وحدة الدولة

د. محمد عبد الستار البدري

TT

يقول المولى عز وجل: «وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها»، وقد اعتدنا أن ننظر لهذه الآية من المنظور المادي الفردي، وقلما نسعى لتفسيرها من المنظور الجماعي السياسي، ولكن بالفعل هل هناك ما يمكن أن نسميه «نعمة سياسية»؟ واقع الأمر أننا لو أردنا تطبيق هذا المفهوم أي النعمة السياسية على هذا المستوى الجماعي - السياسي فلن نجد نموذجا للنعم السياسية أهم من القومية كأساس تتوحد عليه الدول، بل إن الدول التي عانت من عدم التجانس السياسي والاجتماعي واللغوي ظلت تعاني سرطانا سياسيا أزهق روحها في أغلبية المناسبات عبر التاريخ، فمثل هذه الدول حتما ضد التاريخ وتخالف السنن الاجتماعية وتتناقض مع ناموس التكوين الإنساني.

لقد ورد لي سهم هذا الخاطر أثناء قيامي بتجهيز خريطة لإحدى محاضراتي حول الإمبراطورية النمساوية المجرية Austro-Hungarian Empire قبيل اندلاع الحرب العالمية الأولى في 1914، وبعد تأمل طويل للخريطة هالني ما عكسته من أمراض سياسية واجتماعية لا تخفى على العين المجردة عند النظر إليها والقراءة بشأنها، فهذه الدولة كانت تسيطر على ما نسميه البلقان والنمسا والمجر ومناطق من سويسرا وجمهورية التشيك والسلوفاك إلخ.. فهذه الدولة تضم ما لا يقل عن خمسة عشر عرقا مختلفا، إضافة إلى أقليات دينية تكاد تقارب نفس العدد، وقد كان طبيعيا أن تنهار هذه الدولة بعد الحرب العالمية الأولى لأنها كانت دولة مهلهلة سياسيا واجتماعيا وعرقيا، ولا يوجد رابط حقيقي لشعوبها من الشرق للغرب والعكس صحيح، حتى أن ملكها نفسه كان رجلا عجوزا ظل قابعا في الحكم لعقود طويلة ينتظر الهلاك مثل الدولة التي يحكمها.

ومن هذه الخريطة يمكن للمرء أن يدرك مشكلة الدول التي لا يرتبط نسيج سكانها بقيم مشتركة تولدها القومية أو اللغة أو الدين إلخ.. ومن ثم أهمية إدراك دور القومية والوحدة أو التقارب القيمي بين رعايا الدولة الواحدة كمكون في البناء السياسي السليم لها لأنه الأساس الذي يخلق روح الانتماء لدى مواطنيها ويكاد يكون كالإسمنت في البناء.

ولكن مشكلة الدولة النمساوية المجرية لم تكن فريدة من نوعها بل انعكاسا لتأخر ظهور الفكر القومي في أوروبا، والسبب في ذلك قد يرجع في التقدير لعنصرين أساسيين، الأول انتشار فكرة الحق الإلهي للملوك، والثاني الدور السلبي للكنيسة؛ وتحت وطأة هذين العنصرين تأخر ظهور فكرة القومية على الساحة السياسية الأوروبية.

فيما يتعلق بالعنصر الأول، فإن السلطة المطلقة للإمبراطور جعلته ينظر لمقاطعات الأراضي المختلفة باعتبارها جزءا من سيادته، فالولاء إليه هو أساس الرباط السياسي بلا أي دور لفكرة الهوية أو الدين أو القيمة، فقيمة الهوية غير معني بها هنا حيث تتحول قيمة المقاطعة أو المنطقة إلى جزء من تعداد سكان الدولة وقيمتها المادية، ومن ثم أصبح التجاهل التام للشعور الوطني أمرا تلقائيَا، ولكنه حتما غير دائم.

أما دور السلطة الكنسية ممثلة في البابا فكانت الفرامل الحقيقية لوقف نمو مفهوم الوطنية لأسباب متعددة منها طغيان الفكر المؤسسي المسيحي على الساحة الفكرية الأوروبية لقرون طويلة، فظل هذا الفكر يحارب أسس القومية أو أي هوية أخرى غير المسيحية والتي كان من المفترض أن تكون الشبكة التي تُبنى عليها فكرة الوحدة، فنُظر للفكر الوطني على أنه امتداد للمفهوم الجغرافي الضيق الذي لا يتسق مع فكرة القيم المسيحية الشاملة Universal Christian Values والتي يجب أن تصبح الهيكل الإطاري الروحي وبدرجة أقل الاجتماعي لكل فرد في أوروبا، ناهيك عن كونها الأبقى من وجهة النظر الكنسية، ومن ثم لا يجب أن ينافسها فكر إطاري آخر، وهكذا ظلت القومية أو الفكر الوطني تيارا يترنح تحت وطأة الملك أو الإمبراطور وأطماعهما من ناحية والبابا ومؤسسته من ناحية أخرى.

ولكن بمجرد أن بدأ الضعف يضرب مؤسستي الكنيسة والإمبراطورية بدأت تيارات القومية تظهر اعتبارا من القرن السادس عشر، ولعل المفكر المعروف «ماكيافيلي» كان يمثل بداية تجسيد هذا التيار القوي، فما لا يعرفه كثيرون أن السياسة الوصولية التي وضعها هذا المفكر السياسي كانت بمثابة الوصفة السياسية للقائد الإيطالي الذي سيرمى على عاتقه توحيد المقاطعات الإيطالية بعد أن تحولت من إمبراطورية رومانية عظمى إلى دويلات مفتتة، ومن ثم كان مبرره هو أن القيمة الجماعية تسمو على القيمة الفردية وتعلو عليها، وفي سبيل تحقيق القيم المشتركة الجماعية ممثلة في القومية فإن الحاكم يمكن أن يلجأ لما يحتاج إليه لتحقيق ذلك.

وسرعان ما انتشر تيار الفكر الوطني في أوروبا كالنار في الهشيم خاصة في المقاطعات الألمانية بعدما تفتتت الوحدة المسيحية بظهور الحركات الإصلاحية المعارضة وانتشار عملية الإصلاح الديني، فدخلت أوروبا في حرب ضروس للقضاء على قبضة الإمبراطور والكنيسة، وكان مركز هذه الحرب في المقاطعات الألمانية الموجودة تحت سيطرة الإمبراطورية الرومانية المقدسة، وهو فكر امتد لقرون حتى توج بإعلان توحيد ألمانيا على أيدي بسمارك في 1871، فكل إمارة أو إقليم أو حتى دولة في أوروبا كانت تواقة للاستقلال على أساس قيم سياسية ووطنية وعرقية تربط أفرادها بعضهم ببعض بعلاقة مباشرة دون أن تمر من خلال الولاء للملك أو حاكم أو سلطة دينية.

ولعل أحد الأسباب الأساسية التي أدت إلى انهيار النظام الأوروبي ودخوله الحرب العالمية الأولي ومن بعدها الحرب العالمية الثانية أن الساسة الأوروبيين لم يدركوا قيمة وعمق الفكر القومي داخل أوروبا، فلقد أدت التسوية السياسية بعد الحرب العالمية الأولى إلى اندلاع الفوضى في القارة بسبب تغافل البعد القومي وتغليب عناصر سياسة التوازنات البائدة على الأوضاع الجديدة، ففكرة دمج دول البلقان في دولة واحدة هي يوغوسلافيا فشلت بعد عقود لغياب التجانس القومي، كما أن دمج المقاطعات في شرق أوروبا في دول بعينها أدى لنفس المشكلة فيما بعد وانفصال التشيك، إضافة إلى أن تفتيت مقاطعات ألمانية وضمها لدول أخرى فيما عرف «بالممر البولندي» كلها نماذج ساذجة لغياب الرؤية الصحيحة، وبالتالي دفعت أوروبا الثمن غاليا فيما بعد من خلال حرب عالمية ثانية كانت أكثر دمارا على كل القارة، ولعل نموذج الاتحاد الأوروبي فيما بعد يعتبر استيعابا سليما لدرس تفعيل القومية في الطريق السليم، فاليوم الدول الأوروبية تندمج في أكبر مشروع تكاملي عرفته الإنسانية والذي بُني على مفهوم قومي أيضا ترجع خلفيته إلى أكثر من اثني عشر قرنا من الزمان.

إن الشعور الوطني يمثل شعلة طاقة متعددة المنفعة يدرك قيمتها الساسة المستنيرون ويجهلها أو يحاربها ذوو الأنظار السياسية القصيرة، فالوطنية نعمة المولى على الدول يجب أن تدركها الشعوب وقياداتها، فالقومية تاج على رأس شعوبها كثيرا ما لا يراه إلا فاقدو هذه النعمة.

* كاتب مصري