بريطانيا تعزل نفسها عن أوروبا

قرار كاميرون استعمال «الفيتو» ضد إصلاحات مالية داخل الاتحاد الأوروبي أثار جدلا واسعا في بلاده ونقمة عليه في القارة

كاميرون وميركل في قمة بروكسل الأخيرة الأسبوع الماضي (إ.ب.أ)
TT

خلال قمة بروكسل في الثامن والتاسع من شهر ديسمبر (كانون الأول) الحالي، رفض رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون توقيع اتفاق بين الدول الأوروبية بالإجماع حول إدخال إصلاحات مالية على اتفاقية برشلونة. ومن المرجح أن يؤدي هذا القرار، الذي لم يسبق له مثيل، إلى انعكاسات كبيرة، ليس فقط على علاقة بريطانيا بأوروبا، ولكن أيضا على الحكومة الائتلافية الضعيفة التي تحكم بريطانيا والتي تضم المحافظين والديمقراطيين الأحرار.

كانت قمة بروكسل قد عقدت بناء على طلب من فرنسا وألمانيا لإقناع الـ27 دولة الأعضاء في الاتحاد الأوروبي بالتوصل إلى اتفاق جديد. وقالت الدولتان إن الاتفاق كان ضروريا لتطبيق سياسات أكثر صرامة في الميزانية ولتنسيق السياسات الاقتصادية بشكل أكبر. وفي حالة الموافقة على هذه الاتفاقية، فإن هذه التدابير سوف تطبق فقط على الـ17 دولة الأوروبية التي تستخدم عملة اليورو. ومع ذلك، سوف يتم تطبيق المعاهدة الجديدة نفسها على جميع بلدان منطقة اليورو والدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي من خارج منطقة اليورو.

خلال الساعات الأولى من صباح يوم الجمعة الماضي، عارض كاميرون التغييرات التي ستطرأ على المعاهدة، وكان ضمن أقلية واضحة للغاية، حيث حظي بتأييد فاتر من السويد وجمهورية التشيك والمجر، وهو ما يعني أن هذه الدول سوف تسعى للحصول على موافقة من البرلمان على المقترحات الجديدة. ومع ذلك، سوف تقوم هذه الدول الثلاث على الأرجح بتأييد تلك المقترحات في نهاية المطاف.

والآن، سوف تمضي فرنسا وألمانيا قدما في «وفاق» جديد يتم استبعاد بريطانيا منه. وربما يكون كاميرون قد شعر بدرجة صغيرة من الراحة لأن آيرلندا سوف تقوم على الأرجح بإجراء استفتاء على شروط المعاهدة. وقال المعلق السياسي جوناثان فريدلاند: «ربما يتم النظر إلى التاسع من ديسمبر 2011 على أنه يشكل اللحظة التي توحدت فيها دول أوروبا معا لاتخاذ الخطوة الأولى نحو الحلم الذي طال انتظاره بتحقيق اتحاد سياسي، واللحظة التي بدأت فيها بريطانيا السير بعيدا ووحيدة في طريق طويل».

ولكن لماذا قرر كاميرون رفض الاتفاق المقترح؟ يعود السبب الرئيسي في ذلك إلى أنه لم يكن قادرا على الوصول إلى اتفاق لإجراء تعديلات على البروتوكول الذي من شأنه، حسب تقديره، أن يلحق ضررا بالغا بالمركز المالي لمدينة لندن.

وقد اقترح البروتوكول التحول من نظام التصويت بالأغلبية القائم الآن إلى اتخاذ القرارات بالإجماع بشأن سلسلة من القضايا التي تحظى بأهمية كبيرة للممولين في المدينة – أشياء مثل تمديد صلاحيات السلطات التنظيمية الأوروبية، وكذلك القواعد التي تمنع الحكومات المحلية من فرض شروط أشد صرامة على رأس المال المصرفي. وقال كاميرون إن هذا التحول من التصويت بالأغلبية إلى اتخاذ القرارات بالإجماع يمكن أن يضر بالمدينة، ولذا فإنه سيكون ضد المصلحة الوطنية لبريطانيا.

وفي ضوء المناخ الاقتصادي الحالي الذي يلزم جميع الدول الأوروبية بإجراء تخفيضات هائلة في ميزانياتها، وفي الوقت الذي تترنح فيه معظم الاقتصادات على حافة الركود، فمن غير المحتمل أن تتعاطف فرنسا وألمانيا مع تبريرات كاميرون. وقد أكد الرئيس الفرنسي ساركوزي على أن نقص التنظيم في الأسواق المالية هو ما أدى إلى حدوث مشاكل كبيرة لليورو في المقام الأول، واتهم كاميرون بتغليب مصالح بريطانيا على حل الأزمة الاقتصادية في الاتحاد الأوروبي.

وما زاد الأمر سوءا هو أن الدبلوماسيين في بريطانيا لم يمهدوا الطريق أمام الموقف الذي تبناه كاميرون، حيث لم تقم وزارة الخزانة في المملكة المتحدة بتمرير مشروع القانون على البروتوكول المعدل حتى قبل يوم واحد من انعقاد القمة.

والآن، سوف يقوم زعماء الاتحاد الأوروبي بالوصول إلى اتفاق جديد بشأن اليورو بحلول شهر مارس (آذار)، من خلال تجاهل بريطانيا. وللمرة الأولى منذ انضمام بريطانيا إلى المجموعة الأوروبية في عام 1973، سوف يتم التوصل لاتفاق جديد يمس صميم عمل الاتحاد الأوروبي بدون أن توقع بريطانيا عليه، وهو ما يطرح سؤالا جوهريا للغاية: هل من مصلحة بريطانيا الاستمرار في عضوية الاتحاد الأوروبي أم لا؟ وما إن يتم التوصل إلى الاتفاق الجديد – لن يتم ذلك بدون الموافقة بالإجماع – فإن الـ17 بلدا من منطقة اليورو، مدعومين من قبل الدول التسع التي لا تزال بالخارج، سوف تقوم بوضع ميزانياتها معا بدلا من أن تقوم كل دولة بوضع ميزانيتها على حدة. وسيتعين على جميع هذه الدول الآن الحصول على إذن بشأن معدلات الضريبة وخطط الإنفاق، وستكون ألمانيا هي المانح الرئيسي لهذا الإذن. ومن المثير للاهتمام أن تصف المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل الاتفاق بأنه «انفراجة تجاه الاتحاد المستقر والاتحاد المالي الذي سيتم تنفيذه خطوة بخطوة على مدى السنوات القليلة المقبلة».

ويعني هذا تحقيق الأحلام الألمانية والفرنسية بالتوصل إلى تكامل أوروبي أو مواءمة أوروبية. ربما لم يكن من المتوقع حدوث ذلك بسرعة كبيرة، بيد أن الأحداث قد دفعت العملية بصورة أسرع من أي توقع. وقد انتهت السيادة الوطنية على وضع الميزانيات إلى الأبد، وباتت أوروبا الآن في طريقها لتصبح منطقة فيدرالية.

وثمة عامل آخر وراء قرار كاميرون وهو أنه لو كان قد وافق على الاتفاق في بروكسل لكان لزاما عليه أن يضع معاهدة جديدة بشأن عملية التصويت في مجلس العموم في لندن، وهو ما كان سيمثل كارثة سياسية، حيث كان الكثير من أعضاء حزب المحافظين البريطاني والمعارضين لانضمام بريطانيا للاتحاد الأوروبي سيتخذون موقفا معاديا لكاميرون ويحاولون تحويل عملية التصويت المباشر على المعاهدة إلى استفتاء في جميع أنحاء البلاد بشأن عضوية بريطانيا في الاتحاد الأوروبي من الأساس. ويعرف كاميرون جيدا أن هناك انقساما شديدا في حزبه فيما يتعلق بأوروبا وأن هذا الموضوع، أكثر من أي موضوع آخر، قادر على تفتيت وحدة حزبه، ناهيك عن تحالفه مع الديمقراطيين الأحرار. وكان سينهار كل ذلك بسرعة كبيرة إلى مستنقع من الاتهامات المتبادلة.

والاستنتاج الواضح هو أن أوروبا تقوم باتخاذ تدابير على وجه السرعة الآن، وسيتم اتخاذ قرارات كبيرة تؤثر على الاقتصاد البريطاني من قبل 26 دولة في إحدى الغرف التي لا تستطيع بريطانيا الوصول إليها ولا تملك أي نفوذ عليها. لقد انقسم الطريق إلى 26 دولة أوروبية في الحارة السريعة، ودولة واحدة وهي بريطانيا في الحارة البطيئة وحدها. والسؤال الذي سيتم طرحه قريبا هو: هل هناك معنى لبقاء البنوك الدولية الكبيرة في بريطانيا، والتي ستظهر بوصفها دولة وحيدة على هامش أوروبا؟

ومن الناحية السياسية، لم يعد كاميرون بعيدا عن الخطر، حيث قال في جلسة صاخبة للبرلمان يوم الاثنين الماضي، إنه قد ذهب إلى بروكسل بـ«نية حسنة»، ساعيا إلى التوصل إلى اتفاق من جميع الأعضاء الـ27 في الاتحاد الأوروبي. ولكنه، حسب قوله، لم يتمكن من الحصول على الضمانات التي كان يسعى إليها، والتي كانت «متواضعة ومعقولة وذات صلة». وقال إنه رفض الاتفاق لأنه لم يتمكن من تأمين «ضمانات كافية» فيما يتعلق بالنظام المالي، وإنه كان أمام خيارين «إما اختيار المعاهدة بدون ضمانات مناسبة وإما لا معاهدة على الإطلاق». وقد وقف واحد تلو الآخر من أعضاء حزب كاميرون المعارضين للانضمام لمنطقة اليورو لتهنئته على ما قام به، وقال عضو مجلس الوزراء السابق جون ريدوود إن كاميرون قد أظهر «حنكة سياسية ممتازة»، مضيفا أن «بريطانيا أصبح لديها اليوم قوة تفاوضية أكثر من أي وقت مضى لأنهم يعرفون أنهم يتعاملون مع رئيس وزراء يقول (لا) عندما يتعين عليه أن يقوم بذلك».

ومع ذلك، لم تشهد جلسة مجلس العموم يوم الاثنين الماضي حضور شريك كاميرون في الحكومة الائتلافية ونائب رئيس الوزراء نك كليغ، الذي صرح مطلع الأسبوع بأنه يشعر بـ«خيبة أمل مريرة» نتيجة رفض كاميرون للاتفاق، وأنه لم يتمكن كعادته من مساندة رئيس الوزراء، وعلى الفور هتف نواب المعارضة في حزب العمال «أين كليغ؟»، وأوضح كليغ بنفسه أنه اعتقد أن وجوده في الغرفة كان سيؤدي إلى وجود خلاف. وخلال عطلة نهاية الأسبوع، وصف كليغ نتائج قمة الاتحاد الأوروبي بأنها «ربما تضر ببريطانيا ككل». وأضاف أنه قد تم «تضليلها بشكل مذهل» لكي توصف بأنها انتصار، وقال إنه سوف «يكافح مرارا وتكرارا» حتى يبقي على بريطانيا في أوروبا.

وفي حوار له مع هيئة الإذاعة البريطانية، قال كليغ: «أشعر بخيبة أمل مريرة بسبب النتائج التي تمخضت عنها القمة الأسبوع الماضي، وتحديدا لأنني أعتقد الآن أن هناك خطرا من أن يؤدي ذلك إلى عزلة وتهميش المملكة المتحدة داخل الاتحاد الأوروبي».

تكمن المشكلة التي تواجه كليغ في أن كاميرون قد أخبره مقدما بما ينوي القيام به في بروكسل، وأنه سوف يرفض الاتفاق في حال الضرورة، ولذا من الممكن أن يعلن كاميرون أنه قد حصل على تأييد من الديمقراطيين الأحرار. ومن المرجح أن يسبب ذلك مشكلة كبرى بالنسبة لكليغ وكذلك للديمقراطيين الأحرار الذين أصبحوا الآن أكثر ضعفا. ويعد الحزب نفسه مؤيدا لانضمام بريطانيا للاتحاد الأوروبي، ولا سيما على المستوى الشعبي، ولذا فإن التدخل من قبل كبار رجال الحزب يعني أنهم حريصون على التأكيد على أنهم لن يؤيدوا وضع بريطانيا في عزلة عن أوروبا. وقال السير منزيس كامبل، زعيم حزب الديمقراطيين الأحرار السابق، للبرلمان يوم الاثنين، إن بقاء المملكة المتحدة كعضو في الاتحاد الأوروبي يعد أمرا «حيويا»، في حين أن زميله مارتن هوروود قال إن المستثمرين الدوليين بحاجة إلى الشعور بالطمأنينة من أن المملكة المتحدة لا تزال «في قلب» صنع القرار الأوروبي.

ولكن ماذا عن الأعمال؟ ثمة دلائل على أن الكثير من رجال الأعمال غير راضين عن رفض كاميرون للاتفاق. وذكر روبرت بيستون، وهو محرر اقتصادي بهيئة الإذاعة البريطانية، يوم الأحد، أن ثلاثة من رؤساء كبرى الشركات البريطانية قد أبلغوه بأنهم كانوا غير راضين عن انسحاب رئيس الوزراء من طاولة المفاوضات. ونقل عن أحدهم قوله: «كانت مارغريت تاتشر شوكة مستمرة في حلق الزعماء الأوروبيين، ولكنها لم تترك طاولة المفاوضات قط. إنني قلق للغاية من تداعيات ما قام به رئيس الوزراء».

وقال جون كريدلاند، وهو المدير العام لاتحاد الصناعات البريطانية، إن أعضاء الاتحاد يشعرون بالقلق ولم يفهموا السبب وراء رفض كاميرون للإصلاحات المقترحة، وأضاف أن كاميرون لم يعمل على حماية مصالح مدينة لندن من خلال إجبار أعضاء منطقة اليورو على وضع ترتيبات مؤسسية جديدة لإدارة شؤونهم. وبصفة عامة، يشعر قطاع الأعمال بقلق بالغ من أن يؤدي القرار الذي اتخذه أعضاء الدول الـ17 في منطقة اليورو باختيار اتفاق حكومي دولي يستبعد المملكة المتحدة إلى أن تصبح هذه المجموعة بمثابة الهيئة التي تتخذ القرارات التي تتعلق بجميع القضايا الاقتصادية والتجارية في الاتحاد الأوروبي، ولا سيما تلك المتعلقة بالسوق الأوروبية الموحدة. ويشير هذا ضمنا إلى أن الشركات الكبيرة متعددة الجنسيات، من الهند أو الصين على سبيل المثال، سوف تقوم على الأرجح بالاستثمار في ألمانيا أو هولندا، بدلا من المملكة المتحدة التي قد يبدو أن تأثيرها على السوق الأوروبية المشتركة قد بدأ يتلاشى. ويجب ألا ننسى أن السوق الأوروبية الموحدة هي أكبر سوق في العالم. والسؤال الآن هو: ماذا لو قررت المصارف الفرنسية والألمانية الكبرى أن تترك لندن وتعود إلى أوروبا مرة أخرى؟

وقد لاقى قرار كاميرون انتقادا حادا من جانب شركات التصنيع البريطانية التي لم تكن سعيدة بسبب الدفاع عن القطاع المالي على حساب المصالح الصناعية. وقال إيان روجرز، وهو مدير هيئة «يو كيه ستيل» للتجارة: «على المدى القصير، لن يكون هناك فرق، حيث توجد جميع هياكل الاتحاد الأوروبي هنا، ولكن على المدى الطويل، سيقل دورنا في صنع القرار السياسي». وقال جيريمي نيكولسون، وهو مدير مجموعة «إنرجي انتنسيف يوزرز غروب» التي تمثل الشركات التي لديها أكبر استهلاك من الطاقة، إنه غير سعيد بقرار كاميرون، وأضاف: «إذا أصبح هناك نواة داخلية لدول الاتحاد الأوروبي ونحن خارجها، فهذا يعني أنهم سيهتمون بمصالحهم أولا، وهو ما قد يؤثر سلبا علينا في تجارة الطاقة أو أي شيء آخر».

من ناحية أخرى، لا توجد هناك ضمانات ببقاء منطقة اليورو، مع الوضع في الاعتبار مشاكل الديون التي تؤثر على كثير من أعضائها. ماذا لو تخلفت إيطاليا أو إسبانيا عن سداد ديونها لأنها لم تعد قادرة على تحمل دفع رسوم الفوائد الهائلة التي يطالب بها المقرضون الآن؟ وثمة الكثير من الناس – في بريطانيا على الأقل – الذين يعتقدون أن الاقتصادات الأوروبية تتجه نحو كارثة. وفي هذا السياق، ربما يبدو قرار كاميرون قرارا ذكيا حتى الآن.

* صحافي بريطاني