بوتين.. ليس مجرد رئيس

يسابق الربيع الروسي للوصول إلى الكرملين.. وتوقعات بفوزه من الجولة الأولى في انتخابات الأحد

TT

ما إن ينطق المرء اسم فلاديمير بوتين حتى تتقافز الذكريات وتتشابك عند الكثيرين لترسم صورة رجل الـ«كي جي بي» الرهيب الذي يعيد إلى الأذهان «لوبيانكا»، (مقر المخابرات) في قلب العاصمة الروسية والسجون التابعة لها في غياهب سيبيريا وغيرها من أرجاء الدولة السوفياتية المترامية الأطراف.

صورة نمطية نجح الغرب في رسمها لعقيد المخابرات الروسية الذي حملته الأقدار إلى عرش الكرملين في غفلة من الأوليجاركيا، أو المجموعات الاقتصادية والمالية المتنفذة في السياسة، ممن كانوا يتوسمون فيه السلوى والملاذ خلفا لرجل روسيا المريض بوريس يلتسين.

هذه الصورة التي تبدو كما الـ«سبة» على جبين كل من انتسب أو ينتسب لأي من مؤسسات الأمن المخابرات، طالما قضت على ضجيع بوتين، لكنها عادت لتشخص بكل القوة حين راح يستدعى أصدقاءه وزملاءه السابقين في أجهزة الأمن والمخابرات ليعهد إليهم بأهم أركان السلطة والنظام مساعدين له في حمل أعباء الحكم والولاية، من أمثال سيرغي إيفانوف، الرئيس الحالي لديوان الكرملين الذي سبق وعمل في «كي جي بي» منذ تخرجه في كلية آداب لينينجراد عام 1975 وتحت سقف وزارة الخارجية حتى اختاره بوتين رئيسا لجهاز الأمن والمخابرات خلفا له في عام 1999، ثم لاحقا كوزير للدفاع ونائب لرئيس الحكومة. وكذلك نيكولاي باتروشيف، سكرتير مجلس الأمن القومي الذي سبق وشغل منصب رئيس جهاز الأمن والمخابرات (إف إس بي) وإيجور سيتشين، نائب رئيس الحكومة الذي كان وراء ظهور وهيمنة مؤسسة «روس نفط» التي كسرت حدة الاحتكارات النفطية من جانب ممثلي الأوليجاركيا وآخرين كثيرين انتشروا في ثنايا كل أجهزة الدولة التنفيذية والتشريعية.

وكان بوتين الذي يستعد للعودة مجددا إلى المركز الأول في الكرملين بعد الانتخابات الرئاسية في الرابع من مارس (آذار) الحالي، أشار في معرض سرده لبعض ملامح سيرته الذاتية إلى أنه عانى كثيرا من حرج الكشف عن ماضيه. قال إنه واجه مثل هذه المشاعر خلال لقائه الأول مع وزير الخارجية الأميركي الأسبق، هنري كيسنجر الذي كان في زيارة لسان بطرسبورغ في مطلع تسعينات القرن الماضي. وقال بوتين إنه وبحكم عمله كنائب لعمدة سان بطرسبورغ، رافق كيسنجر خلال زيارة قام بها لأغراض تجارية. وكشف عن أن «الثعلب الأميركي العجوز» سأله أكثر من مرة عن وظائفه السابقة قبل انتقاله للعمل إلى جانب عمدة المدينة، وهو ما اضطره وعلى مضض إلى النزول على إلحاحه وفضوله لمصارحته بأنه سبق وأن عمل في «كي جي بي»، بل وقال إنه خدم أيضا في ألمانيا الشرقية. وكانت المفاجأة أن كيسنجر رد عليه بقوله «وماذا يضيرك في ذلك.. إن كل المحترمين بدأوا عملهم في أجهزة المخابرات ومنهم أنا». وأضاف بوتين أن كيسنجر الذي يرتبط به منذ ذلك الحين بعلاقة صداقة تمتد حتى اليوم، شكا له تعرضه لانتقادات كثيرين ممن اتهموه بعدم موضوعية حول ما صرح به بشأن منطقية انهيار الاتحاد السوفياتي لما لذلك من أخطار وعواقب خطيرة تهدد التوازن الدولي وهو ما سبق وواجهه أيضا بوتين الذي قال «إن انهيار الاتحاد السوفياتي السابق هو أكبر الكوارث الجيوسياسية في القرن العشرين».

وبغض النظر عن تباين التقديرات تجاه ماضي بوتين وانتسابه إلى «كي جي بي» فإنه صار من الممكن وبعد نشر الكثير من أسرار «تسعينات القرن الماضي» تفهم مبررات اعتماد بوتين على الكثيرين من رفاقه في هذه المؤسسة الأمنية ليكونوا إلى جواره خلال سنوات حكمه التي تمتد حتى اليوم لما يقرب من 12 عاما سواء في الكرملين أو على رأس الحكومة الروسية.

وليس سرا أن بوتين حرص على «غرس» ممثلي «أجهزة القوة» أو كما يسمونهم «سيلوفيكي» في صدارة المراكز القيادية في كل قطاعات الدولة التي سبق ووقعت فريسة أطماع حفنة من المغامرين ممن وقفوا وراء ما سموه في روسيا «رأسمالية اللصوص وقطاع الطرق»، على حد قول عدد من كبار رموز سنوات حكم يلتسين ومنهم بوريس نيمتسوف أحد زعماء حزب بارناس اليميني المعارض. وتتحكم مؤسسة «السيلوفيكي» في النظام السياسي والدولة بالكامل. ويسيطرون على جزء كبير من أملاك الدولة والأموال المتدفقة التي تقدر بمليارات الدولارات.

والمتابع لمسيرة بوتين منذ جاء إلى السلطة، يستطيع استبيان مدى الضرورة التي اقتضت حاجته إلى رفاق السلاح من أجل مواجهة متطلبات المرحلة بداية من ضرورة لملمة أطراف الثوب الروسي وإنقاذ روسيا من مصير مشابه لما واجهه الاتحاد السوفياتي السابق نتيجة اشتعال الكثير من الحركات الانفصالية في الشيشان وشمال القوقاز، والتصدي لتسلط وعبثية أساطين المال والأعمال ممن سلبوا الوطن ثرواته ومستقبله استنادا إلى سياسات الخصخصة.

وكان من الطبيعي أن يبدأ بوتين رحلته من الشيشان أو بقول أدق من داغستان التي داهمها المقاتلون الشيشان سعيا وراء بسط هيمنتهم على كل شمال القوقاز لإقامة ما كانوا يسمونها بكونفدرالية الشعوب الإسلامية. وحين فرغ بوتين من مهمته في داغستان والشيشان وأرغم فلول المقاتلين على الهروب إلى الجبال، حتى بدأ رحلته كرئيس للدولة خلفا لبوريس يلتسين بموجب اتفاق يكفل للأخير الحصانة والخروج الأمن بعيدا عن احتمالات ملاحقة خصومه ومعارضيه.

في مثل هذه الأجواء بدأ بوتين سنوات حكمه في الكرملين متكئا على رفاق الماضي، وما اختزنه من ملفات ومعلومات إبان فترة عمله كرئيس لجهاز الأمن والمخابرات تسانده خبرات تراكمت على مدى سنوات طوال كممثل لواحد من أعتى وأقوى الأجهزة الأمنية في العالم.

استهل بوتين سلسلة مواجهاته مع أقطاب الأوليجاركيا باعتقال إمبراطور الإعلام رئيس المؤتمر اليهودي الروسي فلاديمير جوسينسكي الذي كان فرض خلال سنوات قلائل هيمنته على الساحة السياسية من خلال شبكة إعلامية مرئية ومسموعة ومطبوعة. استند إلى الكثير مما ارتكبه جوسينسكي من جرائم اقتصادية لإصدار قرار اعتقاله وهو ما أعقبه باتفاق غير معلن حول «السماح بهروبه» إلى إسرائيل مقابل بيع ما يمتلكه من صحف وإذاعات وقنوات تلفزيونية.

وشيئا فشيئا تساقطت رموز الإعلام ممن ارتبطوا بممثلي الأوليجاركيا. لكنهم سرعان ما وقعوا عن طيب خاطر في براثن الكرملين الذي احكم قبضته وشدد رقابته على الصحافة والإعلام، وهو ما يعزون إليه تراجع حرية الكلمة وسقوط ممثليها أسرى توجهات وتعليمات الحاكم.

وفي محاولة لتهدئة وتائر المواجهة، ولا سيما مع ممثلي الأوليجاركيا دعا بوتين أقطاب هذه الطغمة المالية إلى اجتماع واسع في الكرملين بحضور وكيليهم كاسيانوف رئيس الحكومة وفولوشين رئيس ديوان الرئاسة ليعلنهم بشروط «الهدنة» والتي تمثلت في ضرورة سداد الضرائب والتوقف عن تهريب الأموال والتي كانت بلغت ما يقرب من 300 مليار دولار خلال أقل من عشر سنوات إلى جانب ضرورة تطوير وتنمية القطاعات التي آلت إليهم عن غير وجه حق ولا سيما في مجال النفط والغاز والابتعاد عن السياسة.

ولد بوتين في 7 أكتوبر (تشرين الأول) 1952، وتخرج في كلية الحقوق جامعة لينينغراد في عام 1975، وأدى خدمته العسكرية في جهاز أمن الدولة. وعمل في جمهورية ألمانيا الشرقية بالفترة من 1985 - 1990. وتولى منصب مساعد رئيس جامعة لينينغراد للشؤون الخارجية منذ عام 1990، ثم أصبح مستشارا لرئيس مجلس مدينة لينينغراد. وتولى منصب رئاسة لجنة الاتصالات الخارجية في بلدية سانت بطرسبورغ (لينينغراد سابقا) منذ يونيو (حزيران) 1991. وفي الوقت نفسه تولى منصب النائب الأول لرئيس حكومة مدينة سانت بطرسبورغ منذ عام 1994.

وفي أغسطس (آب) 1999 أصبح رئيسا لحكومة روسيا الاتحادية وذلك باختيار من الرئيس بوريس يلتسن. تولى اختصاصات رئيس روسيا الاتحادية بالوكالة منذ 31 ديسمبر (كانون الأول) 1999 بعد استقالة الرئيس بوريس يلتسن. وانتخب في 26 مارس (آذار) 2000 رئيسا لروسيا الاتحادية. وهو متزوج لودميلا بوتينا ولهما ابنتان: ماريا - ولدت عام 1985 وكاترينا - ولدت عام 1986.

ويواجه بوتين أو رجل روسيا القوي، في انتخابات الأحد المقبل، معارضة لا سابق لها منذ وصوله إلى السلطة في عام 1999، رغم أن كل الترجيحات تشير إلى أن فوزه سيكون من دون أي مفاجأة، ومن الدورة الأولى كما حدث في انتخابات عامي 2000 و2004.

وأثارت الانتخابات البرلمانية التي جرت في سبتمبر (أيلول) وفاز فيها حزب روسيا الموحدة الحاكم بنحو 50 في المائة في المائة حركة احتجاج لا سابق لها منذ التسعينات. وقد أكدت المعارضة أن هذا الاقتراع شهد عمليات تزوير. وشهدت موسكو وسان بطرسبورغ ومدن أخرى حي فلاديفوستوك (أقصى الشرق الروسي) موجة أولى من المظاهرات مستلهمة مظاهرات الربيع العربي التي شهدتها تونس ومصر وليبيا واليمن وأطاحت بزعمائها الديكتاتوريين. وكما حدث عربيا، قامت قوات الأمن الروسية بقمع تلك المظاهرات واعتقلت الآلاف وحكم على عشرات منهم بالسجن لمدة تصل إلى 15 يوما.

وأمام ارتفاع عدد المشاركين من نحو ثمانين ألفا في العاشر من ديسمبر (كانون الأول) قرب الكرملين، وإلى أعداد أكبر في 24 ديسمبر، ثم في الرابع من فبراير (شباط) الماضي، اضطرت السلطات للمساح بهذه التجمعات التي انضمت إليها شخصيات ثقافية وإعلامية. وفي آخر تحرك رمزي، حشدت المعارضة الروسية آلاف الأشخاص الأحد في موسكو شكلوا سلسلة بشرية على طول الطريق الدائرية حول وسط المدينة تحت شعار «لا تسمحوا لبوتين بدخول الكرملين».

واتهم بوتين الذي بات يسابق الربيع الروسي للوصول إلى السلطة، معارضيه بخدمة مصالح القوى الأجنبية وانتقد شعار الحركة الاحتجاجية وهو شريط أبيض قال إنه اعتقد أنه واق أو رمز لمكافحة الإيدز. ورفض ترشيح الليبرالي غريغوري يافلينسكي بحجة وجود مخالفات في لوائح تواقيع الداعمين له، مما يحرم الناخبين من مرشح وحيد يعد معارضا حقيقيا لبوتين.

وتشير استطلاعات الرأي إلى أن المرشحين الأربعة في الانتخابات، الروسية وهم الشيوعي غينادي زيوغانوف، والشعبوي فلاديمير جيرينوفسكي، والملياردير ميخائيل بروخوروف وزعيم يسار الوسط سيرغي ميرونوف، لا يشكلون أي خطر على بوتن، حيث تعتبر مشاركتهم من أجل تعزيز صحة انتخاب بوتين.

وقال الخبير في مركز كارنيغي نيكولاي بيتروف، إن «بوتين اختار منافسين مريحين كما لو أن بطل العامل يختار خصومه ويحدد القواعد ويحكم هو نفسه على المنافسة». وخصصت شبكات التلفزيون الوطنية التي تسيطر السلطات عليها منذ وصول بوتين للسلطة مساحات واسعة لرئيس الوزراء بما في ذلك زياراته إلى مصنع للأسلحة ومناطق مدعومة ماليا من موسكو.

ورفض بوتين الذي يعتبره معارضوه انه اكثر من مجرد رئيس لسيطرته على مجريات الامور, المشاركة بأي مناظرة مع خصومه ونشر في الصحف مقالات طويلة وعد فيها بإعادة تسليح روسيا «بشكل غير مسبوق» وبزيادة الأجور. وأكد التلفزيون الروسي الرسمي من جهته أن هناك مرشحا واحدا للانتخابات الرئاسية في الرابع من مارس يقدر على تقديم مقترحات ملموسة للبلاد هو بوتين.

وقد دعا رئيس الوزراء إلى تجديد الآليات الديمقراطية، منتقدا «الاستعراضات السياسية» التي تنظمها المعارضة بعدما نجحت في حشد عشرات الآلاف ضده، معتبرا في الوقت نفسه أن أنصاره هم «المدافعون عن الوطن». وأكد بوتين أمام نحو 130 ألف متظاهر احتشدوا في موسكو الأسبوع الماضي، أنه لن يسمح «لأحد» بأن يتدخل في شؤون روسيا. وقال للجموع التي احتشدت في ستاد لوجنيكي «اليوم نحن المدافعون عن الوطن». وانتخب بوتين للمرة الأولى بـ53 في المائة من الأصوات بعدما كان رئيسا بالوكالة على أثر استقالة سلفه بوريس يلتسين، وفي أجواء حرب شنها على الشيشان بعد اعتداءات خطيرة في موسكو. وقد أعيد انتخابه للمرة الثانية في 2004 بتأييد 71 في المائة من الناخبين. وقال علماء اجتماع إن شعبيته تعززت بفضل التحسن السريع في مستوى المعيشة خصوصا بفضل ارتفاع أسعار النفط واتباعه سياسة بدت في البلاد على أنها تعيد مكانة روسيا في الساحة الدولية.

وبقي فلاديمير بوتين رجل روسيا القوي بعدما دفع في 2008 إلى الرئاسة ديمتري ميدفيديف الذي يتمتع برعايته، إذ إن الدستور لا يسمح له بالترشح لولاية رئاسية ثالثة. وبعدما جسد الآمال في سياسة التحرر، أعلن ميدفيديف في سبتمبر أنه لن يترشح لولاية رئاسية جديدة وتخلى عن المنصب لمصلحة راعية.

وسمح تعديل دستوري بأن تصبح مدة الولاية الرئاسية ست سنوات بدلا من أربع سنوات. ونظريا يمكن أن يبقى بوتين في السلطة ولايتان جديدتان أي 12 عاما، حتى 2024. وكان الإعلان عن عودة بوتين إلى الرئاسة دفع كثيرين إلى الحديث عن تشابه مع السنوات ال18 التي أمضاها الزعيم السوفياتي ليونيد بريجنيف في السلطة وتوصف بأنها «مرحلة ركود». وفي مطلع فبراير الماضي رفع معارضون لبوتين لافتة ضخمة كتبوا عليها «ارحل يا بوتين» على سطح مبنى مقابل للكرملين في استعراض جريء لرفضهم خطة ترشحه للرئاسة من جديد. وقال المتحدث باسم شرطة موسكو أركادي بشيروف وقتها، إن الشرطة أزالت اللافتة وتحقق في الواقعة. كما أطلت صورة بوتين وعلى وجهه رسمت علامة خطأ في اللافتة على الجانب الآخر من نهر موسكو عند الكرملين مقر الحكم في روسيا الذي يشغله الآن الرئيس ديمتري ميدفيديف.

وكثرت اللافتات والهتافات التي تحث بوتين على ترك الحكم في المظاهرات التي تخرج بسبب مزاعم بالتزوير لصالح حزبه في الانتخابات البرلمانية التي جرت في ديسمبر. لكن هذه اللافتة التي علقتها حركة تضامن المعارضة كانت واحدة من مظاهر قليلة قرب الكرملين على الاحتجاج منذ تولى بوتين الحكم عام 2000.

ويقول بافيل ييليزاروف الناشط بالحركة الذي وقف قرب المبنى «نعتقد أن 12 عاما من حكم بوتين أكثر من كافية». وقال إيليا ياشين القيادي بحركة تضامن، إن اللافتة رفعت أمام الكرملين لأن «بوتين كان وسيظل رئيس الكرملين».

واعتبر بوريس دولغوف من مركز الدراسات العربية في أكاديمية العلوم الروسية أن الكرملين يواجه تحديا حقيقيا. وقال إن «كل الثورات (العربية) سبقتها مظاهرات.. وفي روسيا هناك مشاكل اجتماعية واقتصادية وجرائم، فهل سيحصل الانفجار؟ هذا مرهون كثيرا بما ستفعله السلطات».