روبرت فيسك.. «الممانعة» في نسختها البريطانية

يتفق مع أنظمة وحركات إسلام سياسي على مناهضة السياسة الأميركية في الشرق الأوسط

متظاهرة مصرية تحمل صورة الصحافي البريطاني روبرت فيسك في إحدى المظاهرات التي انطلقت بعد 25 يناير 2011 ضد الرئيس المصري السابق محمد حسني مبارك
TT

زلزال الانتفاضات العربية في الشارع يبدو أنه لم يهز المثقفين والصحافيين العرب وحدهم، فالصحافة الغربية بدورها من خلال مراسليها في منطقة الشرق الأوسط تبنت قناعات متناقضة مثيرة للجدل، تجاه ما يحصل على الأرض وكيفية قراءته.

روبرت فيسك، أحدث أشهر المراسلين البريطانيين في المنطقة منذ 35 عاما، ويعمل لصالح صحيفة «الإندبندنت»، يراه الكثير مرجعا مهما في نقل تصورات عن الحراك السياسي في منطقتنا، وتفكيك مكوناته وأبعاده الاجتماعية والثقافية.

والحال أن الاحتفاء الذي يحظى به فيسك تجده أكثر ما يكون في الأوساط التي تتبنى نظرية «دول الممانعة» لكل ما هو أميركي وغربي، فتجده قريبا من حركات «الإسلام السياسي» حتى لو كان مسلحا مثل حزب الله، فضلا عن مواقفه المبررة لسياسة إيران الخارجية، طالما هي في إطار «الممانعة» السياسية لـ«الغرب الإمبريالي»، دون أن ننسى بالطبع تمجيده المطلق لعراب الناصرية الصحافي المصري محمد حسنين هيكل، ومن قبله بالطبع جمال عبد الناصر، وانتهاء بمواقفه السلبية من دول الخليج، التي يراها بنظارة القوميين واليساريين العرب «دول الثقافة النفطية».

كل ما سبق من أنظمة وحركات إسلام سياسي مسلح وشخوص ديكتاتورية، لا يجمع تناقضاتها القيمية والمراجع السياسية مع فيسك سوى مفهوم واحد قائم على مناهضة السياسة الأميركية في منطقة الشرق الأوسط.

على أي حال، فيسك في عام «الربيع العربي» كان مع غيره بالطبع إحدى بوابات الصحافة البريطانية لفهم المشهد العربي، بكل تحولاته وتمثلاته السياسية. في محاولتنا هذه استقراء موقف فيسك من الحراك في سوريا، والبحرين، ومصر، وتونس، وسنحاول فهم طرح فيسك السياسي الذي يعجب بخصوصية «استبداد» جمال عبد الناصر، ويرى حسني مبارك طاغية، وفهم ذات الطرح الذي يرى أن ثورة تونس تسممت، ليس لأن حزبا «آيديولوجيا» من حركات الإسلام السياسي تنصب هناك فقط، بل أيضا لأن هذا الحزب يحاول إرضاء الغرب، بينما فيسك نفسه يرى أن احتلال حزب الله لبيروت الغربية واستعراض القوة «رسالة إذلال لأميركا» وليس تدميرا للحياة السياسية في لبنان، وكيف أنه يفسر ما يحدث في البحرين على أنه «ثورة شيعية على الأقلية السنية» ويرى أن دافعها ديمقراطي رغم إقراره بطائفيتها.

والحال أنه ربما ينبغي لنا العودة لما قبل عام «الربيع العربي» بأشهر قليلة لفهم رأي فيسك في بشار الأسد وأسلوب إدارته للحكم، ففي تلك الفترة تعاون مجموعة من الباحثين السوريين بالتنسيق مع بعض الجمعيات الأميركية تحت عنوان «مشروع العدالة الانتقالية في العالم العربي» وكان نتاج هذا التعاون إصدار تقرير تحت اسم «سنوات من الخوف» يتحدث عن أكثر من سبعة عشر ألف مفقود قسريا في السجون السورية منذ عهد الأسد الأب، ويعتمد التقرير على اللقاء المباشر مع عوائل هذه الشخصيات والمعنيين منهم بالأمر.

فكيف ناقش فيسك هذا التقرير الذي أفرد له مقالا كاملا، بعد تقديم بداية المقال حول دور بعض الجمعيات التي ساندت التقرير ولمزها بـ«إمبرياليتها» يقدم في جزء مهم فحوى المقال ورأيه النقدي، القائم أيضا على نقد أميركا، ونصه: «السخرية المزدوجة التي لا يذكرها التقرير أن الحكومة الأميركية التي تدعم الحريات أرسلت بسرور معتقلين إلى دمشق لعلمهم أن السوريين سيتجاهلون دستورهم ويعذبون المشتبه بهم حتى يعلنوا مكنونات قلوبهم، هذه اللفتة مؤداها أن لا فرق بين الحكومة الأميركية التي تدعم الحريات، والنظام في سوريا الذي يعذب مساجينه ما دامت هذه الحكومات ترسل له مساجين تعرف أنه سيعذبهم».

في الواقع، أن الفكرة التي كان يدور حولها هنا فيسك لا تختلف أبدا عن حجة المندوب السوري في الأمم المتحدة، عندما يدافع عن قمع النظام الأسدي للشعب السوري وتقتيله بشكل منظم، فيرد ويقول: ولماذا تصمتون عن جرائم إسرائيل مع الفلسطينيين؟ وكأن القتل الإجرامي امتياز يطالب بامتلاكه أسوة بالآخرين، ولو نحينا الشكل الأسلوبي في جملة فيسك لوجدنا معناها الدقيق كالتالي: لا داعي لتجريم جرائم وانتهاكات النظام الأسدي طالما الأميركيون يقومون بمثلها.

والحال أن موازين التقييم السياسي لدى فيسك تختلف باختلاف قرب وبعد النظام الحاكم عن مفاهيم «دول الممانعة»، فقد نشر قبل عشرة أيام تقريبا تقريرا عما سماه «الثورة المسممة في تونس»، وبدا نقده غاية في الموضوعية بالتركيز على حجم البطالة المتنامي والتدهور الاقتصادي الذي يصل إلى أن يكون صفرا، فضلا عن الحريات المسلوبة.. إلخ، ولكن قبل الاستمتاع بهذا النقد الليبرالي «الغربي»، أليس حريا تذكر مقالته المنشورة في أوائل العام المنصرم إبان بداية بزوغ نجم راشد الغنوشي، والذي رأى فيها أن أبرز عيوبه أنه «يسعى للحفاظ على مصالح الغرب ضد مصالح الشعب»، دائما هنا مربط الفرس «السياسي» الذي يستهوي فيسك في قراءة الأحداث.

ولكن السؤال: ما هو الفرق بين «ديكتاتورية» الرئيس التونسي المخلوع، ونظيره المصري حسني مبارك، وسابقه الراحل جمال عبد الناصر (رئيس الحزب الواحد، ودولة الرجل الواحد.. الذي ملأ السجون بالمثقفين في عهده، وصاحب نتيجة الانتخاب 99.99)؟ وحده فيسك القادر على الإجابة، إلا لو اجتهدنا في المساعدة وتذكرنا أن عبد الناصر كان «ممانعا» للسياسة الأميركية.

ولا حديث يحلو عن عبد الناصر دون التطرق لعراب الصحافة المصرية في حينه محمد حسنين هيكل، الذي يصفه فيسك بـ«أعظم صحافي في مصر»، والذي أجرى معه حوارا مطولا أخيرا عن أوضاع مصر الجديدة، وأحوال المنطقة.

ولكن مهلا، ما هي مواقف هيكل (أعظم صحافي في مصر) المعلنة من الثورة السورية على سبيل المثال، خصوصا أنه قام بزيارة حسن نصر الله قبل شهور بحسب الحوار المنشور مع روبرت فيسك؟ رأيه في أحداث سوريا الدامية كالتالي: «ما يجري في سوريا من فتنة طائفية يقوم بها الأعداء يهدف إلى الإعداد لضرب إيران في المرحلة اللاحقة».

ويزيد في رأيه عن حزب الله وإيران: «أعتقد أننا ظلمنا بشدة السيد حسن نصر الله، ولا أعلم سر الهجوم على هذا الرجل». وانتقد هيكل هجوم بعض الدول العربية، وفي مقدمتها مصر، على إيران قائلا: «أنا لا أعرف لماذا ندخل في عداء مع إيران؟ وحتى هذه اللحظة لا أستطيع أن أفهم لماذا نحن في هذا البلد لم نعترف بها منذ أول يوم؟ لا أجد سببا لهذا على الإطلاق، وأذكر حين قابلت الخميني لأول مرة في باريس عام 1979 وقال لي: لماذا تعاديني مصر؟».

في الضفة الأخرى من العالم العربي، حيث تسترخي دولة البحرين في خاصرة الخليج العربي، ظلت الرؤى مختلفة ومتشابكة عن حقيقة ما يحدث في هذه الجزيرة الهادئة عادة. روبرت فيسك كان حامل لواء التشنيع بالنظام الملكي القائم هناك. وهو موقف لا بد من تفنيده.

ويقول فيسك في مقال قبل شهور: «هل جن جنون عائلة آل خليفة؟ بدأت العائلة المالكة البحرينية بمحاكمة غير نزيهة لثمانية وأربعين جراحا وطبيبا (..) وبما أني كنت شاهدا على جهودهم البطولية التي قاموا بها لإنقاذ أرواح الأشخاص، الأطباء الذين رأيتهم سبحوا في دماء مرضاهم وهم يحاولون بيأس أن يوقفوا نزيف الدماء (..)، أحد الأطباء سألني كيف يمكنهم القيام بهذا لهؤلاء الناس؟».

قبل أن ننتقل إلى شق آخر من المقالة، دعونا نشير هنا لخلاصة تقرير اللجنة الدولية التي شكلت والمعروفة باسم لجنة بسيوني، كجهة محايدة، حققت في أحداث فبراير (شباط) في البحرين، وخرجت بإدانات قاسية للحكومة والمعارضة البحرينية على السواء، فماذا قالت هذه اللجنة؟ كان كالتالي: «دعا الكثير من الأطباء إلى إسقاط النظام داخل مجمع السليمانية الطبي، منع ثلاثة من الكوادر الطبية في مستشفى السليمانية رجلا سني المذهب يحمل طفلا صغيرا للعلاج، تم القبض على صحافيين من قناة (المنار) (التابعة لحزب الله) كانوا مختبئين في الطابق السادس بمجمع السليمانية الطبي متنكرين في صورة أطباء، عثر في مجمع السليمانية الطبي على أسلحة من طراز كلاشنيكوف بالقرب من مدخل قسم الطوارئ.. إلخ»، بالطبع الحكومة البحرينية لم تكن في منأى عن نقد قاس من قبل اللجنة، أهمها وجود حالات تعذيب في السجون لانتزاع الاعترافات، وإن لم تكن ممنهجة كسياسة حكومية.. إلخ.

الشق الثاني من مقال فيسك قال فيه: «على عكس السلطات البحرينية أنا لا أقول الأكاذيب (..)، السعوديون قاموا ببساطة بغزو البلاد ثم تسلموا دعوة متأخرة، ما تبع دخول الجنود السعوديين من الدمار الذي حل بمساجد الشيعة القديمة في البحرين كان مشروعا سعوديا».

والحال، ربما فيسك لا يقصد هنا قول الأكاذيب حقا، ولكن بالتأكيد ما يقوله معلومات غير صحيحة، فتقرير لجنة بسيوني أقر أيضا بعد التحقيق بأن قوات درع الجزيرة لم تشارك على الإطلاق في عمليات مكافحة الشغب، كما أنها لم تواجه أساسا أي مدنيين، ولم يثبت بأي صورة أو تسجيل قول واتهامات روبرت فيسك، فضلا عن أن تسميته لقوات درع الجزيرة بالقوات السعودية معلومة غير دقيقة أيضا، فقوات درع الجزيرة فكرة قائمة على جمع أفراد من جيوش مشتركة لدول الخليج، وتتحرك وفق آليات مجلس التعاون الخليجي.

وبما أن فيسك يبدو لا يحب وصف معلوماته بالأكاذيب، لنتفق على تعريف آخر ولنقل أنه ارتكب خطأ مهنيا فادحا في مكان آخر، عندما اعتمد على وثيقة مزورة تفيد بأمر وزير الداخلية السعودي الأمير نايف بن عبد العزيز بإطلاق النار على المتظاهرين السعوديين.

والقصة لمن لا يعرفها، قدمت صحيفة «الإندبندنت» البريطانية اعتذارا للنائب الثاني (وقتها) ووزير الداخلية السعودي الأمير نايف بن عبد العزيز عن مقال كتبته عنه، واعترفت بأن المعلومات التي وردت فيه غير صحيحة، وقالت: إنها سحبته، وجاء هذا الاعتذار أمام المحكمة العليا البريطانية، واعترفت الصحيفة بأن «الأمر» الذي زعمت أن الأمير نايف أصدره كان غير صحيح ويستند إلى معلومات مغلوطة. وقدمت شركة «إندبندنت برينت ليميتد» التي تنشر الصحيفة اعتذارا لوزير الداخلية السعودي في المحكمة العليا في لندن.

وقدم روبرت فيسك، مراسل الصحيفة في الشرق الأوسط الذي كتب المقال في الخامس عشر من أبريل (نيسان) الماضي اعتذارا أيضا للأمير نايف. وقالت الصحيفة: إن المقال نشر «بنية طيبة»، ولكنها اعترفت بأن معلوماتها ثبت أنها غير صحيحة واعتمدت على التزوير. فيما قال المحامي في حينه روبرت إيرل، الذي مثل الأمير نايف في القضية، «القاضية نيكولا دافيس بأن الادعاءات الكاذبة التي أوردها فيسك في مقاله نشأت بعد سعي ناشطين سعوديين شيعة لتنظيم مظاهرة يوم الحادي عشر من مارس (آذار) الماضي».

وهنا تعود الأسئلة المتكررة حول مواقف فيسك السياسية، فبشار الأسد، الذي يقوم بمجازر يومية في حق شعبه، يلومه ويلوم معه الغرب المتآمر على «ممانعته» والبحرين التي فتحت أبوابها للمراسلين الأجانب واستقدمت لجنة دولية محايدة للتحقيق في الأحداث وجهت نقدا قاسيا للحكومة نفسها، ومشاريع إصلاح سياسية متوالية يعرضها النظام البحريني الحاكم، ومع ذلك يتساءل فيسك حول ما إذا كان النظام أصيب بالجنون في التعامل مع شعبه.

زلزال الانتفاضات الشعبية الذي هز وما زال يهز العالم العربي يبدو أنه لا يكتفي بهز الدول، بل هز القناعات والأشخاص، وإلا كيف يمكن لصندوق واحد أن يجمع بين فيسك، وهيكل، وحزب الله، وجمال عبد الناصر، وإيران، وسوريا، بذات التقاطعات السياسية، التي لم تساعدها «الثورات العربية» على تكسير أساطير الماضي، إلا إذا عدنا وتذكرنا جملة الأديب الأميركي ويليام فوكنر: «الماضي ليس ماضيا أبدا، إنه يعيش بيننا»، وهي ذات العبارة التي بدأ بها تقرير الباحثين السوريين آنف الذكر: «سنوات من الخوف».