دمعة في نهر دجلة

د. محمد عبد الستار البدري

TT

لقد عرفت العراق وأهله منذ أن كنت صبيا ثم طالبا ثم قارئا في التاريخ، ولكن لم تسنح لي الفرصة أبدا أن أزور هذا البلد العربي إلى أن شاءت الأقدار السعيدة أن أزوره خلال الأسابيع القليلة الماضية، ولقد ذهبت إلى هناك حاملا معي التاريخ وصفحاته، الفكر وأدواته، الدين ومشتقاته، فأنا كنت مثالا لشخص جهل العراق ولكنه عرف تاريخه وشعبه، وهذه سمة من لم يزر دولة محورية قرأ عنها كثيرا.

وبعد هبوط الطائرة وأنا في طريقي إلى بلد الرشيد وبالأخص عند عبور نهر دجلة العريق، وجدتني أتصارع مع نفسي لأكتم مشاعري، فدموعي عصت جفوني وانزلقت عابرة إياها، ولكنني تمالكت نفسي على الفور أمام الزملاء والأصدقاء، فلم يكن هذا بسبب ما رأيته من صغر عرض هذا النهر والذي مثل ضيقا عكسته مواقف عصيبة مرت بها دولة تاريخية قلما تجد مثلها في عمق تاريخها وثروة فكرها، فهذا النهر الشهير جسد لي آلاف السنوات من تاريخ العراق في هذه اللحظة، كما مثل لي وقفة تاريخية حادة وجادة في الوقت نفسه، ففي هذه اللحظة تداخلت محطات التاريخ بكل قوة لتزج بي في حالة من الانفعال التاريخي، إنها لحظة غريبة لم أشعر بزمنها وأنا أرى نهر دجلة يجسد التاريخ ويحكي قصة شعب، ولم أندم على شيء وأنا هناك سوى أن الفرصة لم تسنح لي لأرى توءمه نهر الفرات، فها هو نهر دجلة الذي عشت في صباي أعرفه من شوارع وميادين القاهرة قبل أن أقرأ عنه في كتب التاريخ وأستذكره في كتب الجغرافيا، ها هو النهر العظيم الذي شهد حلقات ممتدة من تاريخ هذا الشعب العريق.

لو عرفت القيمة التاريخية لهذا البلد العريق لأدرك الإنسان معنى العبور عبر أراضيه والنظر للتاريخ يتدلى منه، وأعتقد أن شريط الذكريات التاريخية بدأ يمر في ذهني في عجالة كأنه حلم بوقفات مختلفة، وسأسعى لأشرك القارئ العزيز فيها من خلال المحطات التاريخية التالية:

المحطة الأولى التي عبرت أمام ذهني كانت ممثلة في حضارة الرافدين، والتي تتزامن مع حضارة مصر، وعند هذا الحد تذكرت على الفور أول رواية قرأتها في مادة التاريخ القديم بالجامعة وهي «قصة جلجامش» والتي تعد أول رواية عرفها الإنسان وتحكي قصة خيالية لبطل قديم في صراعه مع البشر والآلهة، وعلى الفور تذكرت حضارة بابل الشهيرة والتي مثلت ركنا مهما من أركان الحضارة في العالم، ثم تذكرت بعدها الحضارة الآشورية وما لها من نفوذ عظيم وإشعاع حضاري وثقافي أثر على الجميع بما في ذلك الإسكندر الأكبر والذي تأثر حتى بملابسهم في نهاية عهده، ففي هذه الأرض الطيبة نبتت حضارات محورية.

المحطة الثانية والتي توقفت عندها كانت الدور المهم الذي لعبه العراق قبيل الفتح الإسلامي عندما خضع المناذرة أو اللخميين للنفوذ الفارسي كمنطقة عازلة بينهم وبين دولة بيزنطة وقبائل الغساسنة، وهو ما استمر حتى جاء قرار الخليفة أبو بكر الصديق بتوجيه بالسماح للمثنى بن حارثة بمناوشة الفرس ثم أمره بالانضمام لجيش خالد بن الوليد لإخضاع فارس، فكان جيش العراق أكبر دعم لجيش الإسلام، ثم تذكرت عددا من المعارك التي خاضها سيف الله المسلول من كاظمة إلى ذات السلاسل إلى نهر الدم وكيف أن سعدا بن أبي وقاص حسم سقوط دولة فارس انطلاقا من قاعدة العراق وبدعم من الشعب العراقي.

المحطة الثالثة كانت انتقال الثقل السياسي لدولة الإسلام مرتين إلى العراق؛ المرة الأولى من المدينة المنورة إلى الكوفة بالعراق في عهد الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، حيث كان يتجمع أنصاره إلى أن خر فيها شهيدا، ثم انتقلت الدولة الإسلامية إلى العراق مرة أخرى مع سقوط الدولة الأموية ومبايعة أبو العباس أول خليفة للدولة العباسية بها في 132 هجرية، وبهذا انتقل مركز الدولة الإسلامية من الشام إلى العراق والذي ظل مسيطرا على مقاليد الدولة الإسلامية لقرون ممتدة حتى أخذت مصر شرف الريادة السياسية باستضافة مركز الثقل الإسلامي إليها على مراحل مختلفة.

المحطة الرابعة كانت ذكريات كتبت عن المرارة التي تجرعها هذا الشعب العريق وألوان العذاب التي ابتلي بها على أيدي طغاة مختلفين سواء من بني أمية أو حتى من بني العباس أو غيرهما، فليس أقل من أن يرد ذكر زياد بن أبيه والذي أعتقد أنه كان أول من طبق حظر التجوال الليلي في مدن العراق لحماية ملك أخيه معاوية بن أبي سفيان، ويحكى أن أحد الرعية نام فأيقظه جنود زياد أثناء الحظر فحملوه له، وأمامه شرح الرجل أمره وأنه قد غلبه النوم، وبعد أن صدقه زياد أمر بقتله قائلا أنه يرى «في قتله إصلاحا للرعية»!، وحقيقة الأمر أن هذا الشعب عانى من ظلمات كسرى، ومن بعده بنو أمية، ثم بنو العباس، حتى عصرنا هذا وهو ما لا يمكن أن تنساه ذاكرتنا الحية، وكأن المعاناة كتبت على هذا الشعب العريق.

المحطة الخامسة كانت مرتبطة بدوره الثوري في مواجهة الدولة الأموية، فلقد لعب العراقيون دورا محوريا في إضعاف الدولة الأموية بما مهد لميلاد الدولة العباسية، وكما قال لي أحد السياسيين العراقيين فإن العراق إبان الحكم الأموي وقبيله مباشرة مثل الفكر الثوري في الإسلام، وأيا كان التقييم أو التقدير لهذا الأمر، فإنه مما لا شك فيه أن مدن العراق مثلت مراكز لرفض الدولة الأموية والتي اعتبرها الكثير مغتصبة للسلطة.

المحطة السادسة تمثلت فيما رأيته في بعض جوانب الحياة من خراب ناشئ عن حرب ضروس ومن قبلها حصار مرير، ففي كل مكان لا يخلو ركن في ميدان إلا وكان قد شهد قتيلا أو شهيدا، ولكن الجلد موجود في هذا الشعب على مدار السنين، فالغزو ليس بالأمر الجديد عليه فهو الشعب الذي واجه المغول بقسوتهم وخرابهم ودمارهم، فليس أبشع من هذا الغزو الهمجي الذي تحمله هذا الشعب القوى والذي يعد أسوأ بكثير من الغزو النازي، ومع ذلك فهذا الشعب وقف وأعاد بناء حضارته في كل مرة.

المحطة الأخيرة شعرت بها والطائرة تقلع غربا صوب القاهرة، فحتى هذه الصحراء الجرداء، التي تمتد بين حضارة الرافدين والنيل، كانت مسرحا لواحدة من أندر المناورات والحركات العسكرية في التاريخ، فعندما أتى لخالد بن الوليد قرار الخليفة بالانضمام إلى جيش الشام لمواجهة الروم، عبر خالد هذه الصحراء بكل قوة وهو غير مجهز وليس معه إلا بطون البعير والقرب ليخزن فيها مياهه، وبهذه المغامرة المهمة استطاع سيف الله أن يمر من العراق للشام ليمد جيش الإسلام بالعون عبر صحراء العراق.

عندما ننظر للعراق فإننا نكون أمام حضارة ممتدة وقيمة تاريخية عريقة، إننا أمام دولة تفاعلت مع العظمة عبر التاريخ كما تعايشت مع الضربات والصدمات الواحدة تلو الأخرى في تسلسل يكاد يكون ممتدا، ولكن في طريق الاستقرار يظل للشوط بقية، ويظل للتاريخ في هذه الدولة عبرة نعتبر بها جميعا، كما أن لنا في العراق مكانة يشعر بها كل قلب عربي خفاق.

* كاتب مصري