سؤال غير مطلوب لخلاف غير موجود

د. محمد عبد الستار البدري

TT

هل هناك تناقض بين ديني ووطنيتي؟.. هذا سؤال كان يتردد منذ قرون طويلة ولا يزال حتى اليوم، وهو سؤال كان من المفترض ألا يطرح من الأساس، لكنه غالبا ما يُطرح عندما تمر الشعوب بمراحل عدم اتزان في البوصلة السياسية التي تنير الطريق لمستقبلها، والبعض يطرحون خطأ القضية من خلال مضمون الصراع بين الدولة المدنية والدينية، ويرتكزون على فكرة القومية الدينية بديلا عن القومية الوطنية، بينما جوهر القضية هو ضرورة الفصل بين المدخل الديني والمكون القومي أو الوطني للشعوب، ويؤكد أرباب هذا التوجه مقولتهم بأنه «لا تناقض بين قوميتي من ناحية وإسلامي ومسيحيتي من ناحية أخرى»، مؤكدين عدم وجود تناقض بين القيمتين.

ومع كل ذلك يظل السؤال حول التناقض بين القيمتين قائما، واعتقادي أن الإجابة عن هذا السؤال العبثي موجودة في التاريخ وتجاربنا وتجارب الأمم والشعوب من قبلنا، وفي هذا الإطار نستوضح أهم ما يلي:

أولا: أن البعد القومي أو الوطني في تاريخ الإسلام موجود منذ فجره وقبل ذلك بكثير، ولا يمكن إغفاله، وله دلالاته في كل خطوة من خطوات ظهور الإسلام واضحة، فروح القومية لم تختف مع الدين الحنيف، ولكن تلاحظ هنا ملاحظتان أساسيتان، الأولى أن مفهوم القومية كان بدائيا ومرتبطا بشكل أو بآخر بالمفهوم القبلي، والملاحظة الثانية هي أن أركان هذه القومية البدائية رغم بزوغها فإنها كانت قليلة التأثير النسبي أثناء حياة النبي (صلى الله عليه وسلم) وذلك لعدد من الأسباب، أهمها قدسية الوجود النبوي الذي غطى على أي بعد قومي لكن وجوده عليه السلام لم ينف أو يتناقض مع المشاعر القومية.

ثانيا: لقد بدأت مظاهر القومية ممثلة في القبلية منذ هبوط قصي بن كلاب مكة وتأسيسه المجتمع القبلي لقريش وتمحوره حول بيت الإله لاستخدامه كأساس للشرعية القبلية الوليدة، ومنذ ذلك التاريخ صارت القبلية القرشية شيئا أساسيا في الوجود العربي، وانتقل ذلك حتى بعد هبوط الوحي على النبي (عليه الصلاة والسلام)، فلم تخرج الخلافة الإسلامية عن قريش إلا بعد القضاء على الخلافة العباسية، أو عندما ظهرت دول إسلامية موازية خارجة عن هذه الدول، مثل الطولونية والإخشيدية في مصر، والتي رفضت المظلة القرشية، ليس لرفضها الإسلام بل سعيا للحكم الذاتي والشرعية السياسية المنفصلة. ويضاف إلى ذلك أن جزءا من الشرعية السياسية التي استندت إليها الخلافة الراشدة والخلافات من بعدها قول أشرف المرسلين «الأئمة من قريش»، وهو ما أكدته أحداث «سقيفة بني ساعدة» عندما طُرح مبدأ «منا الأمراء ومنكم الوزراء»، أي من قريش الأمراء ومن أهل المدينة الوزراء، وهذا سند قومي لا مجال للتشكيك فيه، وروح القومية واضحة لا تحتمل اللبس أو التأويل، وهي لم تتناقض مع الدين الوليد بل إنها كانت صادرة في أغلبها من العشرة المبشرين بالجنة والذين كون أربعة منهم (رضوان الله عليهم) الخلافة الراشدة.

ثالثا: أن النزعات القومية أو الوطنية كانت موجودة حتى في أوج سلطة الخلافات الإسلامية المختلفة، لكن مع المرحلة الانتقالية للخلافة الإسلامية بعد سقوط الخلافة العباسية فُتح الباب على مصراعيه لظهور القوميات والوطنيات في الأقطار الإسلامية المختلفة لتأخذ موقعها على الساحة السياسية الإسلامية، فكانت مصر هي رائدة الدول القومية في العالم الإسلامي والعربي من خلال التوجهات الاستقلالية لمن قاموا عليها، حتى استقر أمر الحكم لمحمد علي في 1805، ومع ذلك فقد ظلت محافظة على روح الإسلام فيها بجانب فكرها القومي أو الوطني.

رابعا: من المؤكد أن ظهور المشاعر القومية سواء العربية منها أو غير العربية في العالم العربي لم يرتبط بأي شكل من الأشكال بصراع مع أي فكر ديني، فإذا ما اتخذنا من مصر مثالا نجد أنه رغم ظهور القومية المصرية على مدار القرن التاسع عشر فإنها لم تتأثر سلبا بالفكر الإسلامي، بل إن الفكر الإسلامي قد يكون الرحم الذي ولدت منه هذه القومية، فلم نر تعارضا بين الروح الإسلامية والقومية أو الفكر القومي المصري.

خامسا: لنا العبر في أمثلة الأمم التي سبقتنا، والتي يجب أن نتداركها، فقد فشلت أوروبا في القرن السابع عشر في تحقيق حلمها «بالإمبراطورية الموحدة: إله واحد وحاكم واحد»، والمقصود هنا إمبراطور الإمبراطورية الرومانية المقدسة وبابا الكنيسة في روما، وكان ذلك الفشل مرتبطا بأسباب عديدة، منها فساد السلطتين سواء الإمبراطور أو المؤسسة الكنسية، كما أن الظروف لم تكن مواتية، لكن أهم سبب في تقديري لفشل هذا المشروع كان تجاهله التام للفكر القومي للشعوب المختلفة والتي اندلعت فيها التيارات القومية لتبدأ حروبا موسعة، ولعل هذا ما دفع بعض الدول الأوروبية لتبني العلمانية المتطرفة كرد فعل للضغط الديني المتشدد، فدفعت الشعوب أثمان التطرف من التوجهين.

إن دلت كل هذه الأفكار على شيء فهي تدل على أن الإسلام والقومية، أو الوطنية، ليسا في تناقض من أي منطلق، بل إنه عندما أطلق الشيخ علي عبد الرازق كتابه الشهير «الإسلام وأصول الحكم» ونفى فيه ضرورة وحتمية الخلافة، فإن ذلك كان صدمة فكرية ودينية للأغلبية، لكنه لم يمثل بأي حال تغييرا لدفة المستقبل المصري، لأن مصر كانت بالفعل تحيا خارج الخلافة الإسلامية عمليا منذ استقلالها الفعلي مع بداية حكم محمد علي عن الدولة العثمانية، ولكن ما حدث هو أن الشيخ عبد الرازق كان ناقوس استفاقة للمصريين بأن فكرة الخلافة كانت فكرة مستنتجة أو مستحدثة ويمكن التعامل خارجها.

مما سبق يتضح أن كل هذه الحجج تعكس بوضوح أن الفكر القومي، الذي لم يتناقض من قبل مع الإسلام، لا يجب أن يتناقض اليوم، ولا يجب افتعال هذا التناقض، وهنا تحضرني مقولة سمعتها منذ أيام لأحد الساسة اللبنانيين يقول فيها «إن قيمة الدين في أن يتسع لكل الوطنيات، وقيمة الوطن في أن يتسع لكل الأديان».

* كاتب مصري