تجربتان دينيتان مختلفتان

د. محمد عبد الستار البدري

TT

هناك قاعدة فكرية خاطئة ينطلق منها الكثير في توصيف التجربة السياسية لكل من الإسلام والمسيحية، فتصبح بعد فترة سببا مباشرا في إذكاء سوء الفهم بين حضارتين، وهذه القاعدة الخاطئة مرتبطة بالقياس الخاطئ لكل طرف على التجربة التاريخية والسياسية لدين الآخر، أي أن كل طرف يسعى لقياس تجربة دور الدين في الحضارة الأخرى من خلال منظوره الضيق لتجربة دينه التاريخية، وقد تجسد هذا خلال مناسبات كثيرة التقيت فيها بمفكرين وسياسيين غربيين يسعون لفهم التجربة السياسية الإسلامية من خلال القياس على التجربة المسيحية في السياسة الأوروبية باعتبار أن الاثنين دينان وأثرهما شبه موحد على السياسة، بالتالي يمكن القياس على تجربتهما.

حقيقة الأمر أن التجربة السياسية والتاريخية والمؤسسية لكل من المسيحية والإسلام السني تختلفان تمام الاختلاف، ولا وجه للمقارنة بينهما على الرغم من أن حيز التقارب والاقتراب بين هذين الدينين السماويين أكبر بكثير من قاعدة اختلاف المسيرة التاريخية والسياسية بينهما، وفي التقدير أن السبب الأساسي لاختلاف التجربتين يمكن أن نورده في النقاط التالية:

أولا: إن انتشار الديانتين في مجمله لم يختلف على عكس ما يتصوره الكثير، فالسؤال الذي ينتشر دائما ويخسره أغلبية المسلمين في الإجابة عنه هو «هل انتشر الإسلام بحد السيف؟»، وفي التقدير أن هذا سؤال فاسد لا محالة يخلط ما بين عملية سياسية طبيعية وأخرى روحية مختلفة، فالدولة تنتشر بحد السيوف وهذه سنة الحياة والتاريخ ولا مجال للخلاف عليها، كما أنها أمر محسوم وقطعي، فما من دولة عظمى انتشرت إلا وكان السيف وسيلتها الأولى والثانية، والنماذج متعددة في الإمبراطوريات الهيلينية والرومانية والرومانية المقدسة والإمبراطورية الإسبانية والدولة الأميركية والاتحاد السوفياتي، والسمة المشتركة بينهم جميعا هي حيازة الأرض بالقوة، والدولة الإسلامية شأنها شأن الدول الأخرى توسعت بقوة السلاح.

وقد كان في طيات هذه الدولة العقيدة الإسلامية بطبيعة الحال والتي كانت شرعيتها، وبالتالي فإن نشر الدعوة كان ضمن أهدافها بطبيعة الحال، ولكن طبيعة التكوين السياسي الإسلامي وفق سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت تفتح المجال أمام الخيار استنادا إلى الآية الكريمة «لا إكراه في الدين»، و«من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر»، بالتالي فإن بقاء رعية على غير الدين الإسلامي كان أمرا طبيعيا لوجود ما يسمى بسياسة التسامح Tolerance، وبالتأكيد هذه ليست دعوة لكي نحاول إخفاء حالات فرض فيها على الرعية غير المسلمين من خلال التضييق عليهم اعتناق الإسلام، ولكنها لم تكن القاعدة، وهذه الحقيقة غائبة عن الكثير، فالدولة تكبر بالقوة والدين يكبر بالاعتناق، والمساران غير متلامسين إلا في محطات قليلة.

ومن هذا المنطلق كان الكثير من الغربيين يخلطون بين الدين والسياسة في الدولة الإسلامية قياسا على أن التجربة المسيحية والتي لم ترتبط بالدولة عند انتشارها، فالمسيحية لم تنتشر في أوروبا بالتعاون مع الدولة الرومانية إلا في مرحلة لاحقة بعد منتصف القرن الرابع الميلادي، فقد انتشرت المسيحية تدريجيا على مدار قرون ثلاثة من خلال جهد المؤسسة الدينية ممثلة في الكنيسة.

ثانيا: هناك اختلاف واضح في فكرة المؤسسة الدينية لدى كل دين، ففي الدولة الإسلامية السنية كانت مؤسساتها الدينية في مجملها محدودة القوة واتبعت في أغلبية المناسبات توجها معتدلا يتناسب وفكرة عدم الخروج على الشرعية، وقد ساهم في ذلك حقيقة أن الإسلام السني لم يكن لديه مؤسسة دينية بالمعنى المفهوم لدى الغرب والمتمثل في الكنيسة، فطبقة العلماء في الإسلام تختلف اختلافا جذريا عن الهياكل الكنسية في التجربة الغربية، إضافة إلى أن سلطتها ترتكز على التفسير والفتوى، بينما تذهب الكنيسة لما هو أبعد من ذلك وتستطيع الحرمان في الدنيا والآخرة وفقا للعقيدة، من ثم كانت قوتها أكبر بكثير على الرعية.

ثالثا: إن عملية تزاوج المؤسسة الدينية بالسياسية في التجربتين تختلف تماما، ففي الإسلام السني ظهرت طبقة العلماء وكانت طرفا في الدولة ولكنها لم تكن الطرف الأقوى في المعادلة السنية، بينما جاءت عملية التزاوج بين الدولة والمؤسسة الدينية المسيحية في أوروبا بأسرع مما كان متوقعا، فبعد إعلان الإمبراطور ثيودوسيوس المسيحية ديانة رسمية في البلاد فإن سقوط الإمبراطورية الرومانية جعل الكنيسة في حالة ترمل واضحة وعرضها لهجمات القبائل الجيرمانية وغيرها، ولكن عقب معركة «بواتييه» أو «بلاط الشهداء» على أيدي الإمبراطورية الكارولينجية Carolingian Empire التي أصبحت القوة المركزية الجديدة في أوروبا، سعى البابا لعقد الزواج بين المؤسسة القوية الناشئة من ناحية، وكنيسته من ناحية أخرى من خلال إطلاق لفظ «الإمبراطور الروماني المقدس» على الإمبراطور الجديد «شارلمان». وأذكر أن أحد المؤرخين وصف هذه الإمبراطورية بأنها لم تكن لا إمبراطورية ولا رومانية ولا مقدسة، ولكن المؤسستين سعتا لتوحيد الهدف السياسي والديني في القارة الأوروبية من خلال نشر فكرة «إله واحد - إمبراطور واحد»، وهو ما كان له أسوأ الأثر في التاريخ الأوروبي وجر القارة الأوروبية إلى قرون من التخلف واحتكار المعرفة والسلطة، وفساد المؤسستين العلمانية والدينية على حد سواء، ومن ثم كان متوقعا أن تظهر عمليات التطهير الذاتية ممثلة في الحركات الرافضة للكبت الديني والفكري والسياسي.

وإذا ما نظرنا للتجربة الإسلامية، فإننا لن نجد هذا التزاوج إما لأسباب تتعلق بعدم وجود سلطة دينية بالمعنى المفهوم سابقا، وإما لتفتت السلطة الدينية، وبالتالي فإن ديناميكية العلاقة بين الدولة والدين في التجربتين تختلف تمام الاختلاف، ولا مجال للنظر في الأرضية الضعيفة المشتركة في هذا المجال.

رابعا: إن فكرة العلمانية كانت الدواء المطروح من قبل الساسة والمفكرين الغربيين لداء ممتد عبر قرون متمثل في فساد المؤسسة الدينية المسيحية وتسلطها على المواطن والدولة، وهو ما لم يكن الحال بالنسبة لتجربة الإسلام السني، فلم يكن هناك تسلط لعدم وجود سلطة دينية بالمعنى المفهوم، بالتالي فإن دواء البعض ليس مجديا لعدم وجود الداء من الأساس، وهي مشكلة يتعثر عندها الكثير من المفكرين الغربيين، والذين يسعون للتغلب على هذه النقطة من خلال طرح فكرة الحركات الدينية المتشددة، ولكننا لو حللناها فسنجد أنها لا تمثل مؤسسية عريضة بل حركة، والحركات المتطرفة شهدتها المسيحية مثل الإسلام، ولكن المؤسسية اختلفت في ما بينهم.

لقد كانت هذه مجرد خواطر أردت من خلالها دحض فكرة السعي لوضع عموميات لفرض تطابق بين التجربتين المسيحية في أوروبا والإسلام السني في العالم العربي، فالاختلافات واضحة والتجربة متباينة، ولعل هذا قد يكون أحد منابع سوء الفهم بين الغرب والعالم العربي في كثير من الأحيان.

* كاتب مصري