ثورة «المناهج» في دول الربيع

صور الزعماء أزيلت من الكتب الدراسية.. وخطط قصيرة وطويلة الأمد للإصلاح ومواكبة العصر وتصحيح كتابة التاريخ

TT

الثورات الشعبية التي أطاحت بزعماء وأنظمة ممتدة لعقود في تونس ومصر وليبيا ما زالت تنتظرها ثورات أخرى في مجال تغيير مناهج التعليم، التي ارتبطت بتلك الأنظمة، بدأت ملامحها تتضح شيئا فشيئا مع مرور عام على تلك الثورات.

ومنذ سقوط نظم الحكم في تونس وليبيا ومصر، تجري على قدم وساق خطة قصيرة الأمد لتعديل مناهج الدراسة لكي تتناسب مع المرحلة الجديدة، سواء بحذف الموضوعات المبالغ فيها عن الحكام السابقين، أو بإعادة تصحيح كتابة التاريخ وما فيه من أحداث وشخصيات ظلت محظورة لسنوات.. وهناك خطة أخرى طويلة الأجل تهدف إلى تطويع المنظومة التعليمية لتواكب متطلبات المجمع ومتطلبات العصر. وبدأ التعليم في دول الربيع العربي يتخلص من وهم الزعماء السابقين وسيرتهم التي كانت تملأ الكتب وعقول التلاميذ والطلاب بالإنجازات والأعمال البطولية.

وفي تونس تقر معظم الهياكل المهتمة بالمنظومة التربوية بوجود أزمة ما على مستوى إحدى حلقات العملية التربوية. وتعترف بأن طريقة حشو الرؤوس الصغيرة للأطفال بالمعلومات عن طريق التلقين دون المرور إلى مرحلة الاستيعاب الفعلي للمعلومات قد أثبتت محدوديتها وهو ما يتطلب تدخلات عاجلة كانت قد تركت جانبا خلال فترة حكم زين العابدين بن علي لعدم تجرؤ تلك الهياكل على نقد المنظومة التربوية.

أما وقد أطيح بذلك النظام فقد تغيرت الوضعية وبات الإصلاح التربوي على أكثر من طاولة، وهو محط أنظار الكثير من الهياكل باعتبار الترابط الكبير بين التعليم والتربية وبقية مناحي الحياة. كما أن عملية الخلط المتعمد بين المسائل التربوية والمسائل السياسية قد أنتجت أجيالا تقرأ معلومات على مستوى النظريات ولا ترى الكثير منها على مستوى الواقع، وهو ما أفرز أجيالا متعطشة لتطبيق مفاهيم الحرية والديمقراطية وممارسة طريقة الانتخاب والاحتكام إلى صناديق الاقتراع، في العمليات التربوية.

يقول بلقاسم حسن، وهو متفقد تعليم ثانوي لعقود من الزمن: إن صور زين العابدين بن علي أزيلت من الكثير من الكتب المدرسية، خاصة دروس التربية المدنية، خاصة عند تناول درس النظام الرئاسي وضرورة أداء اليمين. وحول الاتهامات الكثيرة الموجهة لنظام بن علي بتوظيف التعليم لصالح الدعاية السياسية، قال حسن إن الأمر مبالغ فيه لأن صور الرئيس حتى إن تضمنتها بعض الدروس المحدودة فإنها كانت توظف بذكاء حتى لا يقع النظام في مثل تلك الاتهامات، إلا أن الأخطر من ذلك، حسب ما قاله لـ«الشرق الأوسط»، هو ما يسمى «الاغتراب» الذي يحسه الشباب المتحمس لتطبيق كثير من الدروس على مستوى الواقع على غرار ممارسة الانتخاب والمشاركة السياسية ومكونات المجتمع المدني.

وإذا رجعنا إلى المعطيات التاريخية، نكتشف أن التعليم في تونس لم يكن متاحا لكافة التونسيين قبل عام 1958، وكانت نسبة المتعلمين لا تزيد على 14% فقط. واعتبارا من عام 1991 أصبح التعلم في المدارس إجباريا للشبان والبنات من 6 إلى 16 سنة من العمر. وتفوق نسبة المتعلمين في تونس نسبة 99% وتجاوز عدد المؤسسات التربوية حدود 5821 مؤسسة، وقدر عدد طالبي العلم في المرحلتين الابتدائية والثانوية بمليونين و669 ألف تلميذ خلال السنة الدراسية 2011 - 2012.

وتبجح نظام بن علي بتلك الأرقام القياسية في التمدرس وبتعلم الأطفال اللغة الفرنسية من عمر 8 سنوات واللغة الإنجليزية من سن 10 سنوات، إلا أن النتائج الفعلية أفرزت أجيالا لا تتقن اللغات وضائعة بين إرادة الجمع بين لغات كثيرة دون التمكن من لغة واحدة تمكنا أكيدا.

كما أن الحديث عن تطوير مهارات القراءة والمحادثة والكتابة من 6 إلى 12 سنة، أو تنمية مهارة المحادثة باللغة العربية واللغتين الأجنبيتين الفرنسية والإنجليزية بالنسبة لمن تتراوح أعمارهم بين 12 و14 سنة قد أثبت محدوديته ولم يؤكد النتائج المطلوبة مقارنة مع ما حققته الأجيال الماضية، خاصة التي تخرجت إثر استقلال تونس سنة 1956.

وما زال ملف إصلاح التعليم ومناهج التربية مطروحا بقوة؛ إذ من المنتظر أن تنظم وزارة التربية التونسية أيام 29 و30 و31 مارس (آذار) المقبل مؤتمرا دوليا يطرح كثيرا من المسائل الحيوية، من بينها مفهوم الإصلاح التربوي وتجارب الإصلاح التربوي في تونس والنماذج الإقليمية والأجنبية الناجحة في مجال تطوير المنظومات التربوية إلى جانب التساؤل حول الإصلاح التربوي المتماشي مع وضع تونس ما بعد الثورة.

وكانت هناك صيحات متتالية تدعو إلى إصلاح المنظومة التربوية، وذلك بعد أن احتلت البلاد المراتب الأخيرة في تقييم دولي يتعلق بقياس كفاءة النظم التعليمية والقدرات الاستيعابية للتلاميذ في ‏الميادين العلمية، واحتوى «البرنامج الدولي لمتابعة مكتسبات التلاميذ» على كثير من المؤشرات، وتراوح ترتيب تونس فيها بين المرتبة‎ ‎قبل الأخيرة بدرجة وقبل ‏الأخيرة بـ4 درجات في أحسن الأحوال، على مقياس يحوي 57 دولة، وهو ما طرح كثيرا من الأسئلة حول مدى نجاح مناهج التعليم في تونس.

وفي ليبيا، الدولة المجاورة لتونس، يبدو الوضع شديد التعقيد بسبب سنوات التجريب التي قام بها نظام العقيد الراحل معمر القذافي.. ففي مراحل معينة في السبعينات والثمانينات ارتبط التعليم إلى حد كبير بالتوجهات السياسية المتضاربة التي كان ينتجها النظام، وفقا لنظريات الكتاب الأخضر التي تستند على مقولات مستمدة من اتجاهات وتوجهات شتى جعلت التعليم، بل الحالة الثقافية العامة في ليبيا، مثيرة للارتباك.

وظلت جدران الكثير من دور التعليم والمدارس شاهدة على تخبط التوجهات في السياسة، وبالتالي في التعليم. ومن الطرائف أن اللجان الثورية لم تكن تكلف نفسها مسح الشعارات السابقة للقذافي عند إضافة الشعارات الجديدة للقذافي أيضا، ومنها أن «ليبيا أرض كل العرب»، و«ليبيا مع الوحدة الأفريقية»، و«الاشتراكية أساس بناء الدولة»، و«القرآن دستورنا»، و«اللجان (الثورية والشعبية) في كل مكان»، و«من تحزب خان»، وغيرها.

وتخلصت الثورة الليبية التي انطلقت في 17 فبراير (شباط)، من الكثير من المناهج الدراسية منذ بداية العام الدراسي الحالي، وعلى رأسها مناهج «الكتاب الأخضر» الذي كتبه القذافي وجعله الأساس العقائدي للدولة الليبية، وكذا كتاب المجتمع الجماهيري. وغيرت رسومات الثورة وشعاراتها المظهر الخارجي لجدران المدارس والجامعات، بعدد أن كانت واجهة لشعارات الحكم البائد. ويقدر عدد التلاميذ في المرحلتين العامة والمتوسطة بنحو 1.3 مليون تلميذ، والمرحلة الجامعية (منها الثانويات التخصصية والمعاهد العليا والجامعات) بنحو ربع مليون طالب. ووفقا لإحصاءات تعود لـ4 سنوات مضت يبلغ عدد المدارس التعليمية بمرحلتي التعليم الأساسي والمتوسط نحو 4500 مدرسة، منها نحو 3 آلاف مدرسة للتعليم الأساسي.

ويقول محمد عيسى، الذي أصبح يشغل موقع مفتش (مراقب) تعليمي بالمرحلة الثانوية: إنه إلى جانب تزييف الكثير من الحقائق التاريخية في الكتب الدراسية التي عمد إليها النظام السابق، توجد الكثير من المشاكل التي تسعى الحكومة الجديدة إلى حلها، ومنها تسمية مناطق وتقاويم بغير الأسماء المتعارف عليها في العالم العربي أو العالم ككل، ومنها تقويم التاريخ الذي كان القذافي قد استبدل به مسميات للشهور، كثيرا ما أثارت اللبس بين الليبيين والمجتمع العربي والدولي.

ويشير عيسى، الذي فُصل من عمله كمعلم في الثمانينات بسبب توجهاته التي رأى أحد وشاة النظام أنها تتعارض مع ما كان يسمى «المجتمع الجماهيري الليبي»، إلى أن اختيار المعلمين والموجهين والمراقبين في العملية التعليمية كان يعتمد على «الولاء للنظام الحاكم وليس الكفاءة»، مشير إلى أن من كانوا يعملون في العملية التعليمية كانوا ينقسمون إلى فريقين: فريق مرضيّ عنه من النظام ويعمل ويحصل على راتبه وترقياته بشكل منتظم، وفريق يعمل ولا يحصل على راتبه من الدولة إلا بشق الأنفس، ناهيك عن الترقيات الوظيفية؛ حيث كانت الرواتب تتأخر لثمانية أشهر وحين تصل لا يصرف منها غير راتب شهر أو شهرين، ويظل الباقي معلقا لأشهر أخرى.

ويضيف أن غالبية المنتسبين إلى الفريق الأول كانوا من المنخرطين، هم أو أقاربهم، في اللجان الثورية، أحد الأركان الأمنية للنظام السابق، بغض النظر عما إذا كان أي منهم يتمتع بالخبرة أو الأهلية للعمل في هذا المجال. أما الفريق الثاني فكانوا من المعلمين المحترفين الذين لا يمكن أن يعملوا في أي مجال خارج نطاق تخصصهم، وكانوا مراقبين من رجال اللجان الثورية، ويتعرضون للتنكيل والعقاب ويحرمون من الرواتب لشهور؛ لذلك كانوا يضطرون للانخراط في أعمال إضافية بعد مواعيد العمل الرسمية، كسائقي سيارات أجرة أو غير ذلك.

ويربط كثير من الليبيين بين تردي مستوى التعليم في عهد القذافي، بما في ذلك منعه لتدريس اللغات الأجنبية (الفرنسية والإنجليزية)، ورغبته في الاستمرار في السلطة اعتمادا على «تجهيل الشعب» وغلق وسائل الاتصال بينه وبين العالم الخارجي، خاصة بعد تنامي ثورة الاتصال التكنولوجي.

ويقول أحد المسؤولين الجدد في الحكومة الليبية في مرحلة ما بعد القذافي إن النظام السابق كان يشعر بالرعب من احتمال وجود مثقفين ومتعلمين واعين ومستقلين في ليبيا، لدرجة أن المناهج الدراسية كانت عرضة للتغيير بشكل مستمر، خاصة كتب التاريخ التي تعرضت للتحريف بشكل يبدو منه أن ليبيا لم يمر عليها حاكم من قبل غير القذافي.

وإذا سألت اليوم عن حال العملية التعليمية في ليبيا فأقرب إجابة يمكن أن تتلقاها من مسؤولي التعليم الجدد هي: «إننا نبدأ من الصفر.. نحن نضع مناهج ومواد دراسية جديدة». والأمر لا يتعلق في ليبيا بإعادة إصلاح المناهج الدراسية ولكن بالمباني التعليمية نفسها التي تعرضت لدمار كبير خلال الشهور الثمانية من الاقتتال الداخلي الذي انتهى بمقتل القذافي الخريف الماضي.

ويقول المكتب التنفيذي للمجلس الانتقالي الحاكم إن مدارس ومجمعات تعليمية تعرضت للتدمير خلال الحرب، خاصة في مدن الجبل الغربي ومصراتة وسرت وتاورغاء وبني وليد وغيرها. كما تعاني المباني، التي كانت سكنا للطلاب المغتربين المقبلين من المدن الليبية البعيدة، دمارا كبيرا بسبب الحرب؛ لهذا نظم ألوف الطلاب مظاهرات أمام المباني الحكومية في طرابلس وبنغازي، للمطالبة بإعادة تأهيل سكن الطلاب من حيث المياه والكهرباء وغيرهما من الخدمات الأساسية الضرورية.

المشكلة أيضا ليست في المحتويات الدراسية والمقار التعليمية فقط.. هناك ظاهرة خطيرة تعانيها دور التعليم الليبية، خاصة في مدارس الثانوية وفي الجامعات، بسبب انتشار الأسلحة بشكل كبير وواسع بين الطلاب.. وهاجم مجموعة من الطلاب المسلحين عميدا لواحدة من الجامعات المشهورة في العاصمة الليبية.. اقتحموا عليه مكتبه وخنقوه حتى كاد يلفظ أنفاسه، وطلبوا منه الانصياع لرغباتهم في خفض حجم المقررات الدراسية.

ويأمل الليبيون في عودة آلاف المعلمين المصريين الذين فروا من المدن الليبية أثناء فترة الاقتتال الداخلي، ويقول مسؤول في المجلس الانتقالي الليبي إنه تم التحدث في تنظيم هذا الأمر خلال عدة لقاءات بين الحكام الجدد في كل من طرابلس والقاهرة، مشيرا إلى أنه سيتم أيضا الاستعانة بعدد من الخبراء الأتراك لتدريب المعلمين الليبيين.

وفي مصر يبدو الوضع مختلفا إلى حد ما عن التجربتين التونسية والليبية بسبب الشكل المؤسسي للعملية التعليمية التي لم يتمكن نظام حكم الرئيس السابق حسني مبارك من الهيمنة عليها أو تغيير منظومتها بشكل جذري، خاصة في ما يتعلق بالمواد النظرية التي تدرس في المدارس والجامعات التي يبلغ عدد التلاميذ والطلاب فيها نحو 17.5 مليون. ويقول مسؤول في مكتب وزير التربية والتعليم المصرية: «الإجراء العملي للتعاطي مع المناهج الدراسية في المرحلة الجديدة ليس إلغاء مناهج بل حذف ما يمكن أن يكون مبالغات غير مبررة لبعض القادة السياسيين السابقين، مثل مبارك نفسه».

وأسوأ مشكلة يعانيها التعليم في مصر، منذ عقود من الزمن، هي نظام الحفظ والتلقين الذي عفى عليه الزمن في الكثير من المدارس التعليمية في العالم المتقدم، ويحاول المسؤولون الجدد في وزارة التعليم فتح الباب واسعا أمام الفهم والتفكير والتحليل، وممارسة الأنشطة باعتبارها من المكملات الأساسية للعملية التعليمية، وربط عملية التعليم ومناهجه بمتطلبات سوق العمل. ومثلما هو الحال في تونس وليبيا، لم تتمكن آلة طبع المناهج الدراسية من إنجاز عملية الإحلال والإبدال للكثير من الكتب المدرسية التي كانت مقررة في المدارس خلال حقبة الأنظمة السابقة في تلك البلاد. وجرى، على عجل، تبديل بعض المناهج في النصف الدراسي الأول الذي بدأ منذ الخريف الماضي، بينما زادت جرعة المواد الدراسية المرتبطة بثورات الربيع العربي في النصف الدراسي الثاني الذي يبدأ هذه الأيام؛ حيث يجري في مصر استكمال طبع نحو 75 مليون نسخة معدلة من الكتب التي تخص فترة حكم مبارك.

وتقول وزارة التعليم المصرية إنها ستخصص وحدة كاملة في منهج «الدراسات الاجتماعية» لمرحلة التعليم الأساسي عن ثورة «25 يناير» التي أسقطت حكم الرئيس السابق، وأهم ما فيها من مطالب تتمحور حول الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية وتحقيق الكرامة الإنسانية. وتم تعديل بعض المناهج حتى الآن على يد لجنة مختصة بـ«تنقيح كتب التاريخ للمراحل الابتدائية»، ودخول شخصيات تاريخية ضن هذه الكتب بعد أن كان ذكرها محظورا أو منقوصا، مثل أول رئيس لمصر، اللواء محمد نجيب، وكذا رئيس أركان حرب القوات المسلحة أثناء حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973، الفريق سعد الدين الشاذلي، الذي اختلف مع السادات ومبارك على مسار الحرب والسلام.

وخرجت صورة سيدة مصر الأولى سابقا، سوزان مبارك، حرم الرئيس السابق، من الكتب الدراسية، بعد أن كانت موجودة مع نبذة عنها ضمن دروس عن أهم الشخصيات النسائية في البلاد، وكذا حذف الفقرات التاريخية المغلوطة عن فترة حكم مبارك مثل دوره المبالغ فيه في حرب أكتوبر.