببعض الحقب، وفي هذه الحرب الضروس كانت كل الأسلحة متاحة بما في ذلك تجارة المخدرات كوسيلة لخلق التوازن التجاري، ولكن يلاحظ أن هذه التجارة على الرغم من تأخر تجريمها في بعض الدول الغربية، فإن هذه الدول لم تكن تدخل فيها لمعرفتها بمخاطرها الاجتماعية والاقتصادية، ولكنها استباحت الدول الأخرى.

لقد سعى الغرب لإدخال الصين في سبات سياسي عميق، وينسب لنابليون بونابرت مقولته «اترك المارد الصيني ينام لأنه عندما يستيقظ فسيهز العالم هزا»، وقد كان الرجل محقا، فعندما استيقظت الصين فإنها هزت العالم، فاليوم هذا المارد العالمي مرشح لأن يكون من الأقطاب الأساسيين في السياسة الدولية، فالمارد التجاري الذي ضربه الغرب بحرب الأفيون أصبح اليوم من أكبر المشاركين في التجارة، وتكفي الإشارة هنا إلى أن الصين حققت فائضا في ميزانها التجاري مع الولايات المتحدة عام 2010 بلغ 250 بليون دولار، ومن سخرية القدر أن العالم الغربي يسعى لاهثا مرة أخرى لسد العجز في ميزانه التجاري مع الصين، ولكن اليوم من خلال طلب رفع قيمة العملة الصينية بدلا من تصدير المخدرات لها.

هذا أمر لا يجب استغرابه فالحكمة الصينية تقول «إن المسافة تقيس أصالة الحصان، أما الزمن فيقيس أصالة الإنسان»، واعتقادي ثابت أن الزمن حسم مسألة أصالة الإنسان الصيني وحضارته في اتجاه نعرفه ونقدره جميعا.

*كاتب مصري