حديث الكنانة

د. محمد عبد الستار البدري *

TT

التاريخ مرآة الأمم والشعوب، وهو مثل ظل الإنسان لا يفارقه، وكلما اقتربت الأمة من الضوء كبر خيالها، وكلما ابتعدت عنه صغر، ومن أهم الشعوب التي ينطبق عليها هذه الظاهرة هو الشعب المصري، فهو شعب عريق مرت عليه القرون كالأيام، قرُب السلطة والعظمة كثيرا، لذا كان ظله كبيرا على مر التاريخ بما يتوازى مع قيمته، فظل هذا الشعب متشبثا بتقاليده، بل إنه «مَصر» أغلبية الغزاة والفاتحين وصهرهم داخل مجتمعه، ومثل هذه الهبة بين الشعوب والثقافات تحتاج لتركيبة اجتماعية وسياسية خاصة.

الثابت في علم الجغرافيا السياسية «أن الدول أثقال»، فدولة مثل الصين على الرغم من أنها كانت مستضعفة وتعاني التدخلات الأجنبية في بداية العهود الحديثة فإنها ظلت دولة ثابتة ورقعة جغرافية مهمة للغاية بموجب مقومات الجغرافيا والتاريخ والثقافة والديموغرافيا، وهي المعايير التي سبق أن تعرضت لها في مقالة بنفس الجريدة بعنوان «الشعوب البؤرية عبر التاريخ»، وهذه الدول عندما يغيب دورها فإن ثقلها لا يتأثر، لأن الأول مرتبط بشكل كبير بالثاني، وليس العكس، فطالما امتلكت الدول الثقل من خلال هذه المقومات فإن استعادة دورها تصبح مسألة وقت وإرادة سياسية ليس إلا.

إن مصر وشعبها يعدان مثالا محوريا لهذا النموذج التاريخي، لأسباب موضوعية، أهمها ما يلي:

أولا: إن التركيبة الديموغرافية المصرية فرضت عليها نوعا من التميز السياسي عبر التاريخ، ومن دون الخوض في مفاهيم ونظريات مفكرين عظماء من أمثال د. جمال حمدان في كتابه الفريد «شخصية مصر: دراسة في عبقرية المكان»، فإن التفاف الشعب حول مجرى مائي ممتد عبر أكثر من ألف كيلومتر لآلاف السنوات جعل هناك حالة من البؤرية لهذا الشعب في منطقة جغرافية محددة، كما أن إحاطة هذا الامتداد السكاني بصحراء موحشة من الجانبين والبحر من الشمال جعلت هذا الشعب متجانسا، وهذا نتاج طبيعي لحتمية جغرافية وضرورة ديموغرافية، وقد انعكست هذه الحقائق على المسيرة التاريخية للدولة المصرية إضافة إلى وضعيتها الدولية على مر العصور، فأصبحت مصر بؤرة متجانسة ثقافيا وقوميا، وهذه هي نقطة الانطلاقة المحورية التي وضعتها في مصاف الدول المركزية عبر الإقليمية على مدار التاريخ.

ثانيا: واتصالا بما سبق، فقد مثلت مصر كيانا إقليميا قويا في فترات تاريخية ممتدة، فكانت طرفا أساسيا وفاعلا في أي تطور إقليمي، وقد امتد هذا الدور للمستوى الدولي أيضا كعنصر فعال ومؤثر فيه كلما تعاظمت قوتها الإقليمية المقارنة، ولكنها أبدا لم تلعب على مر التاريخ دور القطبية الأحادية أو الدولة العظمى الوحيدة، وهو أمر مفهوم إذا ما أخذنا في الاعتبار محدودية الدول التي لعبت هذا الدور، على رأسها الدولة اليونانية والرومانية وبريطانيا وأخيرا الولايات المتحدة الأميركية، وفي هذا الإطار فإنه يمكن تتبع الدور المصري من خلال محطات تاريخية رئيسية، فالدولة الفرعونية كلما قويت امتد نفوذها في الأغلب نحو منطقة الشام شرقا، والسودان جنوبا وبعض جزر المتوسط شمالا والجزء الشرقي من ليبيا (برقة) غربا، لأسباب متعلقة بعدم وجود ثروات واسعة في الغرب مقارنة بالشرق الغني بالزراعة والأخشاب والتجارة الدولية.

وعلى هذا النسق لعبت مصر دور القوة الإقليمية العظمى منذ الفراعنة، وكانت أشهر مراحلها عقب معركة «قادش» بين رمسيس الثاني والحيثيين، ثم أصبحت مصر في العهد الهيليني محطة قوة من خلال حكم «البطالمة» فكانت مرتكز القوة في منطقة المتوسط إلى أن أصبحت تابعة للدولة الرومانية، وفي أعقاب الفتح الإسلامي سرعان ما تحولت مصر إلى مركز القوى الشرقي في الدولة الإسلامية من خلال الدولة الطولونية ثم الإخشيدية، ولعبت أقوى أدوارها الإقليمية بعد ضعف الدولة العباسية، فأصبحت أول وآخر دولة إقليمية شيعية عظمى في الشرق من خلال الحكم الفاطمي، ثم توالى الدور المصري في العهدين الأيوبي والمملوكي، ثم كانت دولة مصر الحديثة في عهد محمد علي امتدادا طبيعيا لهذا الدور، فصارت مصر الدولة الإقليمية الأولى وذات النفوذ الممتد، بل إنها بدأت تؤثر على المنظومة السياسية الدولية، وامتد نفس هذا الدور في عهد عبد الناصر.

ثالثا: اتصالا بما سبق وإضافة للبعدين الديموغرافي والجيو - استراتيجي، فإن مصر حظيت ببعدين مهمين للغاية عبر التاريخ، الأول مرتبط بالغنى الاقتصادي، والثاني مقرون بالموارد البشرية، ويضاف إلى ذلك أن الموقع الجغرافي جعلها مركزا للتجارة بين الشرق والغرب، وهو ما تُرجم إلى مكوس وضرائب ووفرة سلعية جعلتها بؤرة جذب للاستثمار الخارجي، أما من الناحية الاقتصادية، فقد منحت الجغرافيا لمصر زراعة ممتدة على مدار السنة من خلال نهر النيل، وتربة صالحة غنية للغاية، وهو ما جعل الرومان يعتبرون مصر مصدرا غذائيا مهما لهم، فوصفوها بأنها «سلة الحبوب الرومانية»، ونذكر في هذا الصدد كلمات واليها عمرو بن العاص يصف مصر للخليفة عمر بن الخطاب ببلاغته، فيقول «إن الذي يصلح هذه البلاد وينميها.. وألا يستأدى خراج ثمرة إلا في أوانها، وأن يصرف ثلث ارتفاعها في عمل جسورها وترعها، فإذا تقرر الحال مع العمال في هذه الأحوال، تضاعف ارتفاع المال، والله تعالى يوفق في المبدأ والمآل». وهكذا لعب البعدان الاقتصادي والبشري دورا مهما في تعميق الدور السياسي والاستراتيجي المصري عبر التاريخ.

رابعا: لقد ترسخ البُعد الثقافي المصري بقوة داخل هذا المجتمع، نظرا للتوحد الديموغرافي الممتد في إطار من الفراغ المجاور، فكان البعد الثقافي عنصرا مهما في هذه المعادلة، ومنح مصر قوتها الناعمة المتجددة والعميقة عبر التاريخ التي تُرجمت في أوقات معينة إلى قوة فعلية، فأينما يمتد بنا الزمن فالبعد الثقافي كان موجودا، فمصر جعلت من الثقافة سلعة قوة وأداة فكر ومصدر ثراء أثرت من خلالها على محيطها الجغرافي مباشرة، فمنظومة الآلهة المصرية تم تصديرها لأوروبا من خلال اليونان، كما أن مصر أصبحت في عهود كثيرة مركز الإسلام السني المعتدل من خلال الأزهر الشريف الذي لا يحتاج دوره للتعريف، إضافة لدور كنيسة الإسكندرية الحاسم في مسيرة المسيحية على المستوى الدولي، فلمصر دورها المعروف في المجامع الكنسية المختلفة التي شكلت ركائز مهمة في العقيدة المسيحية، كما أن بها الكنيسة التي قضت على الفتن التي حاولت التسلل للديانة المسيحية، ونتيجة لكل ما سبق فقد صارت مصر مصدرا للتحرك الثقافي في المنطقة، سواء من خلال ابتكار المكون الثقافي في أغلب الوقت، أو في مناسبات أخرى من خلال استضافة رواد هذا المكون على أرضها، كما حدث عندما احتضنت رواد الصحافة والفكر والثقافة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.

كل هذه العوامل تدفع للتأكيد على ضرورة التفرقة المنطقية بين ثقل الدولة من ناحية ودورها الإقليمي من ناحية أخرى، فالثقل موجود بقوة عبر التاريخ، ولكن اضطلاعها بدورها المتوقع كان اختيارا طوعيا لقيادتها السياسية عبر الزمن، وفي التقدير أن هذا الثقل موجود لأن العناصر الأساسية المكونة له ما زالت كما هي حتى مع اختلاف بعد الثوابت الدولية بحكم العولمة والتكنولوجيا، بالتالي فالدور الإقليمي المصري كان يعتمد في تفعيله أو تعظيمه تاريخيا على الحكام أو القابضين على السلطة في البلاد، بالتالي فإن عملية الخلط بين مفهومي الثقل والدور أمر يحتاج لمراجعة فورية لأنه يعكس نقصا معرفيا بفلسفة الوجود السياسي والجغرافي والثقافي المصري، فضلا عما يمثله من قصر نظر تحليلي، ونظرة واحدة لعدد الكبوات التي استنهضت منها مصر عبر تاريخها لتصبح القوة المركزية تثبت هذه الحقائق، ولكن هذه قضية أخرى نناقشها في المقال التالي.

* كاتب مصري