ديكتاتوريات محببة!

TT

ما زلت أقف حائرا كل الحيرة عندما يأتي الأمر لحب الشعوب لقياداتها التاريخية، فكثير من الشخصيات التاريخية تستحق هذا الحب والتقدير من قبل شعوبها، ولكن كثيرا من هذه الشخصيات التاريخية المحببة نجدها عند إعداد حسابات المكسب والخسارة، قد أضرت بشعوبها ضررا بالغا، بل إن بعضها ترك لشعوبه إرثا من الخراب والاحتلال والديون والأيتام والأرامل لا حصر له، ولكن تظل هذه القيادات ذات قيمة كبيرة للغاية في وجدان الشعوب، وهو ما يعكس أن معايير الحب والكراهية لدى الشعوب بعيدة كل البعد عن المنطق السياسي والمعيار المصلحي الذي يحكم السياسة، فمشاعر الشعوب كمشاعر الفرد، تتقلب بمعايير تكون في مناسبات كثيرة غير موضوعية.

لعل من أكثر النماذج التاريخية تعبيرا عن ذلك النموذج هو نابليون بونابرت ويوليوس قيصر، وفي هذا الإطار فإنني أسوق النقاط التالية:

أولا: يظل نابليون بونابرت محبوب فرنسا الأول في العهد الحديث، فقبره في الإينفاليد يعد مزارا مهما لكل فرنسي، فهو محبوب القومية الفرنسية على الرغم من أن الرجل لم يكن فرنسيا، كما أن أغلبية فرنسية تعتبره الرجل الذي أعاد المجد للبلاد مع أن حكمه انتهى باحتلال فرنسا، وحقيقة الأمر أن نابليون منح لفرنسا الكثير من الانتصارات العسكرية التي فشل فيها الملك لويس الرابع عشر منها «مارنجو» في إيطاليا، و«أوسترلتز» في النمسا و«ينا» في بروسيا، ولكنه كان أيضا صاحب الهزيمة الكبرى في الحملة الروسية، كما أنه صاحب الهزيمة الكبرى في معركة «ليبزيج» في ألمانيا، ومع ذلك فيتذكر الجميع الانتصارات ويغضون الطرف عن الهزائم في سلوك مرتبط بقوة بالنظرة غير الموضوعية للزعامات التاريخية.

ولعل أغرب ما في أمر نابليون هو أن الرجل لم يكن فرنسيا من الأساس، فهو من مواليد جزيرة كورسيكا، والتي كانت جزءا من إيطاليا قبل احتلالها وضمها لفرنسا قبيل ميلاد نابليون بسنوات قليلة، والثابت تاريخيا أن الرجل لم يكن يتحدث الفرنسية إلا في مراحل متأخرة من طفولته، وظل يتحدثها بعد ذلك بلكنة غير فرنسية جعلته دائما في محط تقدير بعض الزملاء الفرنسيين عندما انضم للكلية الحربية، ومع ذلك فقد تقبله الفرنسيون قائدا محبوبا رغم أن جذوره الفرنسية مشكوك فيها كل الشك.

ثانيا: يعد يوليوس قيصر أحد النماذج الأخرى لتعظيم القادة وجعلهم قيمة سياسية وتأميرهم على العباد بلا أي مبرر، اللهم إلا الإنجاز العسكري، فالمعروف أن «جايوس يوليوس قيصر» كان أحد النبلاء الرمان، وكانت له قدرة فائقة على تنظيم الجيوش وقيادتها، إضافة إلى لباقته وقدرته في الحديث والمناورات السياسية والكاريزما العالية، وقد أبلى الرجل بلاء حسنا عندما كان يقود قواته في المعارك المختلفة، خاصة في بلاد «الغال»، حيث انتصر على القبائل الهمجية وأخضعها لقوة روما، وما لبث أن توجه إلى إنجلترا، حيث وسع ممالك روما في الشمال.

لم يكن يوليوس قيصر يهدف المجد العسكري فحسب، فهذا كان مجرد هدف تكتيك لهدف أعمق، وهو اعتلاء كرسي الحكم في روما، مستغلا أقرب شيء لقلب المواطن وهو الانتصار العسكري، ولكن العوائق التي كانت أمامه ما كان ليستهان بها، وعلى رأسها حليفه ثم غريمه «بومبي»، ذلك الخصم العنيد الذي آثر مواجهة قيصر بكل قوة، مستغلا حالة الفوضى السياسية التي كانت تعم روما بقوة، فاشتعلت الحرب الأهلية التي كان وقودها طموح يوليوس قيصر و«بومبي»، فدخل قيصر روما بأحد فيالقه العسكرية فيما يشبه الانقلاب العسكري، فكانت الغلبة لقوات قيصر، فهزم «بومبي» ورجاله، ثم استكمل قيصر المسيرة واحتل مصر ضامنا بذلك موارد غذائية مهمة لروما، ثم أصبح الرجل متفرغا لنيل حلمه بأن يتم اعتماده ديكتاتورا مدى الحياة من قبل «السينيت»، والأغرب من ذلك هو أن يسانده الشعب الروماني بكل قوة فيذهب البعض لمحاولة اعتباره إلها، فلقد سيطر الرجل على الشارع بمزيد من المكر والحيل والكاريزما، ولكن رجال الساسة في روما أدركوا خطورة الرجل عليهم جميعا وعلى دولة روما، فكان قرارهم اغتياله على باب «السينيت» طعنا بالخناجر فمات الرجل على أيدي أقرب الناس إليه، والذي اعتبره ابنا له، ولكن في السياسة تقتل الآباء الأبناء والعكس، وكله في سبيل هدف أسمى للجميع وهي السلطة.

هذه النماذج السياسية هي انعكاس واضح للظروف والمزاج العام للشعوب، والتي تتأرجح وفق معايير أغلب الظن أنها غير موضوعية وعلى رأسها عوامل الكاريزما وآلة الإعلام الموجه والخديعة وعدد من العوامل غير الموضوعية التي تجعل الشعوب في النهاية تنحني للديكتاتور وتبجله تبجيلا لا يستحقه، وفي التقدير أن عددا من العوامل هي التي تساعد على جعل أمثال نابليون وقيصر يحتلون هذه المكانة منها:

أولا: أن كليهما برع في صناعة الهالة حوله فجعل يوليوس قيصر قاب قوسين أو أدنى من إعلانه ديكتاتورا مدى الحياة، وفي حالة نابليون لم يتشكك أحد في شرعية حكمه حتى وهو مهزوم ومشكوك في أصوله الفرنسية، فالقيصر استخدم إمكانياته السياسية وسلاح المال بكل قوة لجذب التحالفات التي سمحت له بهذه الوضعية، بينما لجأت الآلة الإعلامية لنابليون لتعظيم مجده واعتباره من منح فرنسا المجد.

ثانيا: لعل الظروف السياسية المرتبطة بصعود النجم السياسي لكليهما لها دورها الحاسم في هذا الشأن، فكلاهما صعد لسدة الحكم في ظروف استثنائية، ففرنسا كانت تمر بحالة حرب ثورية داخلية ما بين مؤيدين للثورة ومعارضين لها، بينما كانت روما تمر بظروف مرتبطة بالتخبط السياسي الذي وصل لحالة من الحرب الأهلية، وقد استغل الاثنان هذه الظروف وميل الشعوب للاستقرار السياسي والاجتماعي على المدى القصير لتثبيت صورتهما لدى الرأي العام.

أيا كانت المبررات التي قد نسوقها لمحاولة فهم معضلة الديكتاتور المحبوب، فإننا أغلب الظن لن نجد لها سببا جامعا مانعا، فتظل بالفعل معضلة، فتكون عاطفة الشعوب في أغلب الظن مستقطعة من مصلحة الوطن ورفعة الدولة وقيمتها، ومع ذلك تنحني الشعوب وتبكي بعد الديكتاتور بكاء حارا عند الوفاة، ويعتبره آخرون منقذ البلاد والذي لن يجود الزمن بمثله، وتقول الحكمة الشائعة إنك لا تستطيع أن تفهم قلب المرأة، ونفس الحكمة تنطبق على الشعوب فإنه سيصعب عليك أن تفهم قلوب الشعوب، بالتالي قد نحسم الأمر بتبني الحكمة الرومانية القائلة «إننا نرث معتقداتنا من آبائنا، ولكننا نصنع قياصرنا بأيدينا».

* كاتب مصري