الديمقراطيات أكثر خلقا وسلما

د. محمد عبد الستار البدري

TT

تظل الديمقراطية أحد أعظم الاختراعات الإنسانية لتسيير نظم الحكم، وذلك على الرغم من مقولة الزعيم البريطاني الشهير ونستون تشرشل الشهيرة بأنه «يقال إن الديمقراطية هي أسوأ أنواع الحكم، إلا أن جميع أنظمة الحكم الأخرى قمنا بتجربتها». ولو أمعنا النظر في هذه المقولة، سنجد أن الرجل لديه محاذير على الديمقراطية، ولكنها بالنسبة له أفضل ما هو مطروح في العالم، وهو رأي يشاركه فيه آخرون والذين لا يعرفون نظما سياسية أفضل، وبعض هؤلاء المفكرين لديهم رؤية واضحة للمشكلات المتعلقة بتطبيقات الديمقراطية، ولكنهم غير قادرين على إيجاد وسائل العلاج التي تحمي المجتمعات من بعض ردود الفعل السلبية لتطبيقات الديمقراطية؛ فهي أفضل المتاح.

ولكن على النقيض، هناك من يعتقدون أن الديمقراطية هي الخيار الأمثل بذاته ولا يحتاج لتعديلات أو تطوير، ومن أبرز أصحاب هذا التوجه الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط في القرن الثامن عشر، الذي كان يري النظم الليبرالية أسمي ما يمكن الوصول إليه، وكان من رأيه أيضا أن هذه النظم هي التي تجنح في سياساتها الخارجية نحو السلم، وأنها أقل توجها نحو الحرب أو العدوان بحكم رفض الشعوب الحروب لأنها تدفع الأثمان. وعلى الرغم من القيمة العظيمة لفكر كانط، فإن هذا التوجه انحدر تدريجيا، فربط العنف الخارجي بنظم الحكم الداخلية لم يأخذ حيزا ملحوظا في الشارع الفلسفي الغربي، ولكن هذا الخيط تم التقاطه بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وبدأت سكرات الانتصار الغربي تؤثر على التوجهات الفكرية خاصة في عهد إدارة الرئيس الأميركي جورج بوش الابن.

لقد ترأس هذا التيار المفكر وعالم السياسة الأميركي مايكل دويل الذي بدأ مسعاه للربط بين الديمقراطية من ناحية؛ والحرب والسلام من ناحية أخرى. وسرعان ما انتشر هذا التوجه بقوة في الأروقة الفكرية الدولية، وأذكر أنني استمعت لإحدى محاضرات دويل التي طرح فيها بوضوح رسالته التي كررها حتى قبيل انتهاء الحرب الباردة ولكنها لم تجد الصدى المناسب حينئذ؛ وهي أن «الديمقراطيات لا يحارب بعضها بعضا».

هكذا بوضوح تقدم الرجل بفكرة شغلت المناقشات الأكاديمية والفكرية والسياسية على مستوى العالم اعتبارا من منتصف تسعينات القرن الماضي، خاصة أن دويل كان يمثل تيار «الليبرالية الجديدة (Neo-liberalism)»، والذي كان يرى في الديمقراطية واقتصادات السوق الحر والمنظمات الدولية عند تمكينها، وسائل مهمة لحفظ السلم ومنع نشوب الحروب. وسرعان ما بدأت كتابات شخص مثل توماس فريدمان تعمل على مد هذا الفكر لمناحٍ أخرى بمقولته الشهيرة إن «الدول التي لديها (ماكدونالد) لا تريد أن يحارب بعضها بعضا». وخلاصة القول؛ «كلما أصبحت ديمقراطيا، أصبحت أكثر سلما، وكلما أصبحت ليبراليا، صرت أكثر احتراما للدول الأخرى وحقوقها». وبالتالي، أصبحت الليبرالية حلا مهمًّا لكل مشكلات السياسة الخارجية، ثم سرعان ما حدث التزاوج التقليدي بين الفكر والسياسية، فاحتضنت الإدارة الأميركية نفسها هذا التوجه وبدأت تبشر به للترويج لسياستها الخارجية. واقع الأمر أن هذا التوجه وجد معارضة شديدة للغاية داخل المجتمع الفكري والأكاديمي الأميركي، الذي سرعان ما جاء رده على هذا الطرح بقوة في محاولة لإفاقة الشعوب والساسة من السحر غير الدقيق لهذا الربط غير الواقعي بين الديمقراطية والسلام، وكان على رأس هذا التيار مفكرون طرحوا فكرهم في النقاط التالية:

أولا: السياسة الخارجية تبنى على مفاهيم المصالح، ومن ثم، فنظم الحكم الداخلي قد تخضع للمعايير الأخلاقية، ولكن سياستها الخارجية لا تبنى على هذه المصالح، من ثم، تصبح أطروحة أن النظم الليبرالية أكثر ميلا للسلم لا مبرر لها، فالنظام الداخلي لا يفرض نهج أساليب مختلفة لتحقيق المصلحة شأنه شأن النظم الشمولية؛ بل إن العكس قد يكون صحيحا، فتجد نظما شمولية تقف بجوار الدول التي تعاني من جبروت النظم الديمقراطية مثلما حدث في مراحل التحرر الاستعماري.

ثانيا: مقولة أن الديمقراطيات لا يحارب بعضها بعضا أطروحة غير دقيقة في العلاقات الدولية وتحتاج لإعادة صياغة من جديد، وقد تصدى لها أمثال كينيث والتز وفند عناصر هذه الفكرة تماما، مقدما حالات تعدت فيها دول ديمقراطية على دول غير ديمقراطية، وعلى رأسها حادثة «الروهر» عندما احتلت فرنسا وبلجيكا ألمانيا الديمقراطية التي كانت تسمي في ذلك الوقت جمهورية «الفيمار» عام 1923، كما استعرض حالات وصفها بالـ«Near Misses» أو التي قاربت أن تتحول إلى حروب بين ديمقراطيات ولكن تم تفاديها في آخر لحظة، ومن هذه الحالات على سبيل المثال «أزمة ترنّت» عندما كادت بريطانيا والولايات المتحدة أن تدخلا في حرب بسبب احتجاز وتفتيش سفينة بريطانية في كوبا عام 1861 أثناء الحرب الأهلية الأميركية، وقد اضطرت الولايات المتحدة لتقديم ما وُصف بالاعتذار بعد تهديدات لندن باللجوء للحرب، ثم كانت الحادثة الأخرى بين بريطانيا والولايات المتحدة بسبب تطبيق «مبدأ مونرو» عندما قاومت الولايات المتحدة مسعى بريطانيا لفرض ترسيم حدود على فنزويلا، وهو ما وصل لحد تهديد الرئيس الأميركي صراحة بريطانيا «باستخدام كل الوسائل المتاحة لمنع التدخل البريطاني في ترسيم الحدود»، لأنه يخالف «مبدأ مونرو» الأميركي الشهير الذي يحظر التدخلات الأجنبية في شأن أميركيا اللاتينية. ويضاف إلى هذه الحالات أزمة معروفة في التاريخ الحديث بحادثة «فاشودة» في 1898 عندما كادت جيوش فرنسا وبريطانيا - وهما الدولتان الديمقراطيتان – أن تدخلا في حرب شرق أفريقيا لأسباب تتعلق بالمطامع الاستعمارية للدولتين.

ثالثا: كثير من الحالات يعكس وجود رأي عام داخلي في الديمقراطيات يكون غير مسالم على الإطلاق، وبدلا من أن يكون مساندا للسلم وفقا لأطروحات «كانط»، فإنه قد يكون عكس ذلك، وليس أدل على هذا من مواقف الرأي العام الداخلي في الحالات السابقة، وقد أرجع كثير من المفكرين السياسيين هذا لوجود اختلافات في الرؤى بين «الممكن» لدى الرأي العام، و«المستطاع» لدى القائمين على أمور السياسة؛ فيرى الشعب الحرب خيارا مدفوعا بفكرة الكرامة الوطنية أو العقيدة، بينما يكون واقعه السياسي والعسكري لا يتناسب مع هذا التوجه.

رابعا: فكرة السعي لجعل النظم الديمقراطية أكثر جنوحا للسلام، أمر لا تبرره السوابق التاريخية، ففي كثير من الحالات تكون الدول الديمقراطية هي التي تبدأ بالصراع، كما أنها في كثير من الأحوال لا تنطبق سياستها الخارجية مع المعطيات والمبادئ الليبرالية الداخلية التي تحكم النظام السياسي الداخلي، وليس أدل على ذلك من دور الولايات المتحدة في القضاء على نظام «آيندي» في شيلي ودعمها الديكتاتور «بينوشيه»، وكذلك مواقف دولة مثل بريطانيا في القرن التاسع عشر التي تميزت بالسعي لضرب الحركات الوطنية للمحافظة على مصالحها الاستعمارية، ناهيك بالدور الفرنسي غير الديمقراطي أو الليبرالي في دولة مثل الجزائر. خلاصة القول؛ أي نظام سياسي، ديمقراطيا كان أم سلطويا أم شموليا، يسعى لتجميل وجهه، وهو أمر طبيعي ومنذ الأزل، ولكن هناك جوانب من السياسة؛ وعلى رأسها السياسة الخارجية، لا تحكمها المعايير الإنسانية الفردية بشكل أساسي، ولهذا، فإن محاولة الخلط بين مبادئ النظم الديمقراطية والليبرالية من ناحية؛ والسياسة الخارجية المسالمة من ناحية أخرى، يعد بكل المعايير خرافة سياسة استخدمها الساسة لخدمة أهدافهم، ولو صدقت الشعوب هذه الخرافات، فإننا لا نجد إلا كلمات الكاتب الساخر جورج برنارد شو التي يقول فيها: «الديمقراطية هي الاختراع الذي يضمن لنا أننا سنُحكم ليس بأفضل مما نستحق».

* كاتب مصري