وقفة على تل الأسد

د. محمد عبد الستار البدري

TT

لا أذكر كم مرة زرت فيها موقع معركة «ووترلو» الشهيرة خلال إقامتي في العاصمة البلجيكية بروكسل، فعلى بعد ما يقرب من عشرة كيلومترات من إقامتي كان ميدان المعركة في منطقة تعرف بالـ«Butte de Lion أو تل الأسد» حيث تتجمع المتاحف المختلفة، ولكن مكاني المفضل كان متحفا قديما وصغيرا يبعد عن المركز ببضعة كيلومترات اسمه «لي كايوو Le Caillou» حيث كان البيت الذي قضى فيه نابليون بونابرت ليلته عشية المعركة والذي جمع في الحجرة الملاصقة له مجلس حربه قبيل معركة «ووترلو» الفاصلة في 18 يونيو (حزيران) 1815، وعلى جدران هذا البيت العتيق لوحات لنابليون وعصره وحاويات زجاجية تشمل مسدسات وخطابات خاصة به وبعض الأوراق التي تحكي مأساته في هذه المعركة.

لقد نشبت هذه المعركة بعد أن هرب نابليون من منفاه في جزيرة «إلبا» وعاد لفرنسا فحمله الشعب على الأعناق، حتى جنرالاته التفوا حوله من جديد، بما في ذلك الجنرال «نيي Ney» والذي أرسله الملك الجديد للقبض على نابليون فوعده بأن يحضره في قفص! وعندما أدرك بونابرت أن السلام مستحيل مع الحلفاء المجتمعين في فيينا لتدارس مستقبل السياسة في القارة، قرر تجميع جيش وملاقاة جيوش الحلفاء بقيادة «ولينغتون» في بلجيكا، فخرج على رأس جيش من قرابة سبعين ألفا، فكان أول لقاء له على الأراضي البلجيكية في معركة «لينيي» حيث هزم الجيش «البروسي» بقيادة جنراله العجوز «بلوخر» في معركة منفردة وشتت أوصاله، ثم عهد إلى أحد جنرالاته «جروتشي» بمهمة مطاردة «بلوخر» وعدم السماح لفلوله بالدخول في المعركة، وعهد له بأكثر من ثلث جيشه على أن يقوم جيش بونابرت الأكبر بمواجهة الجنرال الإنجليزي «ولينغتون»، وقد اعتقد نابليون أن التاريخ سيعيد نفسه وأنه سيمنح فرنسا نصرا جديدا يضاف لانتصاراته فيقوي موقفه السياسي ويفرض من خلاله الصلح على الحلفاء.

وقد استمر المطر يهطل على ميدان المعركة لأيام متتالية وكان هذا عائقا كبيرا لنابليون حيث كان عليه عبء المبادرة والتحرك، وفي ظل ظروف الطين والمطر فإن حركة المدفعية والجنود أعيقت ومعها فرص اندفاع الجندي المهاجم، ومع ذلك لم ييأس الرجل من مثل هذه الظروف، ولكن الأخطر من ذلك هو أن نابليون لم يكن الشاب الذي خاض معركة «مارنجو» أو «أوسترلتز»، فلقد كان كبيرا، ويقدر الكاتب الإنجليزي «بليمي ليدل هارت» أشهر أرباب الفكر العسكري الحديث أن جنرالات أوروبا ومحاربيها من أعدائه كانوا قد تعلموا الكثير من تكتيكاته الحربية حتى جاءتهم المناعة العسكرية بعدما لقنهم الدرس تلو الآخر لقرابة خمسة عشر عاما، ومع ذلك فإن نابليون العائد من منفاه لم يكن لديه الجديد في جعبته العسكرية باستثناء محبة الجنود والضباط له، حيث كانوا يعشقونه لقدراته العسكرية والسياسية، ويقال إنه كان يتحدث معهم كثيرا وإنه كان قاسيا معهم وخفيف الظل في نفس الوقت، بل كان يقذفهم بشتائم من قبيل الدعابة وكانوا يتقبلونها ويهدرون بأصواتهم «Vive L’ Empereur أو يحيا الإمبراطور».

لقد تحصن «ولينغتون» بقواته على المناطق المرتفعة وشدد دفاعاته بشكل دقيق للغاية حتى إنه حصن مزرعة صغيرة على ميمنته حيث كانت المكان الذي أراد أن يوقف أو يثبت فيه تقدم الفرنسيين، وكان الرجل يعرف أن مستقبله السياسي مرهون بهذه المعركة، فانتصاراته السابقة على الجيوش الفرنسية لم تكن في مواجهة مباشرة مع نابليون، وبالتالي فإن الهزيمة هنا معناها بكل تأكيد خسوف سيرته، ومع ذلك تشير كتب التاريخ إلى أن الرجل كان واثقا من نفسه وقليل الحديث ببرود ليس بغريب على الساسة والجنرالات البريطانيين، ولكنه برود يخفي تحته بركانا من التوتر والقلق، فها هو يواجه المعجزة العسكرية الحديثة ممثلة في نابليون.

وقد بدأت بالفعل المعركة الفاصلة في التاريخ الأوروبي في يوم 18 من شهر يونيو 1815، وقد بدأها بونابرت كالمعتاد بقصف مدفعي قوي ظل لمدة ساعات حتى تجف الأرض بعض الشيء، ثم تبع ذلك بهجوم واسع النطاق على ميمنة الجيش البريطاني والذي استبسل في الدفاع عن المزرعة الصغيرة هناك، وقد تتابعت الهجمات الفرنسية على القلب والجناح الأيسر لجيش التحالف، ولكنه ظل صامدا، وحقيقة الأمر أن نابليون لم يقدم جديدا في تحركاته الهجومية واتبع نمطا تقليديا من الهجوم، ولكن ما لم يكن تقليديا هو الجنرال «نيي» الذي قاد هجوما بالفرسان على قلب جيش «ولينغتون» معتقدا أن دفاعاته ضعفت دون أن يدرك أن هذه كانت خدعة «ولينغتون»، فدخل الرجل على مربعات دفاعية للحلفاء وكانت التعليمات بضرب الخيل فلم يحقق سلاح الفرسان الفرنسي الذي هجم في غير مكانه أي هدف تكتيكي، فلقد قلص «نيي» من فرصه الهجومية وخالف التكتيكات الحربية الثابتة لنابليون والتي تدعو دائما لارتباط أي هجوم للفرسان بدعم موازٍ من المشاة للسيطرة الأرضية وتقديم الدعم العسكري، ولكن الجنرال «نيي» أشجع رجاله كان أقلهم ذكاء.

وقد كان هذا الخطأ التكتيكي سببا في تأخر حركة الجيش الفرنسي في القضاء على جيش الحلفاء، فقد خسر نابليون ساعات قيمة في محاولة إعادة تجميع الفرسان وتجهيز المشاة لهجوم شامل بعد أن أضعفت مدفعيته والهجمات المتتالية قوات ولينغتون، خاصة أن الجيش الفرنسي كان أكثر تحمسا وخبرة، وبعد ساعات قليلة من بداية المعركة فوجئ الفرنسيون على بعد بضعة كيلومترات في ميمنتهم بظهور طلائع جيش جديد على الساحة وكان الاعتقاد السائر لدي الجميع هو أن هذا هو جيش «جروشي» بعد أن قضى على فلول الجيش البروسي، ولكن حقيقة الأمر أن «جروشي» كان يطارد هذا الجيش في مكان آخر تماما فقد تاه الرجل تاركا نابليون يواجه جيشين بثلثي قوته، فقد التزم الرجل بنص التعليمات دون أن يدرك أن الجيش البروسي في الطريق للانضمام للمعركة.

عند هذا الحد لجأ نابليون لخيار تكثيف الهجوم والدفع ببعض احتياطاته لمواجهة طلائع الجيش البروسي، على أن يسعى مسرعا لمواجهة جيش «ولينغتون» خاصة أنه بات من الصعب انتظار جيش «جروشي» والذي لم يتلق تعليمات الإمبراطور الجديدة إلا بعد انهزام الجيش الفرنسي، وقد هجم الفرنسيون على قوات الحلفاء على أمل كسره قبيل انضمام ثقل جيش «بلوخر»، ولكن «ولينغتون» جمع تحصيناته الدفاعية بقوة واستطاع أن يصمد حتى أتاه جيش «بلوخر» فانكسر الجيش الفرنسي بعد أن كان النصر في متناول أيديه، واضطر «نابليون» لدفع الحرس الإمبراطوري، أقوى ما يملكه في ترسانته البشرية، ولكن هذه كانت مهمة غير قابلة للتنفيذ، فهزم الحرس الإمبراطوري وفر «نابليون» هاربا تاركا الميدان ومعه كل آماله وطموحات بلاده والتي كسرتها الديكتاتورية وسوء الإدارة والطموح الجارف.

لقد غيرت هذه الحرب وجه التاريخ الأوروبي، فلو أن نابليون كان منتصرا فلا يعلم أحد ما كانت ستؤول إليه الأمور في أوروبا، ولو أن هناك رأيا متوارثا بين كثيرين يشير إلى أن فرنسا كانت قد أنهكتها الحروب وأن أي نصر لها في هذه المعركة ما كان ليضيف شيئا اللهم إلا بقاء نابليون في السلطة وبداية التفاوض على شروط أفضل لفرنسا في «مؤتمر فيينا».

لقد كان الهدوء دائما يخيم على هذه المنطقة الجميلة الخضراء من الريف البلجيكي حيث وقعت المعركة الشهيرة بما يجعلها مكانا جميلا للتأمل، وهي تجربة عشتها مرارا إما بصحبة كتاب حول حياة نابليون أو مجرد تأمل لوحاته بالمتحف أو التفكير في سيرة هذا الرجل وفرنسا بل ونهاية ثورتها لفترة طويلة قادمة، فقد احتل الحلفاء باريس بعد أن كانت هذه المدينة تحكم أغلبية من عواصمهم، وبعد سنوات على آخر مرة زرت فيها هذا الموقع أذكر أن أهم حكمة خرجت بها بعد تأمل الموت والسياسة والطموح في هذا المكان هي أن الوصول للهدف السياسي أسهل بكثير من الحفاظ عليه.

*كاتب مصري