نساء خلف السلطة (2)

د. محمد عبد الستار البدري

TT

تناولنا في المقال السابق ثلاثة نماذج لنساء خلف السلطة أثرن مباشرة في هدم مُلك أزواجهن، وهنا نستعرض ثلاثة نماذج لنساء كان لهن الأثر الإيجابي على بلادهن وأزواجهن في بعض المناسبات، وهو ما يعكس بكل وضوح أن العنصر النسائي قد يكون له أفضل الآثار السياسية، كما كان الحال مع الإمبراطورة ثيودورا وكاترينا الكبرى وشجر الدر، ثلاث نساء كان لهن دور سياسي إيجابي ومهم.

لقد كانت ثيودورا زوجة الإمبراطور جستنيان أشهر أباطرة الدولة البيزنطية في القرن السادس الميلادي، ولهذه الإمبراطورة قصة تكاد تكون من نسج الخيال، فالمعروف عنها أن جمالها كان مبهرا وأنها نشأت في بيئة متواضعة وكانت تعمل في بداية حياتها كراقصة وغانية لتكفل نفسها، حتى يقال إنها لفتت أنظار أحد رجال الدولة فاتخذها عشيقة له لمدة سنوات فرت منه ومرت عبر أراضي الإمبراطورية منها مصر حيث عملت في غزل الصوف إلى أن وقعت أعين جستنيان ولي عهد بيزنطة عليها في إحدى المناسبات فولع بها وأحبها حبا جما، وتزوجها بالفعل ضد كل قواعد القصر، بل وتعامل مع أولادها على اعتبارهم من الأسرة المالكة أيضا، وتشير بعض المصادر إلى أنها كانت تكبره سنا، بل وحنكة سياسية في أحوال كثيرة.

وعند تعيينه إمبراطورا في عام 527م، كانت ثيودورا بالفعل أقوى نفوذا عليه، وكان لها دورها المباشر في إدارة الإمبراطورية سياسيا واجتماعيا واقتصاديا، حيث إنها كانت امرأة ذات رؤية سياسية واسعة، وتجلى دورها في ثورة «النيكا Nika» عندما تعرضت القسطنطينية لتمرد وثورة عارمة في 532 تزعمتها طائفتا «الزرق» و«الخضر»، اللتان مثلتا أطيافا وطبقات اجتماعية مختلفة، وقد طالبت هذه الحركة القوية بالتخلص من الإمبراطور جستنيان لصالح أمير آخر في البلاد، وبدأت بالفعل حالة من القلق تنتشر في القسطنطينية وبين الإمبراطور وبعض جنرالاته، حتى قرروا الهروب الفوري من خلال الإبحار ليلا للنجاة من الثوار، ولكن ثيودورا كان لها دورها المهم في التصدي لزوجها وجنرالاته وإقناعهم بضرورة البقاء وعدم التخلي عن الحكم بل وتحسين إدارة البلاد، ولولا تدخلها لعاش جستنيان طريدا باقي عمره وما كان له أن يبدأ قصة عملية الإصلاح التي بادر بها بدعم من زوجته.

وقد لعبت هذه المرأة دورا مهما للغاية في إعادة بناء مدينة القسطنطينية مرة أخرى بعد الدمار الشامل الذي لحقها، ثم كان لها دورها البارز في السعي للتوفيق بين المذهب الأرثوذكسي والمذاهب الدينية المسيحية المنادية بالطبيعة الواحدة للسيد المسيح ومنهم الأقباط، كما أنها لعبت دورا مهما للغاية في مسألة حقوق المرأة وكفالتها، إضافة إلى دورها البارز في تجميع القوانين الرومانية فيما عرف بـ«كود جستنيان»، بل ويقال إن بعد موتها ظل جستنيان على وفائه بعهدها لفترة طويلة واستمر في إصلاحات كانت تنادي وتقوم بها، وهي بذلك تعد من أفضل السياسيات اللائي أنجبتهن الإمبراطورية البيزنطية حتى وإن لم تكن هي الإمبراطورة رسميا.

المثال الثاني الذي يحضرني هو لشخصية سياسية روسية شهيرة ومهمة للغاية هي كاترينا الكبرى، التي تعد بعد القيصر بطرس الأكبر، أهم شخصية تنويرية وسياسية، هي من أصول ألمانية من عائلة عريقة ولكن ليس بالضرورة غنية، وكانت على المذهب اللوثري فتحولت إلى الأرثوذكسية عندما خطبت لولي العهد الروسي بطرس الثالث، وتقربا للروس ومراكز القوى المختلفة بما فيها أم ولي العهد الإمبراطورة إليزابيث، تعلمت الشابة اللغة الروسية وتقربت من الثقافة الروسية بشكل قوي فلم تعد غريبة عنها، فقربها ذلك للشعب والقصر الروسيين، وكانت هذه الشابة شخصية قوية للغاية وحكيمة جدا تعلمت السياسة في صغرها وطبقتها بعمق في كبرها.

لقد بدأت مشاكلها مع زوجها الأمير مبكرا حيث كان كثير السكر وله مشاكله وكان يشك في وجود علاقات لزوجته برجال آخرين في القصر، ولكن ذكاءها الفطري جعلها تتابع الأوضاع في القصر ومع زوجها بهدوء حتى لا تخرج الأمور عن سيطرتها، بل يقال إنها كانت تصاحب أقارب عشيقات زوجها لأسباب سياسية، وبعد تولية زوجها الحكم بستة أشهر حدث انقلاب في القصر وتم تعيين زوجته وصية على العرش ولكن أحدا لم يعرف أن هذه السيدة ستتولى سدة الحكم لمدة أربع وعشرين عاما كحاكمة مطلقة تحاصرها محبة دوائر روسية كثيرة.

لقد اعتمدت كاترينا على عدد من رجال الدولة في الشؤون الداخلية والخارجية منهم «بوتمكن Potemkin» الذي ينسب له ما يعرف في السياسة بـ«خدع بوتمكن» حيث كان يقدم للإمبراطورة صورا غير حقيقية للتقدم والعظمة الروسية وينشئ لها قرى لا أصل لها وهي في طريق السفر ليوهمها برخاء الشعب وسعادة رعاياها، والمعروف أيضا أن في عهدها توسعت روسيا إلى أقصى مجالاتها، كما أنها صنعت الهيبة الحقيقية لبلادها كدولة أوروبية بما يعد امتدادا لسياسات بطرس الأكبر، فوسعت دوائر النفوذ الروسي في شرق أوروبا إلى الحد الذي جعلها تتوج عشيقها الأمير ستانسيلاف ملكا على بولندا، وما أكثر عشاقها لأنها لم تتزوج حتى لا يضيع سلطانها، وتعد هذه الحاكمة من أهم الحكام الذين خدموا روسيا وشعبها على مدار قرون طويلة.

المثال الثالث الذي يحضرني بشدة هو لشجر الدر، وهي زوجة السلطان الصالح نجم الدين أيوب، آخر السلاطين الأيوبيين، الذي مات أثناء تعرض البلاد لحملة صليبية عنيفة أنزل فيها الصليبيون بقيادة لويس التاسع قواتهم واستولوا على أجزاء من الدلتا، وقد مات السلطان في هذه الظروف، فأخفت زوجته شجر الدر الأمر عن الجميع حتى لا تنكسر الروح المعنوية للبلاد ومعها الموقف العسكري، فتنكسر مصر في وجه الغزاة، وأرسلت لابنه توران شاه ليتولى الأمر، ثم نظمت وقيادات المماليك الجيش المصري حتى كان النصر لمصر في معركة المنصورة الشهيرة، ولكن سرعان ما بدأ السلطان الجديد توران شاه يعيث في الأرض فسادا وشربا ولهوا وضاق به مماليك البلاد وشجر الدر ذاتها، فدبر الفريقان لقتله، وعند هذا الحد سعت شجر الدر لمحاولة الاستئثار بالحكم في عام 1250 ولكن الخليفة العباسي أبى حيث رأى ضرورة أن يؤول حكم مصر لرجل، فتزوجت شجر الدر من كبير المماليك «أيبك» وتنازلت له عن حكم البلاد، ومن خلال هذه الزيجة تآمر الاثنان على القائد الآخر لفريق المماليك «أقطاي»، وسرعان ما دب الخلاف بين الرجل وزوجته فتآمرت عليه شجر الدر بدعوته للصلح ثم قتلته، وبدلا من أن يؤول الحكم لها أو لمن ترشحه لابن أيبك، وفي انتقام مفهوم دبرت أم الخليفة لمقتل شجر الدر، حيث انهالت عليها خادماتها ضربا بالقباقيب حتى ماتت، فآل حكم مصر سريعا بعدها إلى سيف الدين قطز، كبير المماليك.

لقد كانت هذه نماذج لثلاث نساء أقوياء وطموحات أثرن مباشرة بالإيجاب على الحكم في بلادهن سواء بشكل مباشر مثل شجر الدر وكاترينا، أو بشكل غير مباشر مثل ثيودورا، وفي حين استطاعت ثيودورا وكاترينا أن يتقنا اللعبة السياسية، الأولى من خلال السيطرة على زوجها، والثانية من خلال السيطرة على مراكز القوى في الدولة والانفراد بالسلطة، فشلت شجر الدر في الجمع بين الطريقتين، فضاع سلطانها بالزواج وفاضت روحها بالقباقيب، لتكون عبرة لمن بعدها من النساء خلف السلطة بأن من لا يتقن لعبة السياسة فإن مصيره قد يكون «القبقاب» السياسي أو الشعبي.

* كاتب مصري