المليارات المهربة

استرداد أموال مصر من الخارج.. الملف الحائر * مسؤولون عنها يروون لـ«الشرق الأوسط» خططهم وكواليس أعمالهم

TT

لا يزال حلم استرداد مليارات الدولارات المهربة في الخارج، التي يمتلكها رموز النظام المصري السابق، يراود المصريين الذين تمر بلادهم بأزمة جعلتهم يتفاوضون مع مؤسسات ودول أجنبية للحصول على قروض ومنح لدعم الاقتصاد المتهاوي.. في وقت يشير فيه البعض إلى أن استرداد هذه الأموال قد يصبح حلما أو سرابا يصعب إدراكه أو الحصول عليه.

ومنذ إسقاط النظام في 11 فبراير (شباط) من العام الماضي لم يحدث أي تقدم في ملف استرداد تلك الأموال، وقد يكون البرلمان المصري الذي عقد أولى جلساته في ديسمبر (كانون الأول) الماضي حافزا لأخذ خطوات جادة في هذا الأمر، خاصة بعد تصريحات الدكتور عصام العريان، رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشعب رئيس لجنة تقصي الحقائق التي شكلها المجلس لبحث استرداد الأموال «المنهوبة».

وكان العريان قد صرح لوسائل إعلام محلية بأن اللجنة التقت بفاروق العقدة، محافظ البنك المركزي، وسمير الشاهد المدير التنفيذي لوحدة مكافحة غسل الأموال المستقلة بالبنك، كل على حدة؛ في إطار جهودها في البحث عن سلامة إجراءات استرداد الأموال، التي أكد خلالها العريان كذلك على ضرورة إصدار مشروع قانون خاص لاسترداد الأموال المهربة إلى الخارج.

ويقول مراقبون وخبراء إن دخول البرلمان على خط ملف الأموال المهربة إلى الخارج ربما يعطي دفعة مهمة، خاصة أن المجلس المنتخب مؤخرا يحظى باحترام دولي باعتباره جاء تحقيقا لإرادة المصريين، وهو ما يوفر مسارا رسميا جادا. ويعد تحرك البرلمان المصري حجر الزاوية لاسترداد مصر أموالها المهربة.

فمن المقرر أن يعرض عليه خلال الجلسات المقبلة مشروع قانون سيكون حجر الزاوية لاسترداد مصر لأموالها المهربة، بحسب ما قاله الدكتور محمد محسوب، عميد كلية الحقوق جامعة المنوفية وأمين عام المجموعة المصرية لاسترداد أموال مصر لـ«الشرق الأوسط»، وتابع: «انتهينا من مشروع قانون لاسترداد الأموال المهربة ومن المفترض عرضه على مجلس الشعب خلال الأيام القليلة المقبلة».

ويقول محسوب: «إن مشروع القانون يعتمد تشكيل لجنة اختصاصية من 7 أعضاء ستتراوح مناصبهم ما بين دبلوماسية، وقضائية، وشخصيات عامة، على أن يترأسها مساعد وزير الخارجية للشؤون الاقتصادية، ويساعده أحد محامي العموم في نيابات الأموال العامة. وستكون للجنة اختصاصات واسعة قانونية ودبلوماسية وقضائية لتمثيل الدولة المصرية في العمل على هذا الملف، كما أن اللجنة لها كل الصلاحيات للاستعانة بأي من أجهزة الدولة لدعم عملها».

وأكد محسوب أن «أول خطوة سيتم اتخاذها في حال إقرار القانون هي الكشف عن حجم الأموال التي خرجت من مصر خلال العشرين عاما الماضية، وسنطلب من البنك المركزي المصري بيانا بطبيعة وحجم كل الأموال التي خرجت من مصر خلال العشرين عاما الماضية، وإسناد التحقيق لهذه اللجنة حول مشروعية خروج هذه الأموال».

وأشار محسوب إلى أن مشروع القانون سيعمل على تغليظ العقوبات بحق كل من يثبت إخفاؤه أي معلومة من شأنها أن تساعد اللجنة في عملها، مضيفا: «ستكون اللجنة تابعة لمجلس الشعب فقط، على أن تقدم تقريرا شهريا للمجلس عما تم اتخاذه من إجراءات».

وتبقى الثروة الحقيقية للرئيس المصري السابق وأركان نظامه لغزا يحير الجميع، فكل الأرقام التي تم نشرها عبارة عن تقديرات ولم يتم توثيقها بمستندات حتى الآن؛ فنشرت إحدى الصحف الجزائرية أن ثروة مبارك وعائلته تتراوح ما بين 40 و70 مليار دولار، كما أشارت إلى أن جمال مبارك يملك وحده ثروة تقدر بـ17 مليار دولار موزعة على عدة مؤسسات مصرفية في سويسرا وألمانيا والولايات المتحدة وبريطانيا.

لكن الرئيس المصري السابق مبارك قد كذب الأمر في خطابه الشهير الذي بثته قناة «العربية» في 10 أبريل (نيسان) 2011، الذي سجله في مقر إقامته الجبرية في ذلك الوقت بمدينة شرم الشيخ، حيث أشار في فقرته الثانية إلى أنه «بناء على ما تقدمت به من إقرار لذمتي المالية النهائي والبيان الذي أصدرته مؤكدا فيه عدم امتلاكي لأي حسابات أو أرصدة خارج جمهورية مصر العربية، فإنني أوافق على أن أتقدم بأي مكاتبات أو توقيعات تمكن النائب العام المصري بأن يطلب من وزارة الخارجية المصرية الاتصال بكافة وزارات الخارجية في كل دول العالم لتؤكد لهم موافقتي أنا وزوجتي على الكشف عن أي أرصدة لنا بالخارج منذ اشتغالي بالعمل العام عسكريا وسياسيا وحتى تاريخه، وذلك حتى يتأكد الشعب المصري من أن رئيسه السابق يمتلك بالداخل فقط أرصدة وحسابات بأحد البنوك المصرية طبقا لما أفصحت عنه في إقرار الذمة المالية النهائي».

لكن مصدر رد على ما نشر من تكهنات حول ثروة مبارك قائلا إنه «لا توجد مبالغة في أي أرقام ذكرت حول حجم ثروة عائلة مبارك، لأنه لا يوجد في المقابل ما ينقضها من أرقام، فأي تقارير تنشر بخصوص تلك الثروة نضعها محل البحث والدراسة التحليلية»، مشيرا إلى أن الثروات تتركز بشكل واضح في كل من إنجلترا وسويسرا ودبي ومعظم دول الاتحاد الأوروبي وأميركا.

ويقول محسوب ردا على ما نشر من تكهنات حول ثروة مبارك إنه «لا يوجد مبالغة في أي أرقام ذكرت حول حجم ثروة عائلة مبارك، لأنه لا يوجد في المقابل ما ينقضها من أرقام، فأي تقارير تنشر بخصوص تلك الثروة نضعها محل البحث الدراسة التحليلية، مشيرا إلى أن الثروات تتركز بشكل واضح في كل من إنجلترا وسويسرا ودبي ومعظم دول الاتحاد الأوروبي، وأميركا».

بينما يؤكد حسام عيسى، أستاذ القانون الدولي ورئيس اللجنة القانونية لاسترداد أموال مصر، أن ثروة مبارك وعائلته تقدر بمليارات الدولارات، وقال لـ«الشرق الأوسط»: «بعد عام على الثورة، أستطيع أن أؤكد أن ثروة مبارك وعائلته بالمليارات، وأعلنت الدولة رسميا من خلال اللجنة القضائية التي يترأسها المستشار عصام الجوهري أن حسين سالم، وهو الصديق المقرب لمبارك، تبلغ ثروته 4 مليارات دولار وهو (صبي العائلة)، فهل لنا أن نتصور حجم ثروة العائلة؟ ورجال جمال مبارك وباقي المقربين من العائلة كم يملكون أيضا؟».

ويشير الدكتور حسام عيسى إلى أن سويسرا هي البلد الأكثر تعاونا في ملف استرداد أموال مصر، فقامت بإبلاغنا عن وجود 570 مليون فرنك سويسري مملوكة لمبارك ورجاله، فهي تعد أفضل الدول التي لها قوانين إيجابية إلى جانب التعديلات التشريعية التي أقرتها مؤخرا تتعلق باسترداد الأموال المهربة.

وكشف الدكتور محمد محسوب عن تحقيقات موسعة تجرى في سويسرا حاليا حول التلاعب في بعض الحسابات الخاصة لـ«حركة سوزان مبارك الدولية للمرأة من أجل السلام» التي كانت تترأسها زوجة مبارك، حيث تم الكشف عن أن حسابات الحركة تقارب المليار دولار، وسحب منها 191 مليون دولار، في يوم 24 فبراير 2011؛ أي بعد سقوط نظام مبارك بعدة أيام، كما تم إلقاء القبض على رجلي الأعمال شريف طنطاوي ووليد شاش، اللذين كانا يعملان في هذه الحركة ويعدان من المقربين لنجلي الرئيس السابق، ويتم التحقيق معهما بشأن هذا التلاعب، بالإضافة إلى تهم أخرى تتعلق بعملية غسل أموال لصالح جمال مبارك وشقيقه وقضية تهرب ضريبي، كما تم توقيف سيدة الأعمال المصرية، علية البنداري، والصديقة المقربة لسوزان ثابت زوجة مبارك بشأن التحقيقات في القضية ذاتها.

ويؤكد محسوب أن السلطات السويسرية تقدمت رسميا للحكومة المصرية بطلب استدعاء لسوزان ثابت لسؤالها حول التلاعب الخاص بأموال الحركة في سويسرا قائلا: «الحكومة المصرية قالت للرأي العام إنها لم تتلقَ طلبا بالقبض على سوزان، وبالطبع السلطات السويسرية لم تطلب القبض عليها، لكنها طلبت تعاون السلطات المصرية للتحقيق معها، وأن يتم استدعاؤها للمثول جهات التحقيق هناك، ولم ترد الحكومة المصرية حتى الآن».

وكشف محسوب أن «هناك مفاجآت كان سيتم الإعلان عنها في ذكرى الثورة، ولكننا امتنعنا عن الإفصاح عنها للحفاظ على سرية الملف، كما أننا فوجئنا بأن النائب العام يحقق في المستندات التي كنا سنطلع الرأي العام عليها»، مضيفا: «لهذا لا يمكن الكشف عن محتواها إلا عند إحالتها للتحقيق، ولكن يمكن القول إنها تتعلق بالكشف عن حجم أموال كبيرة تخص رموز النظام السابق تم تهريبها للخارج من خلال أسماء وهمية».

وبعد مرور ما يزيد على العام منذ قيام الثورة وتعرض الاقتصاد المصري إلى هزة عنيفة لجأت الحكومات المتعاقبة إلى الاقتراض والحصول على المساعدات المالية لإنقاذ اقتصاد دولة تعاني من شح السيولة، ويستنكر الدكتور حسام عيسى اتجاه الدولة لدعم اقتصادها من خلال المنح والقروض قائلا: «هذا أمر يدعو إلى الجنون إذا ما عرفنا أن أداء الدولة المصرية منذ قيام الثورة وحتى اليوم في ملف استرداد الأموال المهربة أداء هزيل للغاية، في الوقت الذي تسعى فيه بكل قوة إلى الحصول على قروض خارجية». وأضاف: «الإرادة السياسية ليست واضحة وليست بالقدر الذي يتناسب مع خطورة المشكلة وأهميتها للاقتصاد وللشعب كذلك».

ويتفق الدكتور محمد محسوب مع الرؤية السابقة، مؤكدا أن مصر لم تطلب من أي دولة في العالم استرداد الأموال المهربة. ويرى محسوب أن الأسباب الحقيقية وراء هذا التباطؤ هي أن الأمر مختلط بالكثير من القضايا السياسية الداخلية، لكن الأهم التأكيد أن الجهاز المصرفي المصري يعلم كل شيء ولا يوجد سرية على الأجهزة المصرفية الرسمية، لكن هناك مشكلة حقيقية في غياب الإرادة السياسية لكشف الحقيقة.

وهو ما يفسره الدكتور حسام عيسى من زاوية أخرى قائلا: «معاهدة الأمم المتحدة لعام 2003 لمكافحة الفساد تنص على أنه لا بد أن تقدم تحقيقات جدية للنائب العام مع المتهمين حتى يتم البت في طلبات استرداد الأموال المنهوبة». وأكد أن آخر وزير خارجية لمصر في عهد مبارك، أحمد أبو الغيط، وقف ضد استرداد الأموال المهربة خارج البلاد، وبعد رحيله جاء رئيس الوزراء السابق، عصام شرف، وكان أداؤه رديئا جدا، ولم يعقد أي اجتماع وزاري منذ بداية الثورة للبحث في ما يخص ملف استرداد الأموال المنهوبة، مضيفا: «من المؤسف أن نعرف أن منظمة الشفافية الدولية أشارت في تقرير صادر لها مؤخرا إلى أن حجم الأموال التي خرجت من دول العالم الثالث بسبب الفساد تقدر بـ10 أضعاف ما دخل إليها من استثمارات».

وما بين أحلام الشعب المصري باستعادة أمواله المهربة والمخاطبات الرسمية ما بين الحكومات، خرجت كاثرين أشتون، الممثلة العليا للسياسية الخارجية للاتحاد الأوروبي، بتصريح صادم للرأي العام المصري وهو «وقف التعامل رسميا مع مصر بشأن ملف استرداد الأموال»، ويفسر الدكتور محسوب هذا القرار قائلا: «هذا صحيح والسبب في ذلك أن مصر لم تتقدم بطلبات حقيقية للاتحاد الأوروبي لاسترداد الأموال المهربة، بل إن طلبات التجميد التي خصت 18 شخصية من رموز النظام السابق كان طلبات (هزلية)، لأن هؤلاء الكبار لا يخفون أموالهم بأسمائهم الحقيقية بل بطرق أخرى، وبالتالي كان حصيلة كل ما تم تجميده في أرصدة هؤلاء الأشخاص لم تتجاوز 45 مليون يورو في كل دول الاتحاد الأوروبي، وهي مبالغ هزيلة قياسا بالأرقام الحقيقية».

وأضاف: «الولايات المتحدة أعلنت مؤخرا أن طلب تجميد أموال مبارك وعائلته لم يصل إليها إلا منذ وقت قريب، في حين أن هيلاري كلينتون، وزيرة الخارجية الأميركية، أعلنت مرارا أن الأموال التي تخص عائلة مبارك في أميركا بالمليارات، وهذا أمر خطير للغاية».

وكشف الدكتور حسام عيسى أن رئيس الوزراء البريطاني، ديفيد كاميرون، يقود حملة لاسترداد أموال مصر المهربة بالتعاون مع محطة الـ«بي بي سي»، وقال: «قابلت كاميرون عندما جاء إلى مصر في وقت سابق أثناء تولي أحمد شفيق رئاسة وزراء مصر، وقال لي إنه يشعر بخيبة أمل كبيرة في رئيس الوزراء المصري وقتها (أحمد شفيق) وإنه لم يتعاون معه حول هذه الحملة».

وأكد عيسى أن قرار الاتحاد الأوروبي يمكن الرجوع عنه في حالة واحدة؛ «إذا كانت دول الاتحاد الأوروبي (تتصيد) موقفا لحسابها، ولكن إذا قامت مصر باتخاذ خطوات وردود فعل إيجابية تنم عن إرادة حقيقية في استعادة أموالها، فإنهم لن يستطيعوا الاستمرار في هذا القرار».