الهيمنة والقوة

د. محمد عبد الستار البدري

TT

في أي الظروف الدولية يكون السلام أكثر شيوعا؟ هذا هو أحد أهم الأسئلة التي سعى علماء التاريخ والسياسية لإيجاد ردود لها، فالبعض يرى أن تعدد القوى عبر التاريخ يقلل من فرص نشوب الحروب لأسباب تتعلق بأن توازن القوى يساهم في الحفاظ على السلم، بينما يرى آخرون أن التعدد يفتح المجال أمام مزيد من تناقض المصالح بين الدول، وقد تذكرت هذا الحوار أثناء فتحي لأحد ملفاتي لأجد فيه ورقة دونت عليها بعض الملاحظات أثناء مشاركتي في محاضرة في شتاء عام 2003 عندما كنت أقيم في نيويورك، وكانت محاضرة للبروفيسور العظيم «روبرت جلبن»، وبدأت الذاكرة تعود لي تدريجيا فلقد كان الجو باردا للغاية في ذلك اليوم، وكانت المحاضرة في أحد فصول الجامعة الجديدة بنيويورك، فكانت المشاركة محدودة لحسن حظنا مما جعلها أقرب لجلسة حوار مفتوح أكثر منها محاضرة، ولكن أهميتها الحقيقية تكمن في أن الرجل كان يمثل لي ولجيلي من دارسي العلاقات الدولية والتاريخ السياسي أيقونة فكرية كبيرة، فله العديد من النظريات التي تمثل منارات هامة في المنهج المضطرب لعلم التاريخ السياسي والعلاقات الدولية، فهو من المحسوبين على النظرية الواقعية في العلاقات الدولية والتي هي أكثر النظريات شيوعا، فضلا عن كونه من أكبر المُنظرين في المسائل المتعلقة باستخدامات القوة، وقد أخذت أقرأ الملاحظات التي دونتها منذ تسع سنوات فأثبت الزمن صحة تحليلاته تماما كما لو أنه كان يقرأ الغيب.

بدأ الرجل بطرح نظريته الأساسية المعروفة «بالهيمنة المؤدية للاستقرار Hegemonic Stability» والتي شرح أبعادها مؤكدا أن أكثر مراحل الاستقرار في مسيرة التاريخ كانت عندما تسيطر قوة مهيمنة على النظام الدولي فتجتمع لديها القدرة والنية على ضبط إيقاعه وبذل الجهد والمال والقوة في سبيل ذلك، فيؤدي هذا لتقليل فرص اندلاع الحروب بين أطراف النظام، وقدم الرجل عددا من النماذج الأساسية التي تثبت هذا الطرح وعلى رأسها دور بريطانيا في أواخر القرن الثامن والتاسع عشر، والولايات المتحدة في النصف الثاني من القرن العشرين.

ولكن أهم ما تميزت به المحاضرة في تقديري كانت قراءته في النظم الإقليمية وعلى رأسها الشرق الأوسط حيث طرح فرضيتين أساسيتين تعيشان معنا في منطقتنا إلى يومنا هذا، الفرضية الأولى مرتبطة بسياسة الإدارة السابقة للرئيس جورج بوش الابن في المنطقة، والثانية مرتبطة بدور القوة في حسم الصراعات في الشرق الأوسط، في تناوله للفرضية الأولى أذكر جليا أنه طرح جملته الشهيرة التي قال فيها «إن الحروب أمر مصيري لا يمكن تركه للهواة من معتنقي الأيديولوجيات»، فشرح لنا عبارته مؤكدا أن السياسة الأميركية تجاه الشرق الأوسط في ذلك الوقت، خاصة في العراق، كانت ترتبط بشكل كبير بنمط فكر أيديولوجي تمثل في «القوميين المتطرفين» والذين وصفهم أيضا بدعاة الإمبريالية الجديدة في الولايات المتحدة والذين يؤمنون بضرورة ممارسة الولايات المتحدة لقوتها خارجيا لمواجهة التهديدات بالقوة العسكرية مثلما فعلت روما وبريطانيا في زمنهما، وقد تلاقت هذه الدائرة مع دائرة أخرى ممثلة في المحافظين الجدد والذين يدعون إلى إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط بقوة السلاح خدمة للمصالح الإسرائيلية، وفي نفس الوقت تداخلت دائرة ثالثة ممثلة في المجموعات التبشيرية المسيحية الداعية للتجهيز للعودة الثانية للسيد المسيح من خلال دعم إسرائيل.

وأذكر جيدا أن النقاش الحامي دفعه للرد على أحد الأسئلة التي وجهت له بأن الحرب في العراق لا تفيد المصلحة القومية الأميركية وأنها ستكون حربا ليس لها فرص للنجاح، مستعرضا الأخطاء السياسية الفاحشة للإدارة الأميركية في الشأن العراقي بعد الاحتلال والتي توقع أن تؤدي لضرب كيان الدولة العراقية ومعها فرص السلام الداخلي.

ولكن أقيم ما قدمه لنا «جلبن» حول مفهوم استخدام القوة في الشرق الأوسط كان انطباق نظرية قانون تناقص الغلة للحرب Law of diminishing returns عليها، والتي أوضح فيها أن الشرق الأوسط وصل لمرحلة تشبع عالية من استخدام القوة العسكرية والعنف، أي إن استخدام القوة لم يعد له منفعة سياسية والتي كانت موجودة من قبل، وخص في هذا إسرائيل مشيرا إلى أنه من أصحاب نظرية أن منحنى الفائدة لجدوى استخدام القوة العسكرية الإسرائيلية انخفض على الرغم من تفوقها النسبي على أغلب الدول المجاورة، مؤكدا أن إسرائيل عاشت أقوى مراحلها السياسية والعسكرية منذ نشأتها عام 1948 حتى حرب 1967، ولكنها دخلت في مرحلة جديدة بعد هذا التاريخ فكادت تلقى هزيمة قاسية في حرب 1973 لولا التدخل الأميركي المساند، ومنذ ذلك التاريخ الفيصلي فإن استخدام القوة العسكرية الإسرائيلية لم يحقق الأهداف السياسية المرجوة، بل قد يكون أضعفها سياسيا مثلما حدث عند غزو لبنان عام 1982، مشددا على أن أي مغامرات مستقبلية لاستخدام القوة سينطبق عليها قانون تناقص الغلة لأن جيرانها باتوا على استعداد لتقبل الضربات العسكرية مشددا على أن السلام هو طوق النجاة الوحيد لإسرائيل مستقبلا.

بالطبع لم يسلم الرجل من الانتقادات الحادة سواء التي اتهمته بأنه غير مرحب بإسرائيل أو التي رأت فيه أنه يمثل السياسة الواقعية المقيتة التي يرفضها العالم بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وانتشار مبادئ العولمة، ولم يرحم بعضهم عمره المتقدم أو مكانته الفكرية والعلمية، ولكن الرجل وقف يزود عن فكره بعمق شديد وتواضع العلماء فما كان منه إلا أن حاز على إعجابنا جميعا.

بعد أن اطلعت على ورقة الملاحظات ومر شريط المحاضرة في رأسي كأنها كانت بالأمس، بدأت أتفكر مرة أخرى في قضية استخدام القوة وما قاله الرجل منذ تسع سنوات وكأنه كان يقرأ الغيب، وأستطيع أن أشارك القارئ العزيز في أهم النقاط التالية:

أولا: أن الرجل صدق حدسه السياسي فلقد دخلت إسرائيل بالفعل في مغامرتين عسكريتين بعد لبنان، الأولى عندما ضربت جنوب لبنان ودخلت فيه بقوة عام 2006، ثم ضرب وحصار غزة، وفي الحالتين فإن استخدامها للقوة لم يحقق الهدف السياسي المرجو منه، وهو ما يدعو لتأكيد نظرية «جلبن» الخاصة بالمنفعة المتناقصة لاستخدام القوة في العصر الحديث.

ثانيا: أن سياسة حرق كل ما هو مصدر تهديد للدولة سياسة فاشلة تماما، فما حدث في العراق عكس شيئا هاما للغاية وهو أن فكرة القضاء على أي دولة تمثل مصدرا للتهديد يعد في حد ذاته فكرا يتميز بالبارانويا السياسية، فضلا عن أنه لا يخدم أمن الدول القلقة بل العكس هو الصحيح.

ثالثا: إذا ما طبقنا نظرية «الهيمنة المؤدية للاستقرار» على المستوى الإقليمي فسنجد أنها أقل حظا في تأييد التاريخ لها، فمحاولة التسيد الإقليمي عبر القوة على مدار التاريخ أدت لنتائج سلبية على أمن الدول المتبعة لهذه السياسة، فلقد طبقت ألمانيا هذه السياسة على مدار الفترة من 1870 - 1945 وفشلت تماما، كما طبقتها فرنسا منذ حكم لويس الرابع عشر وحتى الحروب النابوليونية وفشلت أيضا، كما جربتها جنوب أفريقيا وفشلت والقائمة تطول.

لقد كانت هذه مجرد ومضات فكرية حول القوة واستخداماتها بين الأمم على مر العصور، والتي تؤكد جميعها أن للقوة حدودا وللآلة العسكرية سقفا سياسيا لا تستطيع أن تتعداه.

* كاتب مصري