برلين في ثلاث محطات

د. محمد عبد الستار البدري

TT

لقد مثلت رحلتي الأخيرة لبرلين منذ أيام قليلة ثالث رحلة لي إلى هذه المدينة خلال عمري، وأدعي أن كل رحلة لي مثلت في حد ذاتها محطة تاريخية مهمة في مسيرة هذه المدينة، ومع ذلك تظل مدينة برلين في كل مرة تمثل المدينة العريقة التي تستنشق فيها رائحة التاريخ، وتستلهم منها مسيرة المستقبل، وتستوحي منها الأمل في أن الغد قد يحمل ما هو أفضل سياسيا من اليوم.

وقد تذكرت كل هذا وأنا أهبط في مطار برلين منذ أيام قليلة لزيارة عمل خاطفة استغرقت يوما واحدا فقط، خاصة عندما تجولت بالسيارة في المدينة، وعند هذا الحد تذكرت الجملة الشهيرة للكاتب العظيم جورج أورويل، والتي قال فيها، إنه «عندما يمشي المرء على أطلال المدن الألمانية المدمرة بعد الحرب العالمية الثانية، فإن الشك ينتابه في استمرارية الحضارة الإنسانية»، وهو ما يعكس اقتناعا كاملا لديه أشاركه فيه وجود ارتباط قوي بين الحضارة العالمية وألمانيا، وقد سبق أن عبرت عن هذا في مقال لي بعنوان «الألمان وعبقرية شعب».

وخلال تجولي بالمدينة مر بي شريط ذكريات ثلاث رحلات قمت بها لألمانيا مثلت في حد ذاتها ثلاث محطات أساسية في تاريخ هذه المدينة والدولة الألمانية، ولعلها تكون أيضا محطات في تاريخ السياسة الدولية، وهي المحطات التي أشاركها مع القارئ العزيز على النحو التالي:

المحطة الأولى: وأذكرها جيدا كانت في صيف عام 1975، عندما قاد بنا والدي، رحمه الله، السيارة من بون، عاصمة ألمانيا الغربية آنذاك، إلى مدينة برلين في قلب ألمانيا الشرقية، وذلك أثناء تقسيم ألمانيا، والذي يرجع إلى نهاية الحرب العالمية الثانية عندما احتلت قوات الحلفاء (الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا) إلى جانب الجيش الروسي، المدينة، فكانت معركة احتلال برلين إحدى أقوى المعارك على الإطلاق، ولكن المدينة سقطت ومعها النظام النازي، فقسمت المدينة إلى أربعة أقسام وفقا للاحتلال، بينما كانت هناك إدارة مشتركة للمدينة ككل، ولكن سرعان ما دب الخلاف بين الحلفاء من ناحية، وبين الجيش الروسي من ناحية أخرى، والذي كان يحتل شرق ألمانيا، فكانت قواته تحاصر مدينة برلين بالكامل، ولمسافة لا بأس بها حتى حدود ألمانيا الغربية، وقد أدت التوترات المتلاحقة لقيام الجانب الروسي بفرض حصار كامل على القطاع الواقع تحت سيطرة الحلفاء الذين لجأوا من جانبهم لعمليات إنزال جوي للمساعدات الغذائية لكسر هذا الحصار، وهو ما دفع موسكو للتوصل إلى حل للمشكلة من خلال ضمان فتح مجال أرضي لربط برلين الغربية بقوات التحالف عبر أراضي ألمانيا الشرقية، والتي كانت من جانبها تتبنى نظاما اشتراكيا على النمط السوفياتي، شأنها شأن باقي دول أوروبا الشرقية الواقعة في الفلك السوفياتي.

ولكن هذه لم تكن نهاية المشاكل، فقد اشتعل التوتر مرة أخرى خلال حكم خوروتشوف للاتحاد السوفياتي، خاصة بعدما أصبحت برلين الغربية ملجأ للهاربين والنازحين من السياسيين والمعارضين للنظام الاشتراكي، وهو ما دفع ألمانيا الشرقية بإيعاز من موسكو لبناء جدار عازل حول برلين الشرقية أحاطوا به المدينة بالكامل، فأصبح هذا الجدار رمزا للفرقة السياسية بين الشعب الألماني الواحد، وعلامة للاختلاف الفكري بين أبناء الشعب الواحد.

وأذكر جيدا كيف شرح لي والدي، رحمه الله، هذه الأمور ونحن ندخل من المعبر الشهير المعروف باسم «نقطة تفتيش تشارلي Check Point Charlie»، وأذكر أيضا أنه نبه علينا جميعا بألا نظهر العملة الألمانية الغربية في القطاع الشرقي من المدينة حتى لا نكون مثار جذب انتباه بما قد يعرضنا لمشاكل لا داعي لها، وقد رأيت في هذه السن المبكرة خطورة النظم الشمولية وما تمثله من تحد، خاصة عندما تعرضنا لحادث ترك في نفسي أثرا كبيرا عندما شاهدت جنودا من الجيش الألماني الشرقي يشهرون سلاحهم في وجه والدي ويطلبون منه رفع يديه والاستسلام أمام أعيننا لمجرد أننا دخلنا عن طريق الخطأ في منطقة عسكرية محظورة بعدما ضللنا الطريق ليلا ونحن في طريق العودة لألمانيا الغربية، وهي المشكلة التي تم حسمها بعدما أدركوا أننا تائهون ونحتاج للوقود وإرشادات الطريق، وأذكر أيضا أنهم ساعدونا ووضعونا بعد ذلك على أول الطريق، ولكن مجرد مشاهدة والدي وهم يصوبون السلاح في وجهه عكس داخلي خوفا شديداَ من مثل هذه الأنظمة، وعندما نضجت أدركت أن هذا الأمر عكس بشكل واضح للغاية خوفا داخل هذه الأنظمة بما يشبه «البارانويا» أو الخوف من كل شيء.

المحطة الثانية: كانت في عام 1989، عندما زرت برلين للمرة الثانية في إطار برنامج تدريبي، وشاءت الأقدار السعيدة أن أشهد وزملائي اليوم الذي تحطم فيه حائط برلين وأزيلت فيه «نقطة تفتيش تشارلي» التي سبق أن زرتها خلال الزيارة الأولى، وهو السقوط الذي كان إيذانا بتوحيد ألمانيا بعد قرابة خمسة وأربعين عاما من الفرقة بين الشعب الواحد، وأذكر جيدا أننا خرجنا وسط مظاهر احتفال وروح قومية عارمة لهذا الشعب العريق، احتفالات صاخبة وشباب يصرخون في الشارع بعودة برلين موحدة، وأتذكر جيدا أننا جميعا نزلنا لنأخذ نصيبنا من تذكار متمثل في قطعة من حائط برلين الشهير، وكنت يومها أدرك تمام الإدراك أننا نشهد مولد نظام دولي جديد، لقد كانت هذه بالفعل لحظة أقدر قيمتها التاريخية على أكمل وجه، فمنذ ذلك التاريخ بدأت ألمانيا تتوحد وتقوى تدريجيا.

المحطة الثالثة: كانت خلال زيارتي الأخيرة لبرلين، والتي رأيت فيها متغيرات واسعة النطاق تعكس حقيقة قدرة الشعب الألماني على تخطي جسور الخوف والفرقة والضعف لتتجه نحو توحيد ما فرقه الزمن، فبرلين التي كانت مقسمة بالأمس لأنها تهديد للأمن الأوروبي ولكنها تمثل اليوم قاطرة الاتحاد الأوروبي، فمن ذا الذي كان بإمكانه أن يصدق ذلك عام 1919 عندما كسرت ألمانيا في اتفاقية «فرساي» الشهيرة وحملها الحلفاء مسؤولية الحرب العالمية الأولى وحدها؟ فمن يصدق أن ألمانيا التي قهرتها الهزيمة العسكرية الثانية في أقل من ثلاث حقب بعد الحرب تستطيع أن تقف مرة أخرى، إنها قوة شعب وإرادة أمة رفضت الخنوع وتحدت الاحتلال والفرقة، وقد زاد ذهولي عندما علمت من صديقي هشام سيف الدين، نائب السفير المصري في برلين، أن ألمانيا هي ثالث أكبر مصدر على مستوى العالم، كما أنها مفتاح الوحدة الأوروبية، وازداد إعجابي عندما رد على استفساري عن سبب قيامها بضخ عشرات المليارات من اليوروات لنجدة النظام النقدي الأوروبي، فأكد لي أن الاستفادة الألمانية أكثر بكثير من تمويل النظام النقدي الأوروبي المتمثل في اليورو.

وعلى الرغم من كل هذه النجاحات فإن عملية التوحد الألماني لا تزال غير مكتملة بعد، فيكفي وجود ما يطلق عليه «الأُوسي» و«الفَيسي»، أو مصطلحات تدل على الشرقي والغربي، فلا تزال هناك فوارق سياسية واجتماعية بين الغرب والشرق، وهو ما يمكن أن تشاهده العين المجردة في الهيكل المعماري بين منطقتي شرق وغرب برلين.

لقد كانت هذه هي المحطات الثلاث التاريخية والشخصية التي استرجعتها عند زيارة هذه المدينة، ولعل الشيء الذي لفت انتباهي هو أن ألمانيا حققت اليوم بالسلم ما سعت لتحقيقه بالحرب خلال القرن العشرين، فإن ما أراد فيلهلم، قيصر ألمانيا تحقيقه من خلال الحرب العالمية الأولى، وما سعى هتلر لتحقيقه في الحرب العالمية الثانية حققته ألمانيا اليوم بقوتها الاقتصادية والسياسية دون طلقة رصاص واحدة، فهي اليوم سيدة أوروبا بكل المعايير، وهو ما يمثل لنا نموذجا يجب أن نحتذي به، فعبء التوحد وذنوب السنين وضغوط الماضي لم توقف هذا الشعب عن تحقيق أهدافه دون النيل من مصالح الغير، فهل من معتبر؟

* كاتب مصري