العراق.. جيش لكل مسؤول

حمايات المسؤولين في العراق باتت قصة بلا بداية ولا نهاية

TT

بعد مرور 9 سنوات على إسقاط نظام صدام حسين عام 2003، وتشكل نظام جديد قوامه حركة المعارضة السابقة بمختلف قواها وتوجهاتها العرقية والطائفية والجهوية والحزبية.. تم إلغاء المؤسسة العسكرية السابقة واجتثاث أفرادها ويعدون بأكثر من مليون جندي وضابط وصف ضابط، بينما دخل عالم الخدمة الجديد أشكال وأنماط من الميليشيات والجماعات المسلحة والشركات الأمنية وفي سياقها تم تشكيل جيش جديد في ظل احتلال أجنبي أخذ على عاتقه كل المهمات الأمنية والسياسية طوال ثمانية أعوام.

وهنا فإن الدولة التي كانت مركزية بسلطة واحدة وجيش واحد باتت اليوم، وبصرف النظر عن فكرة الخطأ والصواب هنا أو هناك، دولا وسلطات وجيوشا تتداخل مع بعضها حينا وتتقاطع حينا آخر.

وفي ظل هذا التضخم في أعداد منتسبي الجيش وقوى الأمن الداخلي في العراق الجديد تضخمت هي الأخرى عناصر حمايات المسؤولين كبارهم وصغارهم حتى تحولت إلى جيش جرار قدر له أن يوضع الآن في دائرة الاتهام.

فبعد الحوار الذي أجرته «الشرق الأوسط» مع الناطق باسم عمليات بغداد الفريق قاسم عطا، الذي كشف فيه عن أن غالبية العمليات الإرهابية والإجرامية من اغتيالات وتفجيرات وسواها إنما تكون من قبل حمايات المسؤولين ومن خلال سيارات الدولة وهوياتها وأسلحتها. هذه المعلومة التي كان يجري الحديث عنها في السابق من باب التلميح باتت اليوم واحدة من مانشيتات الصحف والأخبار العاجلة لوكالات الأنباء، مثلما حصل لحوار «الشرق الأوسط» الذي تحول إلى مادة خبرية طازجة لعشرات وسائل الإعلام من صحف وفضائيات ووكالات أنباء ومواقع إنترنت.

رئيس البرلمان العراقي أسامة النجيفي، وهو أحد القياديين البارزين في القائمة العراقية، طالب بعد قضية الهاشمي وما أدت وما يمكن أن تؤدي إليه من إشكالات سياسية في غاية التعقيد، إلى إلغاء المظاهر المسلحة التي تشكلت «عنوة» خارج الدستور، فيما أكد ضرورة التخفيف من عسكرة المجتمع وانتشار المسلحين الذين «عاثوا» موتا في العراق. ما تشكل عنوة في عرف النجيفي خارج الدستور هو كل ما يندرج في باب الميليشيات ومنها الحمايات التي تحولت، ومثلما يقول عضو لجنة الأمن والدفاع في البرلمان العراقي شوان محمد طه في حديثه لـ«الشرق الأوسط» عن هذه الظاهرة أن «لدينا الآن جيشا جرارا من الحمايات يبلغ تعداد أفراده عشرات الآلاف وهو أمر مبالغ فيه جدا وبات يشكل خطورة بالغة على كل المستويات». ويمضي طه عضو البرلمان العراقي عن التحالف الكردستاني وعضو لجنة الأمن والدفاع قائلا إن «الأسباب الموجبة التي أدت إلى إنشاء هذا الجيش من الحمايات أو الذي تطور إلى جيش فيما بعد هو طبيعة التشكيلة السياسية التي جاءت إلى السلطة بعد سقوط نظام صدام حسين والتي تنتمي إلى أعراق وقوميات وأديان ومذاهب وطوائف وكتل ومناطق مختلفة ومتباينة في كل شيء، الأمر الذي جعل مسألة المنظومة الأمنية في غاية الأهمية والخطورة معا من حيث تركيبة هذه المنظومة والأعداد التي يمكن أن تخصص للمسؤولين بالإضافة إلى الرواتب والامتيازات وغيرها من الاستحقاقات التي تترتب على ذلك». ويضيف طه أنه «بالإضافة إلى الأعداد الكبيرة من حمايات المسؤولين فإن هناك أكثر من 50 ألفا من رجال الشركات الأمنية وهذا بحد ذاته جيش كبير جدا يتنقل بالشارع عبر مواكب رسمية أو ينتشر في الأبنية والمؤسسات»، مشيرا إلى أن «كل ذلك إنما هو نتاج أزمة الثقة بين الكتل والمسؤولين السياسيين لأننا نعاني من ظاهرة خطيرة وهي اختراق المنظومة الأمنية من قبل العناصر الإرهابية والإجرامية، وهو ما يستوجب إعادة النظر بالمنظومة الأمنية بشكل شامل، لكن بسبب أزمة الثقة بين السياسيين فإنه حتى هذا الملف يبدو معطلا إلى حد كبير». وردا على سؤال بشأن الأسباب التي تجعل أعداد حمايات المسؤولين تتضخم يوما بعد آخر، قال طه إن «السبب الأبرز الذي يقف وراء ذلك هو عدم الاستقرار الأمني الذي يجعل من كل مسؤول لا يثق بأي عنصر حماية ما لم يجلبه هو سواء من أقربائه أو حزبه أو عشيرته أو منطقته أو مذهبه، وهو أمر باتت له مخاطر كثيرة، لا سيما على صعيد التسقيط السياسي، وهو ما يحصل الآن عندما يجري اتهام حمايات بعض كبار المسؤولين بعمليات إرهابية، مثلما يحصل لحمايات طارق الهاشمي، الأمر الذي نفاه الهاشمي، واعتبرت الاتهامات من قبل تصفية الحسابات السياسية، وهو ما يمكن أن يفتح الباب أمام سلسلة جديدة من الاتهامات التي من شأنها خلط الأوراق داخل المشهد السياسي». ويرى طه أن «البرلمان العراقي يناقش الآن قانونا جديدا للأسلحة، ومن شأن هذا القانون أن يحد من هذه الظواهر إلى حد كبير، لا سيما إذا تم وضع ضوابط صارمة بهذا الاتجاه بإجراءات وصيغ وأساليب مختلفة». وحول كيفية اختيار المسؤول لحماياته وأعدادهم، يقول عضو لجنة الأمن والدفاع البرلمانية إن «الأمر يتوقف على طبيعة المنطقة والمسؤول، وبالتالي فإن العملية خاضعة للزيادة والنقصان فإذا كان المسؤول مثل الوزير أو عضو البرلمان ومن هو بدرجتهما يسكن داخل المنطقة الخضراء فإن من حقه اختيار 30 عنصرا لحمايته من الناس المقربين له، وهو يكون مسؤولا عنهم، أما إذا كان يسكن خارج المنطقة الخضراء فإن من حقه اختيار 50 عنصرا لحمايته على أن يشمل ذلك في الحالتين عناصر السكرتارية والسواق والعاملين في المكتب». أما بالنسبة لكبار المسؤولين، مثل رئيس الجمهورية أو رئيس الوزراء أو رئيس البرلمان ونوابهم فإنه وطبقا لما يراه طه فإن «أعداد حمايات هؤلاء تبلغ نحو 500 شخص لكل واحد، وهو ما يعادل في التركيبة العسكرية فوج حماية، وهو أمر مبالغ فيه جدا».

قبل أن نكمل الرؤية البرلمانية السياسية بشأن تضخم أعداد حمايات المسؤولين وهو ما جعل الشكوك تحوم حولهم بشأن العمليات الإرهابية من تفجيرات واغتيالات، فإن الدولة العراقية الحديثة التي تشكلت عام 1921 لم تعرف في تاريخها مثل هذه الأعداد من الحمايات، رغم اختلاف العهود من ملكية إلى جمهورية أو اختلاف الأنظمة السياسية التي حكمت البلاد. فحتى سبعينات القرن الماضي فإن المنظومة الأمنية، ومنها أسلوب حماية المسؤولين الكبار مركزية. وحين نقول المسؤولين الكبار، فإننا نقصد بذلك رئيس الجمهورية والوزراء، لأن المسؤولين الأدنى منهم درجة مثل المديرين العامين أو حتى كبار ضباط الجيش لم يكونوا في الغالب الأعم يتمتعون بامتيازات الحماية لا من حيث المناطق التي يسكنونها، حيث لا توجد آنذاك منطقة اسمها «المنطقة الخضراء» ولا من حيث ما بات يسمى المواكب الآن. فالمواكب في الماضي تقتصر على رئيس الجمهورية أو رئيس الوزراء وعلى سبيل المثال فإن أول رئيس وزراء في العهد الجمهوري في العراق عبد الكريم قاسم لم يكن عند محاولة اغتياله عام 1959 برفقته سوى سائق ومرافق واحد وبعد الحادث لم يزد فردا واحدا لحمايته. منذ منتصف السبعينات ومع بدء تمركز صدام حسين في السلطة فقد بدأ الناس يشاهدون ولأول مرة في الشارع سيارات ومدنيين ودراجات نارية، وهي بداية الديكتاتورية لصدام حسين، وهو أمر لم يكن مألوفا من قبل. ومع ذلك فإنه حتى في ظل هذه الديكتاتورية التي بدأت تتضخم على مستويات أخرى مع تعدد الأجهزة الأمنية والعسكرية الخاصة وهي كثيرة فعلا، إلا أنها لم يكن لها انعكاس واضح في الشارع، فضلا عن أنها محكومة بإطار مؤسساتي يجعل من عملية السيطرة عليها أمرا مفروغا منه. ما حصل بعد التغيير عام 2003 أمر بدا مختلفا ويثير الاهتمام والانتباه قبل أن يتحول فيما بعد إلى ظاهرة أخذت تثير الاشمئزاز في الشارع العراقي وهو ما يحصل الآن. فمنظر السيارات الحديثة والمصفحة التي تسير بسرعة جنونية في الشوارع وتحمل باجات وهويات خاصة ولها مسارب خاصة للحركة عند الاقتراب من السيطرات وكلها سيارات مظللة وبلا أرقام تحمل أناسا بوجوه مقنعة حينا ومبرقعة حينا آخر، بالإضافة إلى إطلاقها الأصوات التحذيرية المزمجرة والزاجرة للناس بهدف إخلاء الطريق أو الأمر بالتوقف الفوري لكل السيارات المدنية بما في ذلك سيارات الإسعاف التي قد تتعرض - حتى هذه السيارات التي يمكن أن تحمل مريضا على حافة الموت - لإطلاق نار عشوائي قد يؤدي إلى القتل بدم بارد بهدف حماية المسؤول. هذه المسائل المثيرة للقلق لا تزال الإجراءات الحكومية حيالها أقل مما هو مطلوب بكثير. وفي هذا السياق فقد أصدر رئيس الوزراء نوري المالكي بوصفه القائد العام للقوات المسلحة أمرا ألزم فيه حمايات المسؤولين الالتزام بالضوابط. المالكي أصدر بيانا جاء فيه أن «على حمايات المسؤولين الالتزام بالضوابط والقوانين أثناء تنقلهم في الشوارع العامة»، مطالبا إياهم بـ«عدم قطع الطرق وإطلاق العيارات النارية، والسير بالاتجاه المعاكس». وأضاف المالكي أنه «سيتم تشكيل مفارز خاصة لرصد المخالفات المذكورة»، متوعدا بـ«محاسبة المقصرين منهم». المالكي نفسه كان قد اتهم في الثالث من شهر نوفمبر (تشرين الثاني) 2011، بعض حمايات الشركاء بأنهم تحولوا إلى ملاذ آمن للمجرمين والقتلة باستخدام أسلحة وسيارات الدولة. كما أشار إلى أن بعض الشركاء يبحثون عن السلبيات وهي موجودة فإنه دعا جميع الشركاء إلى التزام بحدود الشراكة أو الاستقالة من الحكومة والتحول إلى معارضة. كما أصدرت الأمانة العامة لمجلس الوزراء أمرا لجميع أفراد الحمايات والمواكب الحكومية بعدم التجاوز على المواطنين أثناء سيرهم وعدم السير عكس الاتجاه إضافة إلى احترام رجال المرور ونقاط التفتيش المنتشرة في جميع المدن والمحافظات.

القيادي بائتلاف دولة القانون وعضو البرلمان العراقي إحسان العوادي يقول في حديثه لـ«الشرق الأوسط» عن ظاهرة حمايات المسؤولين، إن «الأجهزة الأمنية في وزارة الداخلية وغيرها من المؤسسات المسؤولة لم تتعامل بحكمة مع هذه الظاهرة التي باتت لافتة للنظر والقلق معا، لا سيما مع بروز ظاهرة الاغتيالات والتصفيات التي يتم تنفيذها بواسطة هؤلاء بعد أن تم اختراقهم وتوظيفهم باتجاهات خارج نطاق ما يتوجب عليهم تأديته من مهمات». ويضيف العوادي قائلا إن «علينا الاعتراف الآن أننا حيال جيش قوامه أكثر من عشرة آلاف عنصر حماية في البرلمان فقط، والمصيبة أن هؤلاء كلهم مسلحون ولا يرتبطون بأية جهة حكومية رسمية وهو أمر في غاية الخطورة»، مشيرا إلى «أننا طالبنا رئيس البرلمان بإيجاد حل منطقي لهذه الظاهرة، خصوصا أن هذا الجيش غير مدرب وغير مؤهل ولا أحد يعرف من أين يأتون وإلى أين يذهبون وفوق هذا وذاك فإنهم يستنزفون أموالا ضخمة من الميزانية العامة للدولة». وأوضح العوادي أن «الكثير من المسؤولين يسكنون المنطقة الخضراء وهم لا يحتاجون هذا العدد الكبير من الحمايات ولكن بعضهم يخرج إلى الشارع مع حماياته من خلال أرتال من السيارات والحمايات بسيارات مظللة وتقوم بكل ما يمكن أن يؤدي إلى استفزاز الناس عبر ما يمكن تسميته بصناعة المزيد من الطواغيت الصغار». وأشار إلى أن «المصيبة لا تتوقف عند هذا الحد، حيث إن هذا الأمر فتح أبوابا مختلفة أمام شتى أنواع الفساد المالي والأخلاقي عبر ممارسات وأساليب مختلفة وهو ما يستدعي إعادة نظر جذرية في هذا الأمر». أما القيادي بالقائمة العراقية عصام العبيدي وهي القائمة التي تم توجيه المزيد من أصابع الاتهام إلى الكثير من قيادييها، وأبرزهم حتى الآن نائب رئيس الجمهورية طارق الهاشمي، بالإرهاب فقد أشار في حديثه لـ«الشرق الأوسط» إلى أن «موضوع الحمايات وما فيه من تضخم وإشكالات مختلفة ينطوي على جانب كبير من الصحة، حيث إن الكثير من المسؤولين، إن لم يكن أغلبيتهم، يختارون عناصر حماياتهم من دون ضوابط وطبقا لأمزجتهم الخاصة، وهو ما يجعل العملية تأخذ أبعادا خطيرة لا سيما مع ما هو موجود من تضادات داخل المشهد السياسي، حيث صار تغليب المصلحة الشخصية والحزبية هو الأصل بينما تم تغييب مصلحة الوطن والمواطن». ويضيف العبيدي قائلا إن «انعدام الثقة بين السياسيين ورجال الدولة أدى إلى عدم إيجاد مؤسسة وطنية تحمي المسؤولين وتخضع لمعايير مهنية وعلمية من حيث اختيار الحمايات وأعدادهم وتسليحهم وحدود تعاملهم مع الناس»، مشيرا إلى أن «أزمة الثقة بين السياسيين جعل كل واحد يتكفل باختيار عناصر حمايته مثلما يريد هو وبطريقة غير مؤسسية في وقت تركت فيه الحكومة الحبل على الغارب وكل ما نراها تقوم به هو توجيه التهم هنا أو هناك». وحول ما تقوم به الحكومة الآن من إجراءات بهدف وضع حد لسلوك الحمايات أو إخضاعهم للضوابط، استبعد العبيدي ذلك قائلا إن «الموضوع خرج من أيدي الحكومة لأن هناك في الشارع من هو أقوى منه أو يعتقد ذلك وبالتالي فإنه في حال تم تطبيق هذا الأمر فإن المستضعفين فقط هم من يشملون»، على حد قوله. في تطور جديد أعلن رئيس لجنة الأمن والدفاع في البرلمان العراقي حسن السنيد (قيادي بارز في دولة القانون) أن لجنته اتفقت مع وزارة الداخلية إلى تخفيض أعداد حمايات المسؤولين إلى النصف. وفيما أشار إلى أن المسؤول الذي لديه 1000 عنصر حماية سيكون لديه 500 فإنه أكد أن عدد عناصر الحمايات الأمنية في المراكز العليا يبلغ حاليا 20 ألف عنصر أمني.

في أي عملية حسابية لأعداد عناصر الحماية الشخصية، أي أولئك الذين يختارهم المسؤول بنفسه أو الشركات الأمنية، نجد أنهم يشكلون عدة فرق عسكرية لأن كل المسؤولين في العراق اليوم بمن في ذلك بعض الموظفين الصغار أو الضباط الصغار لا يسيرون في الشارع إلا في مواكب. كما أن المواكب شملت عددا كبيرا من شيوخ العشائر ممن هم محسوبون على هذا الطرف السياسي أو ذاك. كما شملت المواكب أعدادا أخرى من قيادات سياسية ومهنية مثل منظمات المجتمع المدني وغالبيتها ليس لها وجود على أرض الواقع، ما عدا مكتب المسؤول وعناصر حماياته وموقعه الإلكتروني الذي يصدر من خلاله بيانات التأييد إذا كان مع السلطة أو الاستنكار إذا كان في صف معارضيها. مواكب الحمايات شملت أيضا بعض أقرباء المسؤولين مثل إخوانهم أو آبائهم أو أبنائهم أو زوجاتهم. وبالحسابات المادية فإنه في حال كان راتب كل عنصر حماية 500 ألف دينار في الشهر وهو رقم متواضع بالقياس إلى حالات أخرى، فإن مجموع المبالغ التي يتوجب على الميزانية العامة للدولة دفعها لهؤلاء تبلغ عدة مليارات من الدولارات الأميركية.