الإرث الحقيقي لدولة روما

د. محمد عبد الستار البدري

TT

لقد قهرت دولة روما الدول والجيوش التي صادفتها أو التي سعت هي إليها، فبنت إمبراطورية شملت كل الحضارات المعروفة في المتوسط والمناطق المجاورة، وبغض النظر عن آلة العنف والقهر العسكرية الممنهجة التي أنفذتها هذه الدولة لإذلال الشعوب والاستفادة من خيراتها، إلا أنها فرضت ثوابت ثقافية موحدة ساهمت في بناء الكثير من الأطر الفكرية والاجتماعية التي ما زالت تمثل أسسا مهمة في التكوين الغربي والعالمي على حد سواء، ولكن أغلب المؤرخين والمفكرين يعتبرون أن أهم ما قدمته روما للغرب كان وسيظل القانون ومفهوم القانون إضافة إلى الثقافة داخل أوروبا من خلال حكمها الممتد هناك، فالقانون كان له أكبر الأثر في تطوير النظم الاجتماعية الغربية بشكل كبير، فكان هو النسيج الاجتماعي والتنظيمي والسياسي الذي بنيت عليه المجتمعات الغربية فيما بعد، كما أن الثقافة ونظم الإدارة الرومانية ظلت إلى جانب المسيحية عنصرا مهما في الشكل الأوروبي العام والإداري. لقد عرف الرومان القانون بلفظ «Lex» والمقصود منه هو الالتزام أو العهد، ومن هنا جاءت بذور فكرة العقد الاجتماعي على اعتباره التزاما بين المواطنين وأنفسهم أو الدولة، وقد قسم الرومان القانون على مدار القرون إلى أنواع، على رأسها القانون المدني المعروف بالـ«Ius Civile»، وهو القانون الذي ينظم العلاقة بين المواطنين الرومان وعلاقتهم بالدولة، إضافة إلى قانون الأمم «Ius Gentium» وهو القانون الخاص بتعامل الدولة الرومانية مع غير الرومان في المناطق خارج أراضيها، كما أنهم أصحاب فكرة القانون الطبيعي وهو القانون الذي يرى الفلاسفة الرومان أنه يتم إدراك مبادئه العامة بالحدس والفكر دون الحاجة إلى تشريعات أو توافق مثل مبادئ العدالة والإنصاف.. إلخ، كما أن الرومان هم أصحاب فكرة الاستفتاء من خلال ما كان معروفا بالقوانين التي تقر باستفتاء عام بين كل المواطنين، وهو الأساس الذي اشتق منه اللفظ الإنجليزي «Plebiscite» أو الاستفتاء.

لقد كانت الألواح الـ12 التي يرجع تاريخها للقرن الخامس الميلادي بداية عملية تجميع للمبادئ القانونية التي كان الرومان يشرعونها سواء من خلال الجمعيات الوطنية المختلفة أو من خلال القرارات التي تتخذها القيادات الرومانية، وقد برع الرومان في عملية التدوين والتجميع «Codification»، فشهدت القرون الأولى بعد الميلاد عمليات ممنهجة من أجل الحفاظ على التراث القانوني ليتمكنوا من إدارة العدالة بشكل مجمع، ولعل أهم هذه العمليات كان قرار الإمبراطور جستنيان، ملك بيزنطة في القرن السادس الميلادي بجمع كل القوانين الرومانية بعد أن انفصلت دولة بيزنطة عن روما، وهي التي تعد أول وثيقة قانونية جامعة في تاريخ البشرية وتنسب لهذا الإمبراطور.

لعل الكثير من القواعد والقوانين التي نتبعها حتى في عالمنا العربي اليوم ترجع جذورها إلى القانون الروماني، والتي جمعها الفقيه القانوني الروماني Gaius في كتاب شهير له، ومنها على سبيل المثال قاعدة «ما بُني على باطل فهو باطل» و«من يملك إصدار العقوبات يجب أن يملك إصدار العفو عنها» و«في حالة الشك فالتفسير الميسر يجب أن يتبع» و«لا يحق لأحد أن يتوسع في إصابة المال على حساب الآخرين»، ولعل أهم مبدأ كان «عدم معاقبة أحد على ما يفكر فيه»، أي أن القانون لا يطبق إلا على الأفعال وليس التفكير فيها.

ويلاحظ أيضا أن من أهم منجزات القانون الروماني كان دوره المهم في الحفاظ على حقوق المرأة، خاصة ذمتها المالية التي تم فصلها عن الزوج، إضافة إلى بعض الحقوق الأخرى، مثل الطلاق، لا سيما أن النساء الرومانيات كن يتزوجن اعتبارا من سن الثانية عشرة، بالتالي منحت روما حقوقا للمرأة لم تكن منطقة المتوسط تعرفها على الإطلاق، فكانت خطوة متقدمة مقارنة بالحضارة اليونانية والتي تعاملت مع المرأة على اعتبارها وعاء إنجاب ومتعة، وفي كل الأحوال فإن هذه الحقوق التي منحها الرومان لم تكن مكتملة أيضا، فالمرأة ظلت في مناسبات وسلوكيات كثيرة خاضعة لسلطان الرجل وتعسفه.

على الرغم من أن تطور القانون تأثر كثيرا من جراء انفصال الدولة الرومانية إلى شرقية وغربية، فالملاحظ أنه وجد في الغرب وريثا آخر وأكثر قوة من الدولة البيزنطية، وهو ما تجسد في الكنيسة الكاثوليكية التي احتضنت مبادئ أساسية مهمة للغاية في إطار القانون الكنسي (Canon Law) الخاص بها، الذي ينظم العلاقة داخل المؤسسة الدينية الكاثوليكية وبين رعاياها أيضا، والذي بني على هياكل ومفاهيم القانون الوضعي الروماني.

لعل ثاني أهم أرث روماني كان البعد الثقافي، فعلى الرغم من أن الثقافة الرومانية ما كان يمكن لها أن تنافس مثيلتها اليونانية تحت أي ظرف من الظروف أو بأي مقياس من المقاييس، فإن قوة روما كانت تتمحور في المؤسسية الثقافية أو النظام الثقافي الذي فرضته على الدول والمقاطعات التي بسطت سلطتها عليها، فالنظام الثقافي الروماني كان طاغيا وترسخ بقوة، خاصة في المجتمعات التي لم تتمتع بثقافات راسخة، لا سيما في وسط وشمال أوروبا آنذاك، وقد ثبتت هذه الثقافة من خلال العمود الفقري الطبيعي لها مثلا في اللغة، وفي هذه الحالة اللغة اللاتينية، فلقد انتشرت هذه اللغة في أغلبية الربوع الأوروبية باعتبارها لغة الصفوة والفكر، تماما كما كانت اليونانية تمثل لغة الثقافة والفكر في العهد الهيليني، فقد أصبحت اللاتينية لغة الفكر والثقافة في العالم الروماني، ولكن هناك سببا جوهريا إضافيا دعم من انتشار اللغة اللاتينية وهو احتضان الكنيسة الكاثوليكية ومؤسستها لها كلغة رسمية، وهو ما ضمن استمرار اللاتينية كلغة رئيسية وساهم في انتشار الثقافة الرومانية وأثرها المباشر على التطور الحضاري في العالم الغربي.

ولعل أهم تركة تركتها روما للإرث الغربي كانت فكرة الدولة الموحدة، وهي نفس المنظومة التي حاولت الدول والإمبراطوريات المتعاقبة السعي لتحقيقها، فمن خلال الحكم الروماني الممتد استطاعت روما أن تُجمع أوروبا لأول مرة وتخضعها لسلطان موحد، من إنجلترا شمالا إلى جنوب إيطاليا وإسبانيا إلى وسط أوروبا، وفكرة الوحدة السياسية، حتى وإن كانت بالقمع، تعكس بوضوح فكرا جمعيا لأوروبا، وهو ما استند إليه بعد أكثر من ثمانية قرون الإمبراطور شارلمان في جمع الشمل لإمبراطوريته، ومن ثم أطلق عليه في الأدبيات الغربية لفظ «أبو أوروبا» بما بات يوحي بتطور جذور الفكر القومي الأوروبي الذي فرشت روما الأرضية المناسبة لبزوغه فيما بعد من خلال توحيد أنظمة الحكم ونشر الثقافة الموحدة بها.

ولا بأس من أن نتأثر نحن كعرب بمثل هذه الثقافة أيضا ولو بطرق غير مباشرة، فلقد تعلمنا من رؤى المفكرين والسياسيين الرومان، كما عرفنا الفنون الرومانية وظلت اللغة الرومانية إلى يومنا هذا أساسا مهما يدخل في نسيج العلم والتعليم، كما أننا أخذنا عنهم أيضا بعض عبارات شهيرة وعربناها، وليس أدل على ذلك من مقولة لأحد أشهر الكتاب الرومان «parturiunt montes، nascetur ridiculus mus» وهي التي عربناها بـ«تمخض الجبل فأنجب فأرا»، ولكن مما لا شك فيه أن أثر الحضارة الرومانية ستظل بكل تأكيد جبلا.

* كاتب مصري