الربيع العربي و«خريف» التيارات في السعودية

كشفت تفاصيل أكثر داخل الحياة «الليبرالية» غير الحقيقية

TT

منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر الإرهابية في أميركا، والسعودية في شقها الثقافي - السياسي تعيش حراكا نوعيا في التوجهات الفكرية التي تسيطر على المشهد، وهو حراك لا يمكن فصله عن سياقاته التاريخية الممتدة بتاريخ امتداد الدولة السعودية الحديثة، ولكن بالطبع يمكن التأكيد أنه لم يكن بهذا الوضوح.

مع أحداث «الربيع العربي» بدأت تتكشف تفاصيل أكبر داخل الحياة «الليبرالية» غير الحقيقية، التي أسهم الإعلام السعودي في ترسيخها كواقع لا يقبل النقاش بترويجها، بحسن نية أو بسوئها.

ظلت «الأدبيات» بمختلف تنوعاتها الفكرية: الإخوانية، القومية، واليسارية، ملتحفة كلها بالرداء «الليبرالي»، حتى جاءت أحداث الانتفاضات الشعبية في العالم العربي، لتعيد صياغة هذا المشهد بشكل أوضح من خلال الطرح السياسي لمختلف الشخصيات الشهيرة في الوسط الإعلامي والثقافي السعودي.

لقد أضحت الأفكار أكثر حرية في التعبير عن نفسها، دون الحاجة للقناع «الليبرالي» الذي تخفت وراءه طيلة عقد من الزمان. وبدا ملحا أهمية إعادة قراءة هذا المشهد بعيدا عن «التصنيم» (من صنم) السياسي والثقافي، وهذا لا يعني بالطبع أن هذه القراءة يمكن أن تلم بكامل تعقيدات النظم الفكرية وتداخلاتها التي تدير الحراك النوعي السعودي الحديث.

وسنضرب في هذا الاستقراء أمثلة عدة من مختلف المشارب الفكرية في الساحة السعودية، وتحالفاتها الفكرية النقدية في رؤيتها لمسارات الأحداث المتسارعة.

الإعلامي السعودي المعروف، جمال خاشقجي، شخصية مثيرة للجدل، وفي الأوساط الثقافية الضيقة دائما ما كان يصنف «فكريا» على «الإخوان المسلمين»، ولكن تنصيبه رئيسا لتحرير صحيفة «الوطن» السعودية في منتصف العقد الحالي، جعلت الكثير من المتابعين للمشهد السعودي المحلي يترقبون المنتج الجديد مع خاشقجي، خصوصا أن «الوطن» الصحيفة، كانت من قبله استطاعت أن ترسم خطا تحريريا متفردا في رؤيتها السياسية والثقافية والفكرية، من خلال تبني رؤى ثقافية غير تقليدية، واعتمادها على آليات نقدية لا تمت بصلة لآليات «الإسلام الحركي» في نقد الواقع السعودي. وهذا ما يفسر انتقادات «التيار الأصولي» في السعودية لخاشقجي، ووصمه بالليبرالية، فلم يكن طرح السياسة التحريرية لخاشقجي أو الكتاب الذين استكتبهم من خارج الصحيفة مقياس التقييم، بل فقط تسنمه قيادة صحيفة تصنف في العرف الاجتماعي والإعلامي المحلي بالليبرالية.

خاشقجي كشف عن ميل حقيقي لخطاب الإخوان المسلمين مع انتفاضات الشارع العربي، وبزوغ نجم الإخوان المسلمين، خصوصا في تونس ومصر، والجماعات الإسلامية في ليبيا.

وكتب في جريدة «الحياة» اللندنية مقالا تحت عنوان «تحولات الإخوان في الربيع العربي»، قال في مقدمته: «إذا كنت تبحث عما يؤكد التوجه الإسلامي للثوار الليبيين، فستجد ذلك في تصريحات الكثيرين منهم على الفضائيات وهم يحتفلون بدخولهم طرابلس، ويرون مستقبل دولتهم الليبية الجديدة. وإن كنت تبحث عمّن يريد الديمقراطية والعدالة والحرية والمساواة، فستجدهم أيضا. إنهم نفس الثوار السابقين، كيف ذلك؟ هؤلاء هم (الإخوان المسلمون) الجدد في زمن الربيع العربي».

خاشقجي، الذي يُعِد اليوم لإطلاق قناة تلفزيونية تحت مسمى «العرب»، واجهة إعلامية في الداخل والخارج ولا شك، ولكن الأسئلة تظل مشروعة حول طبيعة الحراك الذي يود أن يضفيه خاشقجي من خلال القناة على المشاهد السعودي والعربي، خصوصا مع تركيز خاشقجي في حواره مع مجلة «المجلة» الدولية على أنه حريص على «موضوعية قناة (العربية) وقلب قناة (الجزيرة)» - وهو القلب الإخواني بالطبع - إلى قليل من اليسار بامتياز.

قبل أن نكمل ضرب النماذج لهذه التفرعات الفكرية في بعدها السعودي، يجب أن نعيد التأكيد والتذكير أن ليس هدف هذا الاستقراء القطع بالتصنيفات الآيديولوجية للمثقفين والإعلاميين السعوديين، ولكنه محاولة لرصد هذه الأفكار التي تتبنى أدبيات وجدليات التوجهات الفكرية السائدة في العالم العربي، وسواء كان تقاطعها هذا بتبني فكري حقيقي أو مجرد تقاطع لحظي مع هذه الأدبيات السياسية.

وبالعودة للنماذج التي تتماهى مع المد الإخواني واليسار ذي العمق الإسلامي في السعودية (سنأتي على توضيح المعنى اليساري ونضرب نموذجا للطرح المتعاطف معه في السعودية)، لا بد أن نشير إلى أن أحد هذه الأدبيات هي الوقوف مع ما يسمى بدول الممانعة للهيمنة الغربية، وأبرز هذه الدول هي إيران وسوريا في المنطقة.

فما هو موقف المثقفين السعوديين «أصدقاء» مما يعرف بـ«محور الممانعة» من سياق الأحداث الأخيرة؟ سيعطي الكاتب في صحيفة «البلاد»، السعودي محمد معروف الشيباني، نموذجا واضحا في واحدة من مقالاته سنستعرض مقتطفات منها، ولكن قبلا يجب أن نشير إلى أن الشيباني على سبيل المثال، أحد الكتاب الذي استكتبهم جمال خاشقجي إبان رئاسته لتحرير «الوطن» في عام 2007.

يقول الشيباني بعد إعلان وزارة العدل الأميركية عن محاولة اغتيال عادل الجبير السفير السعودي في واشنطن: «مروع وجلل أن يصنف سعوديون (إيران أولا.. وإسرائيل ثانيا) في العداء. تصنيف لا يستقيم، لا ربانيا، ولا دينيا، ولا أخلاقيا، ولا سياسيا، ولا أمنيا.. ولا حتى نفاقيا. لا مقارنة بينهما. ثم ما المصلحة في تعادي إيران والسعودية؟».

ويضيف «إذا وهنت عزائمنا وضعفت قوانا عن إسرائيل فلا نختلق عدوا غيرها. أما من له قوة من البلدين فليضعها في موضعها، أو يترفع حتى تأتي منا ومنهم أمة أقوى للنصر ذاتيا، لا بوعود مغرضين سماها الليبيون (نجدة الناتو). إضعاف إيران إضعاف للسعودية. وعكسه صحيح. أعداؤهم متربصون لالتهام ثرواتهم». والحال، أن موقف إيران وحزب الله اللبناني المتناقض من الثورات في العالم العربي، كان أشبه ما يكون بـ«تسونامي أخلاقي» للمثقفين السعوديين الميالين للفكر القومي والإخواني في السعودية، فهذا الدعم اللامتناهي من قبل النظام الإيراني وحزب الله لآلة القتل السورية، يصطدم بمنظومة قيمية لطالما روجوا لها في وقوفهم خلف «ثورات» العالم العربي المتلاحقة. وربما هذا ما يبرر سكوت الكثير من المثقفين السعوديين الذين أسالوا من الحبر الكثير في تمجيد الثورتين المصرية والتونسية، والسكوت أو النقد على استحياء للنظام السوري، وهذا ما يتجلى في مقال الدكتور عبد العزيز الصويغ في جريدة «المدينة»، الذي قال فيه: «كنتُ أنظر إلى سوريا، كما هو الحال مع غيري كثيرين، على أنها آخر معاقل المقاومة، ومأوى للممانعة ضد الحلول التي لا تحافظ على الحقوق العربية الثابتة، ولا تقبل بأنصاف الحلول. فبعد خروج مصر من المشهد القومي بتوقيعها اتفاقية كامب ديفيد مع إسرائيل، مثلت سوريا ما وصفه الكاتب ميشال أمين سماحة بفكرة (الممانعة). وهي فكرة قائمة على تبني بامتياز استراتيجية سياسية قائمة على استدراج التسوية مع الإسرائيليين من خلال تهديد الاستقرار الإقليمي، وتحريك «حروب العصابات» من هنا والتلويح بالإسلام السياسي من هناك. وقد لعب «حزب الله» في لبنان من خلال إنجاز التحرير وحرب يوليو (تموز) 2006 دورا كبيرا في تعزيز هذه الاستراتيجية وتعويم النظام السوري، وإبرازه على أنه رأس الحربة في المشروع المقاوم.

ولكن من هم «الكثيرون» الذين ذكرهم الصويغ في مقالة، ممن اتخذوا مواقف مواربة من الثورة السورية وموقف حزب الله غير الأخلاقي، وهو ما لا يتسق مع حماستهم للثورة في مصر وتونس على سبيل المثال؟ يجيب عن هذا السؤال الكاتب السعودي قينان الغامدي في مقاله المنشور في صحيفة «الوطن» تحت عنوان «زعيم الميليشيا والمخدوعون»، الذي يرد فيه على الإعلامي السعودي، كمال عبد القادر، والقصة باقتضاب، كان لعبد القادر تعليق على نقد الغامدي لحزب الله أبرز ما جاء فيه «وإن أردتَ أن أكون أحد حواريي السيد، فلا مانع لديّ، بل يشرفني، لأن البديل هو أن أكون حواريا تحت المظلة الأميركية - الإسرائيلية، في ظل غياب المظلة العربية، ولا يشرفني، طبعا، ولا يشرفك، أن تنسحب تحت المظلة الإسرائيلية، ربما توافق على المظلة الأميركية التي لا أرضى بها. أخي قينان.. عندي استعداد أن أقف مع الشيطان ضد إسرائيل، وليس بالضرورة أن تقف معي مع الشيطان، ولا يوجد دولة عربية واحدة أو مسلمة، تقف ضد الطغيان الإسرائيلي، إلا (حزب)، فيا ليت أقوامي، كلهم، لديهم الحس العدائي ضد إسرائيل».

بينما كان رد الغامدي كالتالي: «لك أن تكون من حواريي السيد حسن، وأنت فعلا منهم، حيث أتذكر أنني أرسلت مقطعا من خطابه الذي ألقاه بصورة سرية لأعضاء الحزب الكبار قبل نحو 15 سنة، وحدد لهم بوضوح أهداف الحزب (الميليشيا)، وقال لهم هذه أمور لا نعلنها لعامة أعضاء الحزب فضلا عن الناس الآخرين، والخطاب تسرب صوتا وصورة مؤخرا، لكنك عندما شاهدته كان تعليقك لا يختلف عن رأيك اليوم أنه بشر.. إلخ المعزوفة، وهذا ليس مهما الآن، فكل الناس، ومنهم أعضاء في الحزب نفسه، عندما شاهدوا هذا الخطاب القديم بدأوا يراجعون حساباتهم، ويحددون حجم الخدعة التي انطلت عليهم لعقود، وأملي أن تفعل مثلهم، لأن مقاومة السيد حسن ليست سوى مظلة وشعارا ومطية في سبيل الهدف الأكبر، وهو دولة ولاية الفقيه في لبنان، وهو هدف حدده بنفسه وبعظمة لسانه، والشريط موجود لديك، وليتك تعود إليه، فإن كنت تؤيد قيام دولة في لبنان على نمط إيران فلك هذا أيضا، أما أنا فلا أؤيدها، بل إنني على قناعة تامة أن ولاية الفقيه ستسقط في إيران وبعقول ووعي الإيرانيين أنفسهم».

ويزيد الغامدي: «بقي أن أختار لأنك بصراحة (زنقتني) بين خيارين؛ فإما أن أقف معك ومع زعيم الميليشيا أو أذهب للمظلة الإسرائيلية - الأميركية، وبودي أنك تعود إلى مقالي أمس لعلك تجد شخصا آخر أشرت إليه في المقال حيث حاورته حول المؤامرة الخارجية على سوريا فلم يجد بدا من اتهامي بالمظلة الإسرائيلية - الأميركية مثلما تفعل أنت الآن، وليس لدي مشكلة، المشكلة عندكم لأنكم تنسون أن تضعوا لي ولأمثالي من العملاء! خيارا ثالثا اسمه (الشعوب العربية)، عفوا أيها الصديق، أنتم لا تنسون لكنكم بحكم القوة التي تظنونها في موقفكم تصادرون الطرف الآخر وتضعونه؛ إما في صف أهل الشعارات الكذابة أو في صف العمالة للعدو، وبالمناسبة هذه طريقة أميركية مبتدعها بوش، ولا أدري لماذا تقلدونه مع أنكم تزعمون كره أميركا؟!».

ولكن للمشهد في العالم العربي، وفي شقه السعودي موضع النقاش بالطبع، جانب أصيل آخر في طبيعة حراكه، وهو جانب قوى اليسار. وقبل ضرب نموذج له، تجدر الإشارة لمنشأ التسمية ونبذة عن تاريخ الحركات اليسارية.

جذور التسمية تعود لأدبيات الثورة الفرنسية؛ ففي اجتماعات الجمعية الوطنية الفرنسية، كان أكثر الثوريين تشددا يجلسون على مقاعد إلى يسار غرفة الاجتماعات، ومنذ ذلك الحين أصبح هذا المصطلح مرتبطا بالجماعة السياسية التي تنادي بالمساواة الكاملة بين البشر والأشخاص الذين يمتلكون وجهات نظر ثورية تدعو إلى تغييرات جذرية سياسية واجتماعية.

ويظهر اليسار المعارضة السياسية لأي نظام سلطوي تارة والمعارضة العنيفة من جانب آخر، خصوصا فيما يتعلق بإنشاء الطبقية الاقتصادية، السياسية، والاجتماعية.

غير أنه يجدر بالطبع ذكر أن جميع التجارب اليسارية في إدارة الدول على مستوى العالم باءت بالفشل في تطبيق الديمقراطية، وأبرز مثال على ذلك انهيار الاتحاد السوفياتي وأوروبا الشرقية، وإن كانت الصين نموذجا بتفصيلات أخرى ليس هنا محل ذكرها. فضلا عن أن اليسار في شقه الثقافي إبان مجده مارس بدوره أقصى درجات الإقصاء والتعتيم على الآراء المعارضة والناقدة لمشروعه السياسي، حتى من داخله.

مع بداية الثورات في تونس ومصر تحديدا عاد الحلم اليساري بكامل رومانسيته الحالمة ليداعب بعض المثقفين السعوديين في قراءتهم لانتفاضات الشارع العربي؛ سواء من خلال وسائل الإعلام المحلية، أو مواقع الإنترنت وما يعرف بالإعلام الجديد، فكتبت الدكتورة بدرية البشر مثلا في صحيفة «الحياة» تحت عنوان «الحرية سيئة السمعة»: «انتهت ثورة مصر بعد أن حققت هدفها سلميا، كان معظمها من الشباب الذين لم يكن مناضلا سياسيا ولا ينتمي إلى الأوساط التقليدية للمعارضة السياسية ولا إلى الإخوان المسلمين، كما ادعى النظام. بدأت هذه الثورة وتنظيمها وهي تغلي غضبا على قسوة الشرطة والقمع والتعذيب التي يلقاها من النظام السابق، بعد أن أصبح أفراد الأمن فيه يقتلون الناس، من دون أن يحظوا حتى بحق محاسبتهم، كما حدث مع الشاب خالد سعيد».

وزادت في إشادة عليا بشباب الثورة: «أظهرت هذه الثورة أخلاق الناس الرفيعة، فقد حمى الشبابُ الناس، حين تخلى الأمن عنهم، وانتهت بحملات الشباب لتنظيف المدينة وشوارعها بعد أن نظفوها من النظام الفاسد، ووقف المتحدث باسم الجيش وحيّا الشهداء تحية عسكرية اعترافا لهم بالشجاعة والشهامة».

ولكن يبدو أن الكثير من المثقفين السعوديين الذين كانوا يصرون أن جماعات الإسلام السياسي مجرد «فزاعة»، مستشهدين بخلو ميدان التحرير من الشعارات الدينية، أفاقوا من حلمهم الوردي وعادوا إلى الواقع، وهم يرون صعود نجم الإخوان المسلمين في كل الدول التي نزل أفرادها إلى الشارع.

وليس أدل على ذلك من سيطرة الجماعات الإسلامية على الشارع العربي، بداية من الاستفتاء الذي تم في مصر حول التعديلات الدستورية والنتيجة التي آل إليها، بغلبة كاسحة لجماعات الإخوان المسلمين، والجماعات السلفية المصرية في مواجهة قوى اليسار العلماني. وصولا إلى نتائج الانتخابات النيابية، وطبعا فوز حزب النهضة الإخواني في تونس.

وهو أيضا ربما ما يبرر إعادة صياغة المواقف من قبل أصحاب الطرح اليساري، ولنستمر في ضرب نموذجه بالدكتورة البشر التي كتبت مقالا تحت عنوان «الإسلام هو الحل ولكن أنتم المشكلة» واحتوى نقدا حادا للإسلاميين الذين اعتلوا خشبة المسرح السياسي، وسيطروا على مقاليد الحراك، وهو الواقع الذي لم تكن لتعترف به البشر والكثير من مثقفي اليسار السعوديين في بداية الثورات، كما أوضحنا في مقالها الأول.

وتخلص في نهاية مقالها الأخير هذا للاستسلام للأمر الواقع ولكن بطريقة أخرى، قائلة: «أفضل ما يحدث اليوم للشعوب العربية هو أن تفوز الأحزاب الإسلامية، لأننا نريد أن ننتهي من تربية الأوهام في عقول الناس، فهذه الأحزاب ستجد نفسها أمام خيارين لا ثالث لها، إما أن تتبنى حكما علمانيا ديمقراطيا، كما في الحزب التركي الإسلامي، لتخسر بهذا ما كانت تتمايز به عن الأحزاب الأخرى وتخسر قداستها، أو تعاند الحقائق وتصطدم بحائط العناد والفشل، وننتهي من هذه الحكاية على الرغم من فداحة الثمن، ويعرف الناس أين أوصلهم خيارهم».

والحال، أن البشر من القلائل من المثقفين السعوديين الذين ظلوا أوفياء ليساريتهم التحديثية في طرحهم، ولم تنسق وراء المواقف الفكرية المتناقضة آيديولوجيا، لا من خلال مقالاتها الصحافية المعلقة على الأحداث، ولا من خلال إنتاجها الأدبي والبحثي السابق للأحداث.

غير أنه في هذا السياق، نلفت إلى أن هذا الحراك بدوره أعاد ظهور أيضا متبني فكر اليسار الإسلامي، وهو خليط بين مرجعية دينية ويسارية. أوضح مثال عليها الكاتب في صحيفة «المدينة» المحلية مهنا الحبيل، والذي علق في موقع التواصل الاجتماعي «تويتر» قائلا: «أمام تونس مرحلة صعبة من العمل بهذه الطليعة التي لن يتركها الغرب؛ فنموذج اتحاد الإسلاميين مع اليسار العربي ذو العمق الإسلامي يقلقهم».

في الواقع، إن بعض نماذج الطرح الفكري السعودي الأخرى غير ما سبق التطرق له في الأعلى، ليس من قبل التجريح أن يوصف طرحها بأنه في حالة «توهان»، ولا ينطبق عليه أي توصيف سياسي أو فكري. وهو نموذج لطرح ليس بالقليل على أي حال.

ولكن أين الشباب السعودي من كل هذا الحراك؟ وبالطبع عندما نتحدث عن الشباب السعودي في هذه القراءة، فنحن نتحدث عن الشباب ذي الطابع الحركي، الذين يمثلون كل هذه التقاطعات الفكرية، بكل ما تحمله من تناقضات في المواقف السياسية، والتضاد القيمي لمفاهيم الأدبيات المتقلبة بين الإخوان المسلمين، والسلفية التقليدية، والقومية، واليسار.

كانت مواقع التواصل الاجتماعي، مثل «تويتر»، بكل ما تحمله من ذاتية وانطباعية، المسرح الأبرز لهذا الحراك. خصوصا مع الثورة المصرية، وهي التجربة التي عايشها «المتوترون» السعوديون بكل ما تحمله من تناقضات وتمثلات ثقافية تخوينية للآخر المختلف في الرأي، فضلا عن محاولات الاستقطاب التي مورست بشكل هائل إبان التحشيد لما سمي بثورة «حنين» في السعودية. (وفقا للتقرير العربي للإعلام الاجتماعي الصادر في مايو «أيار» الماضي، فإن عدد مستخدمي «تويتر» في السعودية يقدر بـ115 ألف مشارك نشط فقط، خلال الربع الأول من هذا العام، بنسبة انتشار تصل إلى 0.43 في المائة من عدد السكان في البلاد).

وليس أدل على أن الحراك «الشبابي» الموجود في مواقع التواصل الاجتماعي ليس حراكا خلاقا أصيلا، وليس ليبراليا من الأساس، إنما هو امتداد لهذا الحراك السعودي الثقافي الحائر بين إخوانيته وقوميته ويساريته، إلا حجم المتابعين الذين يحظى بهم «نجوم شباك (تويتر)» من بقايا الإسلاميين (إخوان وسلف) والقوميين واليساريين.

الفعاليات الشبابية الثقافية السعودية اليوم أشبه ما تكون بمن يحمل سلسلة مفاتيح ويصر على فتح الباب المغلق مرة بعد مرة بذات المفاتيح، دون أن يتوقف ليفكر أنه ربما يكون يقف أمام الباب الخطأ من الأساس، بينما المثقف السعودي القديم يأتي في سياق المثقف العربي الذي وصفه المفكر المعروف جورج طرابيشي يوما قائلا: «أما مثقف الهامش - وليكن نموذجه المثقف العربي - فهو مطالب قبل كل شيء، باستعادة وظيفته النقدية إزاء نفسه أولا».

* صحافي سعودي من باريس