عودة إلى حديث الكنانة

د. محمد عبد الستار البدري

TT

تناول مقال الأسبوع الماضي ثبات عناصر الثقل المقارن لدولة مصر عبر العصور، وأشرنا إلى أهمية التفرقة بين ثقلها السياسي والموجود بحكم هذه العناصر المختلفة من ناحية، وتفعيل دورها الإقليمي، وبدرجة أقل الدولي من ناحية أخرى، والثابت تاريخيا أنه قد تم تفعيل دور مصر الإقليمي أكثر من غيرها بأشكال وأنماط مختلفة على مر العصور، وسنرصد هنا هذا التفعيل من خلال تناول أهم الأدوار التي لعبتها مصر والمعارك الحربية الحاسمة التي خاضتها وغيرت بها مجرى الأحداث في منطقتها، وبدرجة أقل تاريخ العالم لإثبات هذا النمط، ونبرز في هذا الصدد ما يلي:

أولا: لقد كانت الأسر الفرعونية المصرية مهتمة بالتفاعل مع المحيط الخارجي للدولة المصرية لأسباب سياسية وأمنية وتجارية لم تتغير حتى اليوم، وبالتالي كانت هناك موجات من النفوذ الخارجي المصري تنتهي في مناسبات عديدة بالتوسع العسكري الذي امتدت من خلاله الدولة الفرعونية في فترات زمنية محددة من برقة (ليبيا) شرقا إلى الفرات بالعراق ومن حدود تركيا شمالا إلى جنوب السودان، وعلى الرغم من أن مثال معركة «قادش» كان أكثر الأمثلة استخداما كأساس يعكس هيبة وقوة الدولة الفرعونية المصرية وتوسعاتها لأسباب ترجع للآلة الإعلامية لرمسيس الثاني على جدران المعابد، فإن العديد من الفراعنة سبقوه في مد حدود الدولة المصرية القوية خارج نطاق الدلتا والوادي مثل سنوسرت وتحتمس وحتشبسوت.. إلخ. ولكن الجدير بالإبراز هو أن الدولة الفرعونية كانت دائما تلعب الدور البؤري في هذا الإقليم، إلا عندما تقرر الانكماش الطوعي أو تعاني الاحتلال، حدث ذلك أثناء احتلال الهكسوس والفرس.

ثانيا: منذ الاحتلال اليوناني لمصر على أيدي الإسكندر الأكبر في عام 332، أصبحت مصر لمدة ثلاثة قرون دولة مستقلة تحت حكم البطالمة، وقد أقامت هذه الأسرة دولة قوية مقارنة بالدول المجاورة، حيث استطاع ملوكها تكوين جيش قوي شمل المصريين، وقد ساعدهم على ذلك الثروة الزراعية والطبيعية التي كانت لمصر، ولكن عظمة مصر في العهد اليوناني كانت في البعد الثقافي أيضا من خلال مكتبة الإسكندرية وجامعتها الشهيرة. وقد لعبت مصر في نهاية عهد البطالمة أهم أدوارها الدولية عندما شارك الأسطول المصري إبان حكم كليوباترا أسطول ماركوس أنطونيوس في مواجهة ضد أوكتافيون في معركة «أكتيوم Actium» عام 31 قبل الميلاد التي تعد أشهر معركة بحرية بعد معركة «سالامس»، ولو انتصر الأسطول المصري لاختلف مسار التاريخ بشكل كبير جدا، ولكن هذا لم يحدث فدخلت مصر بعد هذه الهزيمة كولاية رومانية مثلها مثل سائر الأمصار وشاركتهم نفس التوجه، حيث اختفى دورها الإقليمي لصالح الإمبراطورية الرومانية ومن بعدها البيزنطية، ولكنها لم تكن بلا ثورات على هذين الحكمين، بل ناضلت نضالا قوميا كثيرا تغافلته كتب التاريخ لأسباب مختلفة.

ثالثا: منذ دخول مصر كولاية في الحكم الإسلامي، فإنها كانت من أكثر الولايات تأثيرا على الإسلام والدولة الإسلامية، فلقد كانت كنزا اقتصاديا وثقافيا لا يفنى، ولكنها صارت بعد ذلك ركنا مهما من أركان المعادلة السياسية الإقليمية من خلال عدد من الدول المتعاقبة التي اتخذت من مصر قاعدة لها ومن الشام امتدادا طبيعيا، وقد سلك أحمد بن طولون مؤسس الدولة الطولونية هذا التوجه بعد استقلاله بمصر في 868 لمدة أربعين عاما تقريبا، وعلى الرغم من استرداد الخليفة العباسي لمصر بعد وفاة طولون بمدة غير بعيدة، فإن نفس الشيء تكرر مع محمد بن طغج الإخشيد الذي أسس الدولة الإخشيدية في مطالع القرن العاشر، وحكم رئيس وزرائه كافور الحبشي البلاد كواص على أولاده لسنوات طويلة توسعت فيها حدود الدولة المصرية وعظم شأنها وصارت ركنا مهما للدولة الإسلامية.

ثالثا: كانت الدولة الفاطمية مثالا عظيما على استخدام القدرات المصرية لتعظيم شأنها إقليميا، فكانت دولة شيعية قوية للغاية أثرت مباشرة في النظام الإقليمي من خلال فرض سيطرتها على محيطها الإقليمي، ولكن أهم مكون في تقديري أثر على القوة النسبية للبلاد كان البعد الثقافي بإنشاء الجامع الأزهر الشريف الذي أصبح مركزا للفكر السني الوسطي فيما بعد، علاوة على الزخرفة والتقاليد التي صارت مرتبطة بالعادات التي أخذتها مصر من خلال الاحتفالات الشيعية، والتي حولتها إلى مفاهيم سنية فيما بعد بمجرد سقوط الدولة الفاطمية.

رابعا: لعبت الدولة المصرية دورها الحاسم في التصدي للحملات الصليبية والمغولية التي كادت تعصف بالإسلام ودوله، وهو ما فشلت فيه شخصيات تحكم دويلات أخرى حتى وإن كان لها دورها البارز مثل قلج أرسلان ونور الدين زنكي في شمال الشام، ولكن الثقل الإقليمي لدرء هذا الخطر جاء من مصر حيث استطاعت عوامل الديموغرافيا والغنى الاقتصادي والارتكاز الاستراتيجي أن تحسم الأمر لصالحها للدفاع عن الدين الإسلامي، وهنا برز دور صلاح الدين الأيوبي الذي استطاع بقوته أن يحجم من الحملات الصليبية المختلفة، ولعل معركة «حطين» هي المثال الأكبر على ذلك، وانتقل كاهل الصراع الإسلامي - الصليبي إلى دولة المماليك في مصر، خاصة الظاهر بيبرس البندقداري الذي استطاع بقوة مصر وجيشها تصفية أغلبية البقع الصليبية في الأراضي العربية.

خامسا: تجلى الدور الإقليمي والدولي المصري خلال فترة حكم المماليك عندما استطاعت مصر وقف الزحف المغولي على العالم الإسلامي بعد معركة «عين جالوت» الشهيرة والتي استطاع المظفر قطز فيها هزيمتهم في معركة حاسمة فاصلة أثنتهم عن ملاحقة التوسع الغربي بعد الاضطرابات السياسية التي أصابتهم. وتجدر الإشارة هنا إلى ما أكدته مصادر تاريخية عديدة من وجود تعاون وثيق بين المغول والصليبيين لضرب الدولة الإسلامية، ولكن الدولة المصرية القوية سمحت بدحض الاثنين معا، وقد وصلت قوة الدولة المملوكية إلى الحد الذي صارت معه دول أوروبية تقبل التداول بالعملة المصرية.

سادسا: لقد لعبت مصر دورها القوي في التاريخ الحديث بعد صعود محمد علي إلى سدة الحكم في البلاد، حيث استطاع الرجل أن يحول الوضع في البلاد من حالة فوضى إلى حالة استقرار، وبنى جيشا مصريا قويا في منتصف عشرينات القرن التاسع عشر ووسع الدولة المصرية للحدود التقليدية لتوسعها الإقليمي، وهو ما أدى إلى تهديد مصالح الدول الأوروبية وتوازناتها الاستراتيجية مما دفعهم للتكالب ضده وإرغامه على التوقيع على معاهدة لندن عام 1840. لقد حجمت هذه المعاهدة الدور الإقليمي العسكري المصري ولكنها لم تنه ثقلها الثقافي والسياسي حيث أصبحت مصر دولة قوية بفضل قوتها الناعمة الممثلة في كونها قلب الثورات على الاحتلال الأجنبي للدول العربية خاصة في ثورة 1919 التي أثرت مباشرة على أقطار عربية عديدة، إضافة إلى دورها التنويري المهم في المنطقة العربية، ثم جاءت بعد ذلك الحقبة الناصرية واتبعت نمطا مماثلا ولكن بوسائل أخرى، فبدلا من ضم الشام تم توحيد الدولتين، ويلاحظ أيضا أن حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973 كانت عنصرا مهما للغاية في حسم مستقبل الصراع العربي - الإسرائيلي الذي أثر مباشرة على الأمة العربية.

يمثل ما سبق عرضا لتفعيل الدور الإقليمي المصري المتراكم، ويهمنا هنا إبراز ملاحظتين أساسيتين: الأولى أن مصر تعد بكل المعايير أكثر دول العالم تأثيرا على إقليمها لفترات زمنية ممتدة كما هو واضح، والحقيقة الثانية ولعلها قد تكون مستغربة، هي أن بزوغ الدور المصري كان يأتي دائما بعد مراحل ضعف وهوان ولكنه يحدث في فترة زمنية وجيزة للغاية كما حدث في العهود الفرعونية ثم أواخر العهد اليوناني ثم الطولوني والمملوكي ثم في عهد محمد علي، وحتى بعد انتكاسة عام 1967، وهذا يرجع بشكل حاسم إلى توافر عناصر ثقل الدولة القوية التي سمحت لقياداتها في فترة وجيزة باستنهاض هذا الشعب ومقوماته وقدرات الدولة فيه بمجرد حسن التنظيم ووضع السياسات السليمة.

لقد كانت هذه محاولة لاختزال أكثر من ثلاثين قرنا من الزمان في عدد بسيط من السطور لنفسر أنماط شعب مصري قدم لإقليمه وهويته الكثير عبر العصور، وسيظل كذلك طالما بقي الثقل الأساسي والمقارن له على ما هو، وتظل مقولة المؤرخ اليوناني الشهير هيرودوت «إن مصر هبة النيل» عالقة في الأذهان.. ولكن بعد أكثر من ألفي سنة منذ تدوينها، فإنه وجب استكمالها بمقولة «إن الحضارة هبة شعب».

* كاتب مصري