قيمة الدبلوماسية

د. محمد عبد الستار البدري

TT

لا أجد مناصا من الإشارة مرة أخرى لكتاب «السياسية بين الدول» لمؤسس علم السياسة والعلاقات الدولية «هانس مورجنثاو» الذي خصص جزءا كبيرا لتشريح تركيبة القوة لدى الدولة، فجاء الجهاز الدبلوماسي كعنصر له وزنه في هذه التركيبة، وكانت فلسفته هي أن هذا الجهاز لو كان قويا متميزا فإنه يمنح الدولة قيمة مضافة قد لا تتناسب بالضرورة وإمكاناتها الحقيقة المبنية على الميزان العسكري والاقتصادي الخ..، كما رأى أن جهاز الدبلوماسية في الدولة قد يستطيع أن يساهم في حسم مشكلات كثيرة ويأخذ المبادرات التي قد لا تستطيع عناصر القوة الأخرى تحقيقها، ناهيك عما يمثله هذا الجهاز من مدرسة سياسية قوية بحكم الخبرة والقدرة على التفاعل مع العالم الخارجي، بما يساهم في إخراج كوادر من رجال الدولة لهم تميز خاص ورؤية واسعة.

حقيقة الأمر أن الدبلوماسية أحد الأجهزة الهامة في الدولة وغالبا ما تحظى بأهمية خاصة في هيكل السلطة التنفيذية للبلاد لدي دول كثيرة، بل إن البعض قد يضعها في مقدمة هذه الأجهزة مثل النظام الأميركي والذي يجعل وزير الخارجية ترتيبه الثالث بعد الرئيس ونائب الرئيس، وهذا ليس بجديد، فكثير من الدول مثل بريطانيا يشير تاريخها إلى أن سفراءها في الخارج كانوا يتمتعون بصلاحيات واسعة النطاق فكان سفيرهم في الأستانة على سبيل المثال يعطي التعليمات لقائد الأسطول البريطاني إبان الأزمة مع مصر ومحمد علي في 1840، وإلى هذا الحد مُنح جهاز الدبلوماسية صلاحيات ومواقع متقدمة عند البعض.

إننا لسنا هنا بصدد رصد هذا النمط من القوة التي تمثلها الدبلوماسية والتي هي أمر واقع، ولكننا بصدد تقديم نماذج تاريخية تعضد من الاعتقاد العام بأن الجهاز الدبلوماسي للدولة عنصر هام في معادلة قوتها، وهي الأمثلة التالية:

أولا: المثال الذي يحضرني على الفور هو للدبلوماسي «مترنيخ» والذي يعد أيقونة الدبلوماسية الدولية في النصف الأول من القرن التاسع عشر، فلقد كان دبلوماسيا متمرسا للدولة النمساوية - المجرية، وهي الدولة التي كانت تعاني معاناة شديدة لكونها واقعة بين فرنسا الثورية وروسيا الجامحة، وقد لعب دورا متميزا في جعل فيينا العاصمة الدبلوماسية لأوروبا كلها من خلال مؤتمر فيينا الشهير الذي أعاد ترسيم الحدود والسياسة في أوروبا بعد الحروب النابوليونية، ومن بعدها أصبحت فيينا هي مركز السياسية الدولية وسيدة المسرح الأوروبي، فمترنيخ هو الذي أدخل لأول مرة في تاريخ السياسة الأوروبية فكرة الأمن الجماعي من خلال منظومة عرفت فيما بعد بـ«نظام الكونغرس Congress System» عندما جمع العمل الدولي من خلال المؤتمرات المتعاقبة لحل المشكلات السياسية في القارة الأوروبية، وهكذا استطاع هذا الرجل من خلال الدبلوماسية وجهازها أن يُعلي من الشأن النمساوي علما بأن بلاده لم تكن أقوى الدول على الإطلاق، ويضاف إلى ذلك أنه استطاع بحنكة كبيرة أن يسخر العمل الأوروبي لصالح قضايا بلاده الداخلية حيث كانت تمثل أكبر قوة محافظة في القارة الأوروبية تحارب كافة الأفكار الثورية التي كانت فرنسا تصدرها.

ثانيا: لعل المثال الذي يحضرني والقريب لأذهان كل مسلم هو مثال معركة «صفين» بين الإمام على بن أبي طالب كرم الله وجهه ومعاوية بن أبي سفيان، فتشير أغلبية من مصادر التاريخ أن جيش الشام لمعاوية كان قاب قوسين أو أدنى من الهزيمة، وحقيقة الأمر أن الإمام علي كرم الله وجهه انتصر سياسيا ولكنه هُزم دبلوماسيا على أيدي داهيتين من العرب هما عمرو بن العاص ومعاوية بن أبي سفيان، فالناظر إلى هذا الصراع سيجد أنه بدأ بمحاولات لرأب الصدع المتولد عن رفض معاوية البيعة للإمام علي، فكان الصدام بينهما والذي عكس نهاية للحوار وفرص لم الشمل، ووفقا للمصادر التاريخية المختلفة فعندما شعر معاوية وعمرو بالهزيمة أو قربها أو حتى الضعف النسبي لقوتهما مقارنة بقوة جيش الإمام علي كرم الله وجهه، سعى الاثنان لنقل الصراع من حالته العدائية لمحاولة تغيير الدفة نحو المنطقة التي لديهما فيها قدرة تنافسية أعلى، وهي الدبلوماسية وأحد مشتقاتها أي التحكيم، فكانت فكرة رفع المصاحف على أسنة الرماح لنقل الصراع من الميدان العسكري حيث قوة الإمام علي إلى منضدة المفاوضات والتي غالبا ما لا يصل إليها المتصارعون إلا بعد استسلام أحد الأطراف أو الوصول إلى طريق مسدود في الحرب، ولكن ما حدث هو أن الطرف الأضعف هو الذي فرض مسار العلاقة وغير نمطها من الحرب إلى التفاوض، والأغرب من ذلك هو انتصار الفئة الأضعف عسكريا في المعركة الدبلوماسية، فالأضعف عسكريا أصبح المنتصر سياسيا وذلك بفضل الدبلوماسية.

ثالثا: يحضرني أيضا مثال السياسي والألماني «جوستاف شترسمان» الذي كان وزيرا للخارجية الألمانية في أحلك ظروفها التاريخية بعد هزيمتها في الحرب العالمية الأولى، فبعد الهزيمة فرضت فرنسا وبدرجة أقل بريطانيا شروطا مجحفة على ألمانيا كان من نتائجها تحميل ألمانيا مسؤولية اندلاع الحرب، ومن ثم تكبيلها بتعويضات الحرب التي كسرت اقتصادها، إضافة إلى التسويات الحدودية التي لا تأتي على هوى المهزومين، كما أسفرت الشروط عن ضياع مقاطعتي «الألزاس واللورين» وإعادة احتلال منطقة الراين ونزع السلاح الألماني باستثناء مائة ألف جندي وبضعة سفن الخ..

عندما تولى «شتريسمان» قيادة الجهاز الدبلوماسي الألماني كان للرجل استراتيجية واضحة وهي تفكيك معاهدة فيرساي وقيودها على بلاده ولكن بشكل «دبلوماسي» أي دون استثارة الدول الأوروبية ضد بلاده، فميزان القوة ليس في صالحه ودولته مهزومة، كما أن وضع بلاده لا يسمح له بهامش مناورة واسع، ومع ذلك فقد استطاع الرجل من خلال الظروف المحيطة به أن يقوم بمجموعة من التحركات خاصة مع فرنسا مستخدما التعاطف البريطاني معه ليناور بحنكة شديدة وحسابات دقيقة، وبالفعل أتت دبلوماسيته الهادئة بنتائج هامة منها تخفيف كاهل التعويضات المفروضة على بلاده، كما سوى مشكلات الحدود مع نظيره الفرنسي «أرستيد برياند» بالتعاون مع الدول وبريطانيا فيما عرف باتفاقية «لوكارنو» والتي نظمت الحدود في غرب أوروبا، ولكن الرجل برؤيته الثاقبة رفض تسوية الحدود الشرقية لبلاده والتي لم ير لها ضرورة حيث كانت ألمانيا تسعى لاستعادة حقوق بلادها فيها ولم شمل الشعوب التي تتكلم الألمانية تحت جناحها كما كان قبل الحرب العالمية الأولى، وقد حصل «شتراسمن» على جائزة نوبل للسلام، كما حصل على تقدير واحترام بلاده لأنه استطاع بقوة نسبية ضعيفة جدا أن يحسم الأمور لصالح بلاده فيحصل على مكاسب هامة تفوق بكثير الواقع المحدود لقوة بلاده وذلك من خلال كفاءة الآلة الدبلوماسية الألمانية من ناحية ومن خلال جمع المساندة الدولية من ناحية أخرى.

هذه كانت مجرد نماذج تعكس بوضوح أهمية الجهاز الدبلوماسي للدول، وهو ما لفت انتباه الفيلسوف الألماني الشهير «فون كلوزويتز» والذي ترن عبارته الشهيرة في أروقة السياسة الدولية عندما قال «إن الحرب هي امتداد للسياسة بطرق أخرى»، أي إن العلاقات بين الدول يتم تسييرها بالطرق السياسية وإن الاستثناء هو اللجوء للحرب والتي تعد وسيلة من وسائل التعامل مع الدول الأخرى، وبالتالي يكون جهاز الدبلوماسية لدى الدولة أحد مرتكزات قوتها، وهو ما يدفعنا لمحاولة صياغة حكمة تدعو إلى أن الدبلوماسية المتمكنة قد تكون أقوى من ألف مدفع ومليارات الدولارات.