ربيع أوروبا ونمط ثوري غير مبرر

د. محمد عبد الستار البدري

TT

يشير علم النفس إلى معاناة البعض من مرض «الشخصيات القهرية Compulsive Characters»، ومن السمات الجانبية لهذا الاضطراب النفسي رفض هذه الشخصيات للنصائح وإصرارها على خوض التجارب بنفسها مهما كلفها ذلك، وإذا كان هذا السلوك له ما يبرره لدى الفرد في علم النفس، إلا أنه لا يوجد ما يمكن تسميتهم «الشعوب القهرية»، لأن هذا اضطراب فردي، ويجب أن لا يصيب إدارة الدول أو الشعوب حتى لا تدفع أثمانا باهظة من أرواح أبنائها ومواردها المختلفة في تجربة مقروءة سبقتها إليها دول أخرى، ولكن التاريخ الأوروبي يشير إلى عكس ذلك، فهناك بالفعل نمط ملحوظ للثورات الأوروبية في القرون الثلاثة الأخيرة رفضت بمقتضاها كثير من الشعوب التعلم من تجربة الثورة الإنجليزية، وأصرت على خوض نفس نمط العنف والتشدد، بل والتأخر في جني ثمرات الحرية أيضا بالدخول في نفس الدائرة المغلقة العبثية للتحول.

لقد اندلعت إرهاصات الثورة الإنجليزية في مطلع القرن السابع عشر للقضاء على سلطة الملك المطلقة، ولكنها تبلورت في حرب أهلية في الحقبة الرابعة من هذا القرن، ثم تحولت بعد ذلك لديكتاتورية دينية متطرفة في عهد كرومويل، بعد حرب أهلية ضروس، وعندما مات هذا الرجل ترك الحكم بلا مؤسسات حيث كان نظامه أوتوقراطيا صرفا، والحساب الختامي لهذه الثورة كان قتل الملك واستبدال سلطة مستبدة بسلطة دينية أكثر استبدادا - حتى وإن كانت مستنيرة بعض الشيء - ثم استبدالها بملك مستبد جديد هو شارل الثاني، واستمر هذا النهج إلى أن جاءت «الثورة المجيدة The Glorious Revolution» في نهاية القرن السابع عشر بقدوم الأمير ويليام أوف أورانج وزوجته ماري ابنة الملك الإنجليزي، ودخلا لندن معا على رأس جيش قوي، وقد حدث ذلك بسبب ترشيح الملك أخاها الكاثوليكي لولاية العهد بدلا منها، وهو ما لم يلقَ استحسان البرلمان، وبسبب انتشار المذهب الإنجيليكي ورفض الشعب للكاثوليكية، وقد جاءت الثورة في مجملها سلمية، باستثناء بعض المعارك في آيرلندا بسبب وجود نوازع كاثوليكية قوية، ولكنها انتهت بإعلان البرلمان تولي ويليام وزوجته ماري عرش البلاد بحكم مشترك.

لقد وضعت هذه الثورة إنجلترا على سلم التطور الليبرالي والديمقراطي، من خلال تثبيت الأسس القانونية والسياسية للحقوق والواجبات، ونظمت العلاقة بين الملك والبرلمان، فوضعت بذلك حدا للعبث التحكمي والسلطوي، ومنحت البلاد الصيغة الليبرالية الشاملة التي ضمنت الحقوق الأساسية والسياسية للشعب الإنجليزي، ومعها نظم الحكم في البلاد، وهكذا احتاجت إنجلترا لقرابة قرن من الزمان لاكتمال الدائرة الأولى للفكر الليبرالي، وأنهت حكم مجموعة من الديكتاتورية الساعية للديمقراطية! لقد سبقت إنجلترا باقي أوروبا بقرابة قرنين من الزمان في هذا التحول الليبرالي، ومع ذلك فالملاحظة الغريبة هي أن الشعوب الأوروبية في عهد التنوير لم تتعلم من تجربة الثورة الإنجليزية، بل إنها كادت تتبع نفس نهج هذه التجربة بتكرار نمطها العبثي من الخروج من الثورات بأنظمة أكثر ديكتاتورية من التي تخلصوا منها، وذلك بإصرار غير مبرر أو مفهوم، وقد دفعت هذه الثورات نفس التكلفة بل أكثر بكثير، وفي هذا الإطار يمكن تتبع أجزاء من هذا النمط من خلال المحطات التالية:

أولا: كانت التجربة الفرنسية هي الرائدة، فالثورة بدأت في 1789 ودخلت في حالة من الفوضى، أعقبتها حالة من العنف السياسي في عهد روبسبير ثم حكومة الديركتوار الضعيفة ثم ديكتاتورية لنابليون بونابرت التي استمرت حتى 1814 وانتهت باحتلال فرنسا من قبل الحلفاء الذين أعادوا النظام الملكي وامتداده الذي استمر حتى إعلان الجمهورية الثانية، التي انتهت بديكتاتورية نابليون الثالث، التي انكسرت بدورها في 1870، والنتيجة تظل واحدة، قرابة قرن من الزمان حتى الوصول لأسس الليبرالية والثمن من الدماء والموارد وعبث السياسيين الذين كانت مطامعهم أكبر من وطنيتهم، وفي أغلب الأحيان من قدراتهم أيضا.

ثانيا: لقد أثرت الثورة الفرنسية في كل الدول الأوروبية المجاورة، لا سيما بعدما نشرت الجيوش الفرنسية الثورة ومبادئها في كل الدول التي احتلتها، ولكن نظرا للسياسة المحافظة التي سيطرت على أوروبا بقيادة المستشار النمساوي ميترنيخ بدعم من روسيا وبروسيا، فقد تأخر تحقيق أي ثمار لهذه الأفكار حتى عام 1848 والذي يطلق عليه في الأدبيات الأوروبية «الربيع الأوروبي» حيث كانت هذه السنة بداية انهيار النظام المحافظ في أوروبا وفتح الطريق أمام الحركات الليبرالية ولكنها فشلت أيضا لعوامل متعلقة بالسياسة وسوء الإدارة، فدخلت أوروبا مرحلة من الصراعات بين الفكر الليبرالي والجمود المحافظ، بين الجمهوريين والملكيين، وهو الصراع الذي امتد لحقب طويلة.

ثالثا: تأكيدا لما سبق، فقد انتشرت في الكونفدرالية الألمانية بعد الثورة والاحتلال الفرنسي الأفكار الليبرالية التي نقلتها جيوش الثورة الفرنسية إلى بروسيا، ولكن بمجرد أن انهزم التيار الثوري الفرنسي عادت البلاد مرة أخرى إلى حظيرة الفكر المحافظ الذي قاده المستشار النمساوي ميترنيخ سعيا لحماية دولة «الهابسبورج» أو النمسا من خلال تعطيل الحركات الانفصالية وكبت الحركات الثورية بفكر محافظ متجمد، وقد برز هذا الفكر من خلال «مرسوم كارلسباد Carlsbad Decree» عام 1819، الذي فرض السيطرة على التجمعات داخل الجامعات والأنشطة السياسية المختلفة بما في ذلك تقييد الحريات وقمع الفكر وأدواته من خلال الرقابة على الصحف والكتب والتجمعات.. إلخ، وهو ما أعاد البلاد إلى حالة جمود لم تتخلص منها إلا في 1848 بثورة الشعب الألماني وإعلان «جمعية فرانكفورت» الحرة الدستور الجديد للمقاطعات الألمانية المختلفة التي كانت تواقة للتوحد، ولكنها سرعان ما فشلت الحركة الثورية بسبب تآمر الملوك والأمراء الألمان على هذا الفكر لأسباب تتعلق بفكرهم المحافظ وقلقهم من تقليص نفوذهم في حالة الانصهار السياسي والليبرالية، فتأجل مشروع الوحدة الألمانية لما بعد الحرب الفرنسية - الألمانية عام 1870، ولكن شمس الحرية والليبرالية لم تسطع إلا بعد هزيمة هذه الدولة في الحرب العالمية الأولى وإعلان «جمهورية الفيمار»، ولكنها أتت في ظل ظروف اقتصادية واجتماعية صعبة عقب استسلام ألمانيا في الحرب العالمية الأولى، فلم تستطع الليبرالية الصمود أمامها إذ انقض الحزب النازي بقيادة هتلر على الحكم في البلاد بوسائل ديمقراطية، ومن سخرية القدر أن ألمانيا لم تنعم بالديمقراطية المستقرة إلا بعد هزيمتها العسكرية في الحرب العالمية الثانية، والأغرب من ذلك أنها جاءت على أيدي الاحتلال الأجنبي بعد تقسيم ألمانيا، أي أن الحساب الختامي كان قرابة مائة وأربعين عاما من العبث السياسي للوصول لليبرالية! رابعا: النماذج الأوروبية الأخرى متعددة وكلها تصب في نفس الاتجاه تقريبا، ولكن تحضرنا هنا التجربة الإسبانية، فبعد هزيمة القوات النابليونية وجلائها عن البلاد عاد حكم أسرة «البوربون» الفرنسيين ممثلة في الملك فرديناند السابع، الذي رفض الدستور الليبرالي للبلاد وأقام حكما سلطويا وأطاح بما سمي «الليبرالية البرجوازية»، ولكن الحركة الليبرالية بُعثت من جديد ضد الملك الذي استعان بالقوات الفرنسية لضربها في 1822 بعد موافقة الدول الأوروبية في مؤتمرها العام المنعقد في مدينة فيرونا في إطار ما عرف بـ«نظام الكونغرس»، وقد استمر نفس هذا النمط العبثي من الكر والفر حتى جاء الحكم العسكري للجنرال فرانكو بعد قرابة مائة عام ومن بعده تحولت إسبانيا إلى النمط الديمقراطي الأوروبي، بدستور يضمن الحريات وبملك يملك ولا يحكم.

لقد مثل هذا النمط الثوري خطا يكاد يكون متكررا دون محاولة التعلم من التجارب الأخرى، وهو نمط من العنف والديكتاتورية بهدف الوصول للديمقراطية، والضحية كانت الشعوب والفقر والتأخر السياسي والاقتصادي والليبرالي، ورغم أن الثورة الإنجليزية كان من المفترض أن تكون المنارة السياسية للثورات التي تلتها، فإن تاريخ هذه الثورات في باقي القارة الأوروبية يعكس غير ذلك ليؤكد مقولة الفيلسوف الألماني العظيم هيغل «هو أن الأمم والحكومات لا تتعلم أبدا من التاريخ، كما أنها لا تتصرف على أساس أي درس تعلمته»، وهنا تحضرني أيضا مقولة شهيرة للمستشار الألماني بسمارك الذي وحد ألمانيا يقول فيها «إن السذج هم الذين يتعلمون من أخطائهم، أما أنا فأتعلم من أخطاء السذج»، والدعوة للمولى، عز وجل، ألا يجعلنا ممن يمكن تسميتهم مجازا «الشعوب القهرية»، بل أن يجعلنا نتعلم من تجارب من قبلنا حتى لا نكون عبرة لمن بعدنا.

* كاتب مصري