بيان أحداث القطيف.. ولعبة الأقنعة

المذهب الديني والسياسة جديلة لم تنفصل يوما في منطقة الخليج

الحوار الوطني جمع مختلف أطياف المجتمع السعودي تحت قبة مركز الملك عبد العزيز (الشرق الأوسط)
TT

أخرج قبل يومين لفيف من المثقفين السعوديين بيانا سياسيا تنديديا حول أحداث القطيف (شرق السعودية)، ووضع البيان اللوم كاملا في كل الأحداث على وزارة الداخلية السعودية، كما تناول البيان، بالرفض أيضا والتنديد، نتائج محاكمة الخلية المتهمة بقلب نظام الحكم في السعودية، أو ما سماهم البيان بـ«الإصلاحيين».

يلفت الانتباه في هذا البيان أنه خلا من أسماء أي مثقفين معروفين بالاهتمام بالحراك السياسي، باستثناء محمد سعيد طيب، الموقع الأول، والدكتور توفيق السيف المثقف الشيعي المعروف، فيما كانت بقية الأسماء غير معروفة على الصعيد المحلي السياسي.

في البدء، لا بد من الإشارة إلى أننا نسعى في هذا الاستقراء إلى محاولة فهم أبعاد الدعاوى السياسية الواردة في البيان، وليست القضائية، فما يختص بالخلية التي وجهت لها تهمة قلب النظام والنقاش فيها يكون عبر المحاكم وأدواتها القضائية. ولكن ما سنكرس عليه في معرض فهم الخلفيات السياسية لهذا البيان هو الجانب الذي يتعلق بالدعاوى السياسية والفكرية المتعلقة بأحداث القطيف الواردة في البيان آنف الذكر.

قبل الشروع في هذا الاستقراء، ينبغي التأكيد على أن هذه القراءة تؤكد على أن السعوديين من أبناء الطائفة الشيعية هم مكون رئيسي، وجزء لا يتجزأ من صميم الهوية السعودية، والحديث هو بطبيعة الحال عن الطابع الحركي لـ«الإسلام السياسي الشيعي» في شرق السعودية، حيث يتركز أبناؤه من هذا المذهب الإسلامي.

على أي حال، إشارة البيان إلى «الواقع المتأزم في المنطقة» ربما يكون مدخلا مهما لفهم محتوى البيان على الصعيد السياسي، خصوصا أن موقعه الأول ومسوقه محمد سعيد طيب الذي يقدم نفسه في صيغ سياسية، منها القومية الناصرية والليبرالية وحتى الإسلامية، وهو أحد أبرز موقعي البيانات السياسية في السعودية بكل ما تحملها في أوقات كثيرة من تناقضات قيمية وفكرية (راجع «الشرق الأوسط» عدد رقم 11791 تحت عنوان: البيانات السياسية في السعودية بين راكبي الأمواج والقافزين من القوارب).

طيب يخلط الأوراق في هذا البيان بين ما هو «أخلاقي» وما هو «سياسي»، ولا يمكن أن يفهم إلا أنه خلط عن قصد سياسي، خصوصا حين الانطلاق من الخلفية القومية الناصرية لطيب التي يؤكد عليها في كل مقابلة إعلامية. والحال، أنه أخلاقيا لا خلاف على نبذ كل أشكال التفرقة الطائفية على المستوى الوطني، ولكن أيضا لا بد في هذا المنحنى الأخلاقي من استدراك سياسي، فطيب يدعو في البيان إلى عدم «الهروب من الواقع المتأزم في المنطقة وإلقاء اللوم على التأثيرات والارتباط بالخارج، والتشكيك في الولاء للوطن، تحت لافتات إقليمية أو دولية».

هذه الجملة تحديدا يتجلى فيها خلط الأوراق الأخلاقية بالسياسية لدى طيب في البيان، فالواقع ألا تشكيك حكومي يحفل بالتعميم في ولاءات جميع أبناء الطائفة الشيعية، ولكن الواقع أيضا يشير إلى خيوط سياسية متشابكة في هذا الحراك وتصريحات رموزه، تؤكد على نوع من التناغم السياسي الواضح مع أدبيات وأجندة الإسلام السياسي الشيعي المصدر من إيران، وهذه جزئية سنأتي على تفصيلها لاحقا في هذه القراءة.

ولكن لماذا يعمد طيب إلى هذا الخلط بين السياسي والأخلاقي، ومن وراءه تبرئة ساحة إيران من أي لعب بخيوط المسرح السياسي في هذا الحراك؟ في الواقع أن هذا السياق السياسي في قراءة طيب ليس مثيرا للدهشة، بل يبدو شديد الاتساق مع قناعات طيب الفكرية المنتمية للتيار القومي الناصري، الذي يرى في إيران وذراعها العسكرية في لبنان (حزب الله) الملجأ الأخير لما عرف بدول الممانعة في المنطقة، خصوصا مع بوادر سقوط النظام السوري وتزايد الضغوط الدولية عليه.

وبعد موقف إيران وحزب الله الداعم للثورات العربية باستثناء سوريا، رغم كل ما يتعرض له الشعب السوري من تقتيل منظم بشكل يومي، بدا «أصدقاء إيران وسوريا» من القوميين الناصريين في مأزق أخلاقي حقيقي مع سقوط أسطورة دول الممانعة وشعاراتها المزيفة. والدفاع عنها أصبح أشبه بالمحرقة السياسية.

فاستغل طيب وتياره الفكري أحداث القطيف في محاولة تحييد الدور الإيراني لصالح البعد الطائفي عند الحديث عن أحداث القطيف، واستخدام الدعاية «الأخلاقية» ضد الطائفية في أحداث القطيف، وبالتالي تخفيف الشحن السياسي تجاه إيران.

في الواقع، أن أي قراءة تحليلية «سياسية» للصراع في منطقة الشرق الأوسط، لا يمكن فيها تحييد البعد الديني الآيديولوجي بأي حال من الأحوال، فالعامل الديني جزء أصيل من محددات الحراك السياسي في المنطقة.

بالطبع محمد سعيد طيب ليس متفردا في هذه الأجندة السياسية، فالأب التنظيري للفكر القومي الناصري محمد حسنين هيكل أكثر وضوحا في هذا الطرح، وهيكل يقول عن طيب «ما زلت كلما قابلت محمد سعيد طيب أشعر أننا على مقعدين متجاورين فوق السحاب».

لهيكل رأي في أحداث سوريا الدامية، كالتالي «ما يجري في سوريا من فتنة طائفية يقوم بها الأعداء يهدف إلى الإعداد لضرب إيران في المرحلة اللاحقة».

ويزيد في رأيه عن حزب الله وإيران «أعتقد أننا ظلمنا بشدة السيد حسن نصر الله ولا أعلم سر الهجوم على هذا الرجل».

وانتقد هيكل هجوم بعض الدول العربية، وفي مقدمتها مصر، على إيران قائلا: «أنا لا أعرف لماذا ندخل في عداء مع إيران؟ وحتى هذه اللحظة لا أستطيع أن أفهم لماذا نحن في هذا البلد لم نعترف بها منذ أول يوم؟ لا أجد سببا لهذا على الإطلاق، وأذكر حين قابلت الخميني لأول مرة في باريس عام 1979 وقال لي: لماذا تعاديني مصر؟».

حسنا، لو أردنا افتراض أن من نزل للشارع في مدينة القطيف السعودية، لا يتبعون أي أجندة سياسية بمواصفات إيرانية، كيف يمكننا فهم تصريحات رموز ومنظري هذا الحراك والداعين له من شيوخ الطائفة الشيعية في المنطقة؟

وبشكل أوضح، هل يمكن أن يكون مجرد مصادفة أن يسقط الشيخ حسن الصفار ثورة الشعب السوري من خطبته على منبر الجمعة التي قال فيها «الشعوب التي شهدت ثورات الربيع العربي في مصر وتونس واليمن والبحرن باتت اليوم تفاخر بنهجها السلمي». بالتأكيد هو ليس مصادفة، بل هو تماه مع الطرح الإعلام الإيراني، والذي تبناه الكثير، وليس الكل بالطبع، من رموز الحراك الإسلام السياسي الشيعي في دول الخليج (السعودية، البحرين، الكويت).

الشيخ حسن الصفار، أحد رموز شيوخ الشيعة السعوديين الذين فتح لهم خطاب الملك عبد الله الإصلاحي باب العودة للوطن، بعد ما يقرب من الخمسة عشر عاما من المعارضة، احتضنتها العاصمتان دمشق وطهران في فترات سابقة، وشارك في مؤتمر الحوار الوطني في دورته الأولى، في واحدة من أبرز خطوات الدولة في الانفتاح الداخلي، سياسيا واجتماعيا، وتقديم المكون الشيعي كجزء طبيعي من المشهد السياسي العام في البلاد، وهو اليوم أيضا الذي يدعو من على منابر خطب الجمعة الشباب للنزول للشارع في مظاهرات حركية، مع تأكيده على أهمية عدم الانزلاق للعنف.

الشيخ الصفار ليس وحيدا في هذا التناغم السياسي مع أدبيات الإعلام الإيراني، ومواقف الخارجية الإيرانية، فهناك الشيخ نمر النمر، وهو «رأس الحربة» في تجييش بعض أبناء الطائفة الشيعية في العوامية والقطيف.

ولكن بالعودة لذات البيان الذي ينفي أي علاقة بالمواقف السياسية الخارجية على الحراك الشيعي في السعودية، يبدو ملحا في هذا السياق إيراد مقتطفات من نصوص خطب النمر على منابر الجمعة السعودية التي يتحدث فيها عن أحداث البحرين، يقول النمر: «الحل الأمني في البحرين لم يحل القضية، ونستطيع في أي لحظة أن نفجر الأوضاع وأشد مما كانت». أليس مشروعا هنا السؤال من كان يقصد النمر عند استخدامه ضمير الجمع مع من نزلوا الشارع في البحرين في قوله «نفجر»؟

والحال أن النمر لا يتحرج من الأساس من طرح رؤية انفصالية، فهو لا يرى انتماء من الأصل للدولة السعودية، وهذا ما أكد عليه بدوره حمزة الحسن المعارض الشيعي السعودي في لندن على قناة «الحرة» الأميركية، ورأى أن النمر لا يلام على تصريحاته التحريضية ضد الوحدة الوطنية.

ولكن هل رؤية النمر الثورية مبدأ أخلاقي ثابت أم يتغير بحسب أرض هذه الثورة؟ يجيب النمر بنفسه على هذا التساؤل في معرض حديثه عن إيران وولاية الفقيه فيها قائلا: «في إيران لا يمكن أن يحدث انقلاب لو حدث سيعترض عليه الشارع، ونجاد ناجح لأن خامنئي وراءه، وهذا فخر لنجاد، ولا خير فيه أن تمرد على الفقيه، فإيران دولة قوية وإن كان فيها نوع من الكبت فهي ليست دولة معصومة، لكن عندما نقارنها بالدول العالمية لا تقارن». لن نشير هنا إلى الثورة الخضراء في إيران قبل 3 أعوام، وطريقة القمع الممنهج التي جوبه بها الشباب الإيراني في الشارع، فليس هذا موضع نقاشه.

ولكن ما هو مفهوم ولاية الفقيه الذي رأى النمر أن لا خير في التمرد عليه؟

وهنا، نقدم لمحة موجزة عن هذا المفهوم الديني السياسي الخطير، بصرف النظر عن حقيقة ومدرسة نمر النمر الفقهية بهذا الخصوص، فليس المهم «فقهيا» إن كان من أتباع نظرية ولاية الفقيه وفق الصيغة الخمينية أو الصيغة الشيرازية، فنتائج نشاطه السياسي والمنبري لا تختلف في نهاية المطاف مع من يؤمن بنظرية ولاية الفقيه.

ويستند مفهوم ولاية الفقيه في المذهب الشيعي على ولاية وحاكمية الفقيه الجامع للشرائط في عصر غيبة الإمام الحجة، حيث ينوب الولي الفقيه عن الإمام المنتظر في قيادة الأمة وإقامة حكم الله على الأرض، وطاعته ملزمة في الأمور التي تخص السياسة والقيادة وصناعة القرار في الشأن العام، ورد هذه الولاية شرك بالضرورة.

الدكتور توفيق السيف المثقف الشيعي، أحد الموقعين على هذا البيان موضع النقاش، يبدو موقفه محيرا نوعا ما في تجاهله لأي تطرف شيعي في الأحداث رغم الآراء السابقة التي استعرضناها في الأعلى. فعند ظهوره التلفزيوني على قناة «روتانا خليجية» وجهت له مذيعة البرنامج سؤالا حول ما إذا كان يرى تطرفا من الطائفتين في الأحداث الأخيرة، رد بإجابة غير واضحة نصها كالتالي: «أنا أتكلم عن إثارة الكراهية».

وعلى ذات النسق، ذكر البيان الذي وقع عليه السيف ما نصه: «إن دور القوى الأمنية يجب أن ينحصر في ضمان سلمية التظاهر، وعدم الاستفزاز وإثارة المشاعر بإقامة نقاط التفتيش غير المبررة، كما في منطقة القطيف منذ ما يزيد على 9 أشهر وحتى اليوم».

وهو ما يضع السيف في موقف مبهم آخر، فقد صرح في ذات البرنامج، الذي سبق إظهار البيان بنحو الأسبوع بقوله: «العنف الشديد وبعض أعمال التخريب، هذه ظواهر جديدة إلى حد ما، ولكن سحب القوات الأمنية وتخفيفها لكثافتها وحصارها المفروض، ساهم في محاصرة العنف ضمن هذه الحدود وتهدئتها».

في الواقع، أن أحداث العنف الشديد والتخريب ليست كما وصفها الدكتور السيف بقوله: إنها «جديدة إلى حد ما» فقد سبقها تفجيرات أبراج الخبر 1996 التي تبنتها خلية حزب الله السعودي.

إصرار البيان على أن الحكومة السعودية تمارس «رسميا» تمييزا طائفيا تجاه الشيعة، يجعلنا نتساءل من أين جاء هذا التأكيد إذا كان لا يوجد أي تشريعات نظامية أو قانونية في السعودية تقر بميزات طائفية على أي مستوى، وبالتالي ما هو موجود في بعض الجوانب هو تمييز سلبي، لكنه غير مشرعن قانونيا.

يؤكد ذلك موقف الحكومة السعودية ضد كل من يسيء استخدام المنابر.

بينما لا نجد على سبيل المثال أي إدانة ثقافية من طيب ورفاقه، من حملة راية الحقوق المدنية، لتسييس منابر الجمعة في المدن الشيعية، وتوظيف البعد العقائدي لبعض أبناء هذه الطائفة لخدمة مفاهيم سياسية، ليس لمنبر الجمعة علاقة بها.

محاولة تنزيه الحراك السياسي في الشارع الشيعي بالكامل خاطئة ولا شك، ومحاولة تخوينه بالكامل أيضا مجحفة بدورها تجاه فكرة مشروعية المطالب. مفهوم توظيف البعد العقدي سياسيا ليس مفهوما طارئا، ويجب التعامل معه على هذا الأساس.

وهذا ما يؤكد عليه ولي نصر، الباحث الأميركي من أصول إيرانية في كتابه «صحوة الشيعة» في معرض حديثه عن الصراع في منطقة الشرق الأوسط، قائلا: «في القطيف، فاز الشيعة بمقاعد كافية في المجلس البلدي تتيح لهم أن يناقشوا صراحة وعلنا المشاكل التي تواجه، في نظرهم، الطائفة التي يمثلونها. وإذا ما أخذنا في الحسبان إرث العلاقة بين الوهابيين والشيعة، التي ما كانت إلا لتزداد سوءا بفعل الحركة السلفية المتنامية في المملكة، فإن احتمالات وجود نزاع طائفي في المملكة تكاد تكون معدومة. لقد كانت السعودية في ذهن آية الله السيستاني بشدة في مايو (أيار) 2005 عندما انتقد الحكومة اليمنية على قمعها تمردا قام به الزيديون (فرع من الشيعة) في شمال غربي اليمن».

ويزيد نصر «كان ذلك تحذيرا لا مواربة فيه موجها إلى النظام السعودي بأن الصلات الشيعية العابرة للقوميات والمؤسسة الدينية في النجف ستمضي قدما في تحدي الأنظمة السنية».

المذهب الديني والسياسة جديلة لم تنفصل يوما في المنطقة، فلا مبرر منطقيا لفصلها الكامل الآن، تحت غطاء الدعايات الأخلاقية ذات المضامين السياسية.

وكما بدأنا هذه المحاولة لاستقراء هذا البيان السياسي، بالتأكيد على أن التعميم بالولاءات السياسية الخارجية لكل أبناء الطائفة الشيعية غير عقلاني ولا يخدم الوحدة الوطنية، فيجب أن ننهيه بمثله.

* صحافي سعودي من باريس