اختلافات فكرية حول الأسرة العلوية

د. محمد عبد الستار البدري

TT

بدأت تظهر في مصر موجة لمراجعة التاريخ المصري، خاصة التاريخ الحديث والمعاصر الذي يبدأ في مصر بالحملة الفرنسية على مصر والشام ثم صعود محمد علي لسدة الحكم في البلاد وتأسيسه لأول دولة حديثة ووطنية في الشرق الأوسط والمنطقة العربية.

لقد كان حكم محمد علي وشخصه إحدى نقاط الاختلاف في هذا الحوار، حيث طرح بعض المؤرخين فكرة أن الذي أسس مصر الحديثة لم يكن مصريا، بل ليس عربيا، بل هو ألباني لا يتحدث العربية، وهو ما يتناقض والمسيرة الطبيعية للشعوب، وهذه الخلفية انعكست بالفعل على الطريقة التي تعامل بها مع المصريين وأسلوب حكمه الديكتاتوري، فكيف إذن يحكم مصر من ليس مصريا؟ وهذا استفسار شرعي بل وطبيعي، ولا أعتقد أنه يخص مصر وحدها بل أي دولة في العالم، فلو سألت قطريا على سبيل المثال عن رأيه في فكرة أن يحكمه مصري، أو موريتانيا يحكمه سعودي، أو يمنيا يحكمه جزائري، لجاءت كل الآراء رافضة تماما لهذه الفكرة، ولكن هذه الحتمية ستقل كلما رجعنا بعجلة التاريخ للخلف، فلقد كانت الإجابة عن هذا السؤال بالإيجاب هي الإجابة المقبولة منذ نيف ومائة عام مضت، كيف إذن يمكن أن نفسر هذا التغيير؟

حقيقة الأمر أنه لا عجب على الإطلاق في هذا الأمر، فقد كانت سمات مفهوم الشرعية السائد في تلك الأزمنة سواء في مصر أو غير مصر من العالم العربي أو الأوروبي تسمح بهذا، وفي التقدير أنه يمكن توضيح هذه الحقيقة من خلال النقاط الرئيسية التالية:

أولا: إن مفهوم الشرعية السائد في ذلك الوقت كان يختلف تماما عما هو عليه الآن، فحكام مصر في هذه الفترات الزمنية السابقة لحكم محمد علي لم يكن من المفترض أنهم عرب أو مصريون أو غيرهم، بل إنك لو سألت المصري في مطلع القرن التاسع عشر عن آخر مرة حكمه فيها مصري لتاه وفشل في وضع إجابة واضحة، ففكرة الوطن المصري تم استبدالها لقرون طويلة بفكرة الخلافة والقومية الإسلامية الكبرى، ومن قبلها تم كبتها في إطار الاحتلال البيزنطي ومن قبل الروماني ومن قبلهما اليوناني، ومن ثم فلم يكن من الطبيعي أن يكون حاكم مصر مصريا وينطبق ذلك على محمد علي، فأوراق اعتماده تحتاج منه أن يكون «ذكرا» و«مسلما»، وهاتان الصفتان فقط هما مسوغات الشرعية في ذلك الوقت، وفقا للقبول العام وسوابق التاريخ.

ثانيا: إن مصر في ذلك الوقت لم تكن تعرف الفكر القومي المستقل الذي بدأ يتطور بسبب سياسات محمد علي، حتى وإن لم يكن الرجل يهدف إلى ذلك، فسياساته أسفرت في النهاية عن تطور القومية المصرية، ففكرة إقامة دولة قوية قاعدتها مصر، حتى لو لم يكن الهدف منها مصلحة مصر، صبت في النهاية في مصلحة الدولة المصرية، خاصة بعدما بدأ يدخل إصلاحاته الثقافية والصناعية وإنشاء جيش من مجندين مصريين، فكانت المحصلة النهائية هي بروز الدولة المصرية الحديثة، سواء كان بروز هذه الدولة هدفا في حد ذاته أو نتاجا لأهداف أخرى أمر لا أعتقد أننا بحاجة للاهتمام به، اللهم إلا لو كانت النية تتجه نحو الحكم عليه بالمعايير الفردية، وهو أمر يخرج عن النطاق العلمي الذي يفترض تقييم الشخص بمعايير زمانه وبظروفه السياسية في وقته.

ثالثا: لقد عالج التاريخ البشري مشكلة الانتقال السلمي للسلطة على مدار ألفيات طويلة من خلال مؤسسية الملكية أو الخلافة أو السلطنة.. إلخ، فلم يشهد العالم حتى فترة قريبة للغاية فكرة توازن السلطات داخل الأنظمة السياسية، بل لم يكن هناك مفهوم التشريع بشكله المتبع حاليا، من ثم فقد تغلب هؤلاء على مشكلة الانتقال الآمن بل والسلمي للسلطة من خلال ما عرف بمفهوم التوريث، وهو المفهوم الذي أدخله معاوية بن أبي سفيان في المؤسسية السياسية العربية، وأيا كان الرأي بالنسبة لفكرة التوريث، فإنها كانت المؤسسية القائمة في أوروبا والعالم المتحضر أيضا، بل لا تزال في دول ملكية كثيرة، ومن ثم فإنه لا يجب الحكم عليها بمفاهيمنا الحالية.

ثالثا: إن فكرة انتماء الحاكم إلى عرقية تختلف عن رعاياه كان شأنا أوروبيا أيضا، فلقد حكمت كاترين الكبرى روسيا لأكثر من عقدين في القرن الثامن عشر وهي ألمانية المولد والهوية، كما أن نابليون بونابرت لم يكن فرنسيا بل كان كورسيكيا، وقد تعلم الفرنسية في المدرسة وعاش حياته وهو إمبراطور بل معشوق فرنسا على الرغم من أنه كان يعاني مشكلة لكنة واضحة في تحدثه بالفرنسية حيث طغت على لسانه لكنته الإيطالية، وهذه النماذج تعكس بوضوح أن شرعية الحاكم لم تُستق من وحدة العرق بين الشعب وحاكمه في ذلك الزمان، فوحدة القومية بين الحاكم والرعية هي نتاج لتيارات فكرية وحركات قومية كثيرة جاءت في مراحل متأخرة للغاية، ومن ثم فمحمد علي لم يكن حالة فريدة بل النموذج الغالب مع الفكر السائد في كل الدول آنذاك.

وتبقى في النهاية نقطة محورية تمثل مشكلة حقيقية ولكنها كثيرة التواتر وتحدث عندما نحكم على التاريخ ورجاله، وهي مشكلة «الشخصنة» أي اتجاهنا للحكم على الشخصيات التاريخية بمفاهيمنا الحالية ومنها المعايير الأخلاقية التي نحتكم إليها اليوم، فكثيرا ما ينال البعض من محمد علي على اعتباره ديكتاتورا كان هدفه النهائي مصلحته الشخصية ممثلة في ملكه وأولاده من بعده، وهي طروحة سليمة ولا خلاف عليها، ولكننا لا بد أن نضعها في نصابها التاريخي السليم، فهذه كانت سمة كل الساسة في ذلك الوقت، فالتوريث كان الشرعية السياسية السائدة، كما أن فكرة استشارة الرعية لم تكن مطروحة من الأساس ولا الأفكار الليبرالية، وهذه ليست مشكلة محمد علي، بل كل الساسة في أيامه، فالحكام لم يكن لديهم نفس هذه المفاهيم وأغلب الرعية لم تنتظرها منهم، فصلاح الدين كان كذلك ومعه الظاهر بيبرس وعماد الدين زنكي وهارون الرشيد.. إلخ، فالديمقراطية لم تكن من شيمة صلاح الدين، ولا الإنسانية من أخلاقيات بيبرس، ولا القومية السورية من سمات عماد الدين زنكي، ولا حقوق الإنسان في وجدان هارون الرشيد.. كل هذه قيم تم إدخالها في المعادلة السياسية قريبا، خاصة مسألتي القومية والوطنية، فهاتان القيمتان لم تكونا موجودتين من الأساس، ومن ثم فلا يمكن أن نُقيم سياسيا على أسس متغيبة في عصره، تماما مثلما لا نستطيع أن نعاقب شخصا على سلوك لم يكن مُجرما وقت أن اقترفه.

وهذه دعوة للحكم على الشخصيات التاريخية بسياساتها وبمعايير أزمنتها، على أن نترك الحكم على النوايا والقيم الشخصية بعيدا عن النطاق الموضوعي، ففي عالم التاريخ تُحاسب الشخصية على ما فعلته لصالح الشعوب التي حكمتها بعيدا عن نواياها أو سلوكياتها الشخصية، فالحكم على هذه الشخصيات بالمعايير الشخصية يعني أن يوليوس قيصر كان وصوليا، والإسكندر وضيعا وشاذا، ونابليون حقيرا وجنكيزخان دمويا والقائمة تطول وسقف السطور يقصر..

* كاتب مصري