لبنان.. الخوف من المجهول

فوضى السلاح والانقسامات الطائفية والثورة السورية عوامل ضغط قد تدفعه نحو المخاطر

TT

يخيم شبح الحرب الأهلية فوق رؤوس اللبنانيين مرة جديدة..

هي حرب لم ينسها اللبنانيون، فعلاماتها لا تزال محفورة في ذاكرتهم.. وفي شوارعهم وأبنيتها الني اخترقها الرصاص ولم تطلها يد الترميم بعد.. لأكثر من سبب، رغم مضي أكثر من 20 عاما على إعلان وقفها.. ليستمر رأسها في الظهور في أكثر من محطة سابقة، كان أبرزها في ربيع 2008، وها هو «الربيع» اللبناني يعود مرة أخرى متأثرا بربيع سوريا المستمر منذ أكثر من عام.

يعيش لبنان مرة جديدة على حافة زلزال أمني وسياسي مصدره الخارج، هذا الخارج هذه المرة هو سوريا التي طالما تأثر بها لبنان أكثر من سواها باعتبارها الحاضن الجغرافي له، ومبعث القلق السياسي والأمني. يدرك الجميع في لبنان أنهم متورطون حتى العظم في الأزمة السورية، سواء أعجبهم ذلك أم لا. فلبنان يتواصل مع محيطه العربي من خلال سوريا، وهي تتنفس الهواء الغربي من خلاله. كان لبنان إلى فترة غير بعيدة، المكان الذي يوجع الغرب والعرب، ومن خلاله كان النظام السوري يضغط على هؤلاء لانتزاع المكاسب السياسية.

عاش لبنان الأسبوعين الماضيين أحداثا كثيرة أعادت إلى الأذهان بدايات الحرب الأهلية. يقول بعض الذين عاصروها تعليقا على ما شاهدوه: «هكذا بدأت الحرب.. اشتباك هنا، ومشكل هناك، حتى فقد الجميع السيطرة وبدأت الحرب».

يلعب الجميع في لبنان سياسة «حافة السكين»، فهم يذهبون إلى أقصى حدود التصلب، ثم يقدمون التنازلات بعد حصول الانفجار فيستوعبون نتائجه، لكن هذه السياسة لا تلحظ إمكانية أن يفلت عقالها من يد الجميع لتذهب الأمور نحو المجهول، وهذا ما يلاحظه مسؤولو تيار «المستقبل» الذي سعى جاهدا خلال الأسبوع الماضي لضبط أنصاره ومؤيديه الذين ذهبوا أبعد بكثير مما يريد ومما يرغب، وأقرب بكثير إلى ما يخافه هذا التيار وغيره.

فمع توقيف الأمن العام اللبناني شادي المولوي، بتهمة التعامل مع «منظمة إرهابية»، انفجرت شوارع طرابلس احتجاجات، قادها التيار السلفي الذي ينتمي إليه المولوي، لكنها شملت معظم الشارع الطرابلسي والشمالي المتعاطف مع الثورة السورية التي يعمل المولوي في دعمها كما صرح هو نفسه بعد خروجه من السجن في ظروف لا تختلف غرابة عن ظروف توقيفه، وفجأة امتد الأمر ليتحول إلى اشتباكات مسلحة بين منطقتين في طرابلس؛ إحداهما «باب التبانة» الحي الفقير ذو الغالبية السنية، وجاره المرتفع عنه جغرافيا، حي «جبل محسن» ذو الغالبية العلوية.

استلزم الأمر الكثير من الاتصالات و10 قتلى على الأقل لضبط الأمور، فأتى مقتل الشيخ أحمد عبد الواحد ليعيد إشعالها، فتمرد أهالي عكار والمناطق الأخرى ذات الغالبية السنية على الجيش اللبناني الذي قتل عبد الواحد على أحد حواجزه، ورفع في وجهه «البطاقة الصفراء» بإقفال الطرق في معظم هذه المناطق. وبخطاب عالي النبرة وصل ببعضها إلى الطلب بإنشاء «الجيش اللبناني الحر» وهو مطلب تملصت منه في وقت لاحق جميع القوى السياسية الفاعلة وفي مقدمها تيار «المستقبل» الذي سعى إلى معاقبة الفاعلين، وتحصين الجيش اللبناني الذي تتأثر تركيبته الطائفية بأي حدث، خصوصا أن منطقة الشمال تشكل تاريخيا الخزان البشري للجيش.

واعتبر الكاتب الصحافي البريطاني المتخصص في شؤون الشرق الأوسط روبرت فيسك أن مقتل الشيخ اللبناني عبد الواحد على يد جندي يثير المخاوف من امتداد نفوذ النظام السوري عبر الحدود. ورأى أن العامل المخيف في جنازة عبد الواحد أنه لم يُرفع أي علم لبناني، خلافا لكثير من اللافتات التي رفعتها حركة «14 آذار» والأعلام السورية القديمة، مشيرا إلى أن لا أحد يستطيع أن يحد من طرح أسئلة لا مفر منها مثل: هل الحرب في سوريا تنزلق عبر الحدود إلى لبنان؟ هل يسعى الرئيس السوري بشار الأسد إلى إشعال الرماد الذي ينفث دخانه من تحت لبنان منذ مغادرة القوات السورية عام 2005؟ وهل هذه عودة إلى حرب أهلية؟ ويرى فيسك أن المشكلة تكمن في أن سوريا تهيمن على لبنان كما كانت تفعل عندما كان الآلاف من جنودها يسيطرون على البلاد، مشيرا إلى أن الترديد المتكرر لمصطلحات «الموالي لسوريا»، و«المناهض لسوريا» تكشف أن الانقسام في الساحة اللبنانية عصي على الحل.

ورغم ذلك، فإن فيسك قلل من احتمالات حدوث الحرب، مستدلا على ذلك بأنه «في كل مرة يتعرض اللبنانيون لاحتمال حرب أهلية يتمكنون من إخمادها، لا سيما أن الشباب من الجنسين الذين تلقوا تعليمهم في الخارج في ما بين 1975 و1990 لا يميلون إلى الخوض في صراع جديد، ويمقتون السياسات الطائفية التي جاءت بها السلطات الفرنسية قبل مائة عام».

وفي الوقت نفسه، كانت الأزمة تنتقل إلى قلب العاصمة اللبنانية. ففي طريق الجديدة، معقل تيار «المستقبل»، اندلع اشتباك بين «الأهالي» وفريق مسلح صغير يقوده شاكر البرجاوي الذي نقل البارودة إلى الكتف الآخر وتحالف مع حزب الله بعد أحداث مايو (أيار) 2008 (العملية العسكرية التي شنها حزب الله وحلفاؤه في بيروت والجبل)، أوقع 3 قتلى وأكثر من 10 جرحى.

وفي حين كان الجميع يبحث في كيفية إطفاء الحريق الجديد، اندلعت حرائق جديدة مصدرها الضاحية الجنوبية الغاضبة بسبب اختطاف معارضين سوريين 12 لبنانيا كانوا في طريقهم من إيران إلى لبنان، فأقفلت الطرق بالإطارات المشتعلة، ثم تكرر الأمر نفسه في اليوم التالي بعد مقتل 3 لبنانيات شيعيات في العراق بتفجير عبوة في حافلة كانوا يستقلونها. اندلعت في عالم الإنترنت موجة من النكات السوداء التي تحدد لكل طائفة يوما لحرق الدواليب، مغطية بذلك على شعور عميق بالخوف لدى اللبنانيين الذين تهافتوا - كما في كل أزمة - على إنجاز جوازات السفر، كما يقول أحد مخاتير الضاحية الجنوبية.

الخوف من الحرب الأهلية، لم يقتصر على اللبنانيين وحدهم، فها هو خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز، يطلق نداء تحذير في رسالة وجهها إلى الرئيس اللبناني ميشال سليمان من «خطورة الأزمة وإمكانية تشعبها لإحداث فتنة طائفية في لبنان، وإعادته، لا قدر الله، إلى شبح الحرب الأهلية»، متطلعا إلى «حكمة فخامتكم في محاولة التدخل لإنهاء الأزمة، وفي الإطار العام لمبادرتكم ورعايتكم للحوار الوطني اللبناني، وحرصكم على النأي بالساحة اللبنانية عن الصراعات الخارجية، خصوصا الأزمة السورية المجاورة لها».

أما الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون، فقد أبدى خشيته من احتمال انتقال أعمال العنف في الصراع الدائر منذ 14 شهرا في سوريا إلى لبنان المجاور. وأوضح بيان الأمم المتحدة أن بان «منزعج للغاية من خطر نشوب حرب أهلية شاملة في سوريا واندلاع أعمال عنف مرتبطة بسوريا في لبنان»، فيما كانت السفيرة الأميركية لدى لبنان مورا كونيللي تقول إن بلادها «تخشى انتقال العنف من سوريا إلى لبنان». وكانت دول قطر والإمارات العربية المتحدة والبحرين، قد دعت رعاياها إلى مغادرة لبنان، وحذرت من التوجه إليه بسبب الوضع الأمني فيه.

الصراع في لبنان، بات واضح المعالم.. الطائفتان الأكبر في لبنان؛ السنة، والشيعة يقفان على طرفي نقيض في الأزمة السورية. حزب الله لم يتردد في إبداء تأييده للنظام السوري المتحالف معه ومع إيران، فيما تيار «المستقبل» لا يخفي أبدا دعمه المطلق للمعارضة السورية. من وجهة النظر الاستراتيجية، تشكل سوريا شريانا حيويا للحزب، فعبرها يمر الدعم الإيراني بالمال والسلاح، وهي تشكل له سندا لا يستهان به. أما السنة في لبنان، فهم في غالبيتهم من المؤيدين للثورة ومن المعادين للنظام الذي اتهموه في عام 2005 بقتل زعيمهم رفيق الحريري.

وبين الطرفين، ينقسم المسيحيون: قسم يقوده العماد ميشال عون، المتحالف مع حزب الله، الذي يرى أن ما يحدث في سوريا يهدد الوجود المسيحي، منظرا لمقولة أن النظام السوري يحمي الأقليات، وأن وصول الإسلاميين إلى السلطة في دمشق من شأنه تهجيرهم وتهميشهم في أحسن الأحوال. أما القسم الثاني فهو في «14 آذار» إلى جانب تيار «المستقبل» ويرى في «الربيع العربي» فرصة للمسيحيين لأن الديمقراطية لا يمكن إلا أن تكون لمصلحتهم.

الفريق الثاني، خائف من سلاح حزب الله الذي يتعاظم بقوة لا سابق لها، ولا يرى فائدة في الحوار حوله، باعتبار أن كل جلسات الحوار السابقة انتهت إلى لا شيء، وأن الحزب لا ينفك يعبر عن «أبدية» هذا السلاح، على حد تعبير الأمانة العامة لقوى «14 آذار»، مما يعني أن الأمر مجرد «حوار طرشان». وهذا السلاح، يبرر وجود السلاح في أيدي المواطنين، ومظهر رجال قوى الأمن الداخلي، وهم يسهلون العبور لسيارات يخرج من نوافذها مسلحون يرفعون بنادقهم في تشييع الشيخ عبد الواحد، كان أبرز دليل. ويرى كثيرون أن سلاح حزب الله بات يشكل هاجسا لدى غالبية السنة في لبنان، الذين وإن كانت أسلحتهم لا تقارن بسلاح الحزب المتطور والمنظم، إلا أنها تشكل لدى البعض عامل اطمئنان.

فوضى السلاح هذه تساهم في زيادة المخاوف، فهو ينتشر على نطاق واسع بين أيدي الناس، حتى بات من الطبيعي أن نشهد اشتباكا على خلفية «تصليح دراجة» كما حدث في بيروت مطلع الأسبوع الحالي شارك فيه مصري ولبنانيون، كما بات من الطبيعي أن نشهد اشتباكات مسلحة بين عشائر وقبائل، وبعضها أجرى تبادلا للأسرى مع المعارضة السورية في البقاع مطلع الشهر الحالي. هذا الواقع يزيد الأمور غرابة لجهة التعايش بين السلاح الشرعي الرسمي والأسلحة المتنوعة المدعومة سياسيا. ولعل أصدق ما قيل، صدر عن وزير الداخلية مروان شربل الذي قال تعليقا على عدم ضبط الشارع من قبل قوى الأمنية: «فليؤخذ القرار السياسي من جميع الأفرقاء ويقولون حرفيا (يرفع الغطاء عن أي مسلح في الشارع) وعندها تسأل القوى الأمنية عن ضبط الشارع». ودعا «لحالة طوارئ سياسية يجتمع فيها مجلس الوزراء ومجلس النواب لتقرير كيفية الخروج من المأزق الذي وقعنا به، وإذا قرروا في الاجتماع إنشاء حالة طوارئ عسكرية ليقرروا ذلك»، مشددا على أن «القوى الأمنية ليست مستعدة أن تكون كبش محرقة في هذا الموضوع». وختم مشيرا إلى أنه «إن استمر الوضع كذلك، فأنا خائف من تقسيم لبنان لأن المؤامرة هي لتقسيم الدول العربية، والعراق أكبر مثال».

ويحمل شربل «السياسيين اللبنانيين مسؤولية كل ما يحدث في الشارع»، مؤكدا أن «المطلوب اليوم التخفيف من حدة الخطابات السياسية ومحاولة استيعاب المشكلات التي تحصل عبر الجلوس إلى طاولة الحوار والتحاور بكل الأمور من دون استثناء». ولفت إلى أن «السلاح موجود بين المواطنين منذ سنين، لكن الدعم الذي يوفره بعض الأفرقاء حاليا جعل استعماله سهلا»، داعيا إلى «إعلان حالة طوارئ سياسية»، مضيفا: «فلنعمل لمرة واحدة في لبنان على الفعل لا على ردات الفعل».

ويعتبر النائب الكتائبي سامي الجميّل أن «توازن القوى الموجود اليوم على الساحة الداخلية اللبنانية يمكن أن يؤدي إلى أمرين: إما أن تصبح لدينا قوتان عسكريتان خارجتان عن الشرعية على الأراضي اللبنانية وتصل هاتان القوتان إلى صراع عسكري يؤدي بلبنان إلى حرب أهلية؛ وهذا يعتبر الخيار الأسوأ، أو أن يؤدي هذا التوازن إلى جمع السلاح من الجميع لكي تستطيع الدولة أن تحمي الجميع، وهذا ما نطرحه، لأنه في حال لم تقم الدولة بواجباتها بحماية الجميع، وتسمح للمدنيين وللأحزاب بحمل السلاح، فالسلاح سيجر عندها السلاح، والمشكلات تجر المشكلات، وستنتقل البلاد من مأزق إلى آخر إلى أن نرى أنفسنا أمام حرب أهلية».

وأتت الثورة السورية لتشكل عامل ضغط إضافيا على لبنان الذي انقسم تلقائيا بين ضفتي الأزمة؛ فحلفاء سوريا الطبيعيون في بلبنان شدوا من أزر النظام وتبنوا روايته لـ«الجماعات الإرهابية المسلحة» منذ اليوم الأول، فيما انحاز خصومها مباشرة إلى المعارضة الثائرة ضد النظام. وشكلت منطقة الشمال اللبناني، وبعض مناطق البقاع الحدودية، حيث الغالبية السنية، رئة يتنفس منها المعارضون للنظام، فمنها تأتي بعض الإمدادات الطبية والغذائية وحتى العسكرية، وإليها يخرج النازحون والجرحى للعلاج. وآوى أهالي المنطقة ضيوفهم السوريين في بيوتهم ومدارسهم التي فتحت لهم، فيما كان نشاط «الجيش الحر» ملحوظا في المناطق الشمالية لجهة تشكيل خلايا الدعم للداخل. وإذا كان الوجود المسلح لهؤلاء غير مؤكد في لبنان، إلا أن وجودهم التنظيمي أمر لا شك فيه على الإطلاق.

وكان رئيس مجلس النواب نبيه بري قال لـ«الشرق الأوسط» إن لبنان لا يمكن أن يؤثر في سوريا، لكنه لا يمكنه إلا أن يتأثر بها. مشيرا إلى أن سياسة النأي بالنفس هي تعبير عن محاولة إبعاد لبنان عن الاحتراق بلهيب النار السورية، فدوره يقضي بعدم التورط فيها عبر ضبط حدوده ومنع السلاح من عبور الحدود، والسماح للمدنيين النازحين إليه بالدخول وتقديم المساعدة الإنسانية لهم».

أما الحكومة، فقد وجدت نفسها محاطة بفكي كماشة؛ فريق يضغط عليها لمنع «الإمداد عن المعارضة السورية» وفريق يضغط عليها لفتح الأبواب للثائرين على النظام. وخرج رئيس الحكومة نجيب ميقاتي الذي سعى لـ«النأي بنفسه» بخفي حنين، فلا هو استطاع إرضاء الغالبية السنية التي جهد لجعلها تتبنى وجهة نظره، ولا هو استطاع الحفاظ على ثقة حزب الله الذي تحالف معه، ثم اختلف وإياه، إلى أن قبله على أنه أمر واقع لا يستطيع التخلص منه. وقد وقع ميقاتي تحت ضغط تيار «المستقبل» الذي طالبه بالاستقالة واصفا حكومته بأنها «حكومة تسهيل عودة الحرب الأهلية إلى لبنان، بعيدا عن الحفاظ على أمن المواطنين وسلمهم الأهلي، بعدما أمعنت في ضرب معيشتهم وعلاقاتهم العربية الحيوية». واعتبر الرئيس سعد الحريري أن ما جرى في العاصمة كما في طرابلس وفي عكار، محاولة لجر لبنان إلى مشكلة مستوردة من وراء الحدود. وقال: «إن موقفنا كان منذ البداية واضحا وصريحا مما يجري في سوريا، وها هو نظام الأسد يحاول نقل الشرارات الأمنية من منطقة إلى أخرى في لبنان. والمسؤولية الثقيلة ملقاة على عاتقنا وعاتق أهل بيروت للتصرف بهدوء ومسؤولية لإفشال هذا المخطط الخبيث».