ربيع مغربي معاكس

نقابات تنزل إلىالشارع لإسقاط حكومة عبد الإله ابن كيران

TT

«إنها بداية العد العكسي لحكومة ابن كيران» بهذه العبارات وصف نوبير الأموي، الأمين العام للاتحاد النقابي (الكونفدرالية الديمقراطية للشغل) المظاهرة التي نظمها اتحادان نقابيان يساريان في الدار البيضاء. لكن عبد الإله ابن كيران، أمين عام حزب العدالة والتنمية، الذي حملته تداعيات الربيع العربي إلى رئاسة الحكومة المغربية، تعامل باستخفاف كبير مع هذه المظاهرة؛ إذ تساءل ساخرا خلال لقاء حزبي: «هل يعتقد هؤلاء أن العام دار بسرعة، وأن ذكرى أول مايو (عيد العمال) قد حلت من جديد؟». فبالنسبة لرئيس الحكومة المغربية لم تكن تلك المظاهرة سوى نوع من المهرجانات التي تنظمها النقابات بمناسبة عيد العمال في 1 مايو (أيار) من كل عام.

بعيدا عن توقعات الأموي أو سخرية ابن كيران، استطاع الاتحادان النقابيان «الكونفدرالية الديمقراطية للشغل» و«الفيدرالية الديمقراطية للشغل» أن يتجاوزا خلافاتهما ويجتمعان معا لأول مرة معا منذ انشقاقهما عام 2003، من أجل التنسيق الوثيق لمواجهة حكومة ابن كيران التي جاءت بها رياح «الربيع العربي».

والتفت حول الاتحادين كل الأحزاب والتنظيمات اليسارية المغربية، باستثناء حزب التقدم والاشتراكية (الشيوعي سابقا) المشارك في الحكومة. وخلال أول اجتماع لقيادة النقابتين بعد مظاهرة 27 مايو الماضي تقرر التصعيد ضد الحكومة. وتمخض الاجتماع عن تشكيل «لجنة تنسيق دائمة» لقيادة هذا التصعيد. وسادت خلال الاجتماع روح وحدوية شكلت قطيعة مع حالة الصراع والعداوة وتبادل الاتهامات التي طبعت علاقة الاتحادين خلال السنوات العشر الماضية. وفي هذا السياق، رفض المشاركون في اجتماع التنسيق إطلاق اسم «لجنة التنسيق المشتركة» كون لفظ «المشتركة» يحيل إلى أن هناك عدة أطراف، واختاروا بدل ذلك إطلاق اسم «لجنة التنسيق الدائمة».

تعتقد الحكومة المغربية أن الحركة الاحتجاجية التي يقودها الاتحادان سياسية وليست نقابية. وفي هذا الصدد، يقول عبد الواحد سهيل، وزير العمل في حكومة ابن كيران والعضو القيادي في حزب التقدم والاشتراكية: «منظمو المظاهرة لم يطرحوا أي مطالب عمالية واضحة، مثل الزيادات في الأجور، أو تحسين شروط السلامة في أماكن العمل، أو غيرها من مطالب الطبقة العاملة التي يمكن أن نتحاور بشأنها ونتفاوض ونصل إلى نتيجة. كان واضحا وجليا في خطابات الذين قادوا المظاهرة أنها سياسية». وقال سهيل لـ«الشرق الأوسط»، إن شعار المظاهرة «الكرامة أولا»، شعار سياسي، و«هو شعار لا يمكن لأي حزب أن يختلف معه، ولا يشكل مطلبا نقابيا يمكن التفاوض حوله».

بالنسبة لمنظمي المظاهرة، السبب الرئيسي الذي جعلهم يخرجون إلى الشارع هو إغلاق الحكومة باب الحوار و«تملصها» من تنفيذ الاتفاقية التي أبرمتها النقابات مع الحكومة السابقة في أبريل (نيسان) من العام الماضي. وقال عبد الرحمن العزوزي، الأمين العام لـ«الفيدرالية للشغل» لـ«الشرق الأوسط»، إن النقابتين عازمتان على مواصلة التصعيد إلى أن تستجيب الحكومة لمطلبهم الأساسي وهو فتح حوار جدي حول مطالب الطبقة العاملة. وفي تعليقه على وصف الحكومة للمظاهرة التي نظمتها النقابتان بأنها ذات طابع سياسي وليس نقابيا، رد العزوزي قائلا: «سبحان الله، كأن ما يقومون به هم ليس بسياسة. أم إن الطبقة العاملة ممنوعة من السياسة؟! نحن طرحنا من خلال المظاهرة بملف مطالب نقابية واضحة. ومساندة الأحزاب والمنظمات اليسارية لنا شيء نعتز به ونفتخر به».

عبد الواحد سهيل، وزير العمل، استبعد أن يكون الهدف من تنظيم المظاهرة إجبار الحكومة على الحوار مع النقابات. وهو يرى أنه كان قد دعا النقابات للحوار قبل تنظيم المظاهرة، غير أن الاتحادين النقابين لم يستجيبا. وأضاف سهيل موضحا: «وجهت الدعوة للاتحادات النقابية الخمسة الأكثر تمثيلية من أجل أن نعقد اجتماعات ثنائية بين وزارة العمل بصفتها ممثلة للحكومة وبين كل اتحاد عمالي على حدة، وذلك من أجل تبادل الرأي حول المطالب الخاصة بكل نقابة. وكان الهدف أن نعمق التشاور مع كل نقابة قبل أن نصل إلى عقد جلسات حوار عامة يحضرها الجميع. وفعلا بدأنا الحوار مع ثلاث من بين هذه النقابات، في حين تخلف الاتحادان عن موعديهما اللذين كانا قبل أسبوع من موعد المظاهرة التي نظماها في الدار البيضاء. لهذا أنا لا أفهم. فهم من تغيب عن حضور اجتماع الحوار، ثم يدعون أننا في الحكومة أغلقنا باب الحوار. الآن بعد أن نزلوا للشارع، وهذا من حقهم، أجدد لهم دعوتي للحوار. وأقول لهم مرحبا بكم». وأضاف سهيل: «لدينا أزيد من 30 نقابة في المغرب. نحن نتناقش مع النقابات الخمس الأكثر تمثيلية، وهاتان نقابتان فقط من بينها التي خرجت للشارع. ونحن مستعدون للنقاش معهم».

أما عن اتهام النقابات لحكومة ابن كيران بالتهرب من تنفيذ بنود اتفاقية أبريل 2011، التي أبرمتها الحكومة السابقة مع النقابات، فأوضح سهيل أن معظم بنود هذه الاتفاقية قد طبقت أو هي قيد التطبيق. فقد تمت الزيادة بمبلغ 600 درهم (71 دولارا) صافية في أجور جميع الموظفين، وذلك مند أول مايو من العام الماضي، كما تم رفع الحد الأدنى لمعاشات المتقاعدين من 600 درهم (71 دولارا) إلى ألف درهم (118 دولارا)، وتم تطبيق الإجراءات المتعلقة بتحسين نظام ترقية الموظفين، وتعميم نظام العلاج، وزيادة المبالغ المخصصة لدعم أسعار المواد الاستهلاكية الأساسية والطاقة، وتم كذلك تطبيق البنود المتعلقة بالرفع من الحد الأدنى القانوني للأجور في القطاع الخاص على مرحلتين. وفي المجال التشريعي، بادرت الحكومة إلى إعداد العديد من القوانين المتعلقة بالصحة والسلامة المهنية والنصوص التطبيقية لقانون العمل والمصادقة على مجموعة من الاتفاقيات الدولية المتعلقة بتشغيل العمال الزراعيين والضمان الاجتماعي.

إلا أن النقابات تعتبر أن الحكومة لم تنفد كل بنود الاتفاق. وقال عبد الرحمان العزوزي، الأمين العام للفيدرالية الديمقراطية للشغل: «هناك على الأقل عشرة بنود من اتفاق أبريل بين الحكومة السابقة والنقابات لم يتم تنفيذها»، وأضاف العزوزي: «من ضمن هذه البنود التزامان أساسيان بالنسبة لنا، ويتعلقان بحرية العمل النقابي؛ أولهما إلغاء الفصل 288 من القانون الجنائي الذي يحمي حرية العمل ويعاقب على ارتكاب كل ما من شأنه عرقلتها، الذي يتم استعماله من أجل الحد من حرية العمل النقابي. أما المطلب الثاني المستعجل فيتمثل في تسريع عملية مصادقة المغرب على اتفاقية أصدرتها منظمة العمل الدولية تنص على حرية العمل النقابي وحمايته وضمان ممارسته، والتي لم يصادق عليها المغرب حتى الآن». وأضاف العزوزي أن هذين الإجراءين لن يكلفا الحكومة أي درهم، لكنهما سيشكلان مؤشرا على حسن نيتها.

من جهته، قال عبد القادر الزاير، الرجل الثاني في الكونفدرالية الديمقراطية للشغل، لـ«الشرق الأوسط» إن حكومة ابن كيران تتهرب من الحوار الجدي وتحاول كسب الوقت في انتظار مرور العام الحالي من دون تحقيق أي شيء من مطالب الطبقة العاملة. وأضاف الزاير: «بدل تطبيق بنود اتفاق أبريل من العام الماضي الذي وقعته الحكومة السابقة مع النقابات وفتح الحوار حول ملفات مطلبية وقضايا جديدة، فإن الحكومة تريد أن تلهينا وتصرف أنظارنا عن المطالب الاجتماعية بطرح موضوع قانون الإضراب وقانون النقابات للنقاش». وتعتقد النقابات أن طرح الحكومة مواضيع قانون الإضراب وقانون النقابات يهدف إلى التضييق على حرية العمل النقابي.

وعندما وجهنا هذه الأسئلة التي تطرحها النقابات إلى عبد الواحد سهيل، وزير العمل، رد قائلا: «ليست هناك أية مشاريع قوانين للمس بالحريات النقابية أو الحد منها. أتفهم النقابات عندما تتكلم عن التضييق على الحريات النقابية داخل بعض المقاولات وفي علاقاتها مع بعض أرباب العمل. لكن الحديث عن إعداد قوانين تتراجع عن هذه الحريات في المغرب، هذا غير مفهوم، وغير مقبول». وأضاف سهيل: «في المغرب لدينا دستور متقدم يكرس هذه الحريات ويوسعها. ولا يمكن أن أقبل نهائيا تأويلا يقول إننا سنعد مشاريع للقضاء على الحريات، بالعكس، نحن بصدد قانون نتوخى منه أن يعكس ويطبق مبادئ الدستور الذي جاء بحريات جديدة في المجال الاقتصادي والاجتماعي».

وبشأن المصادقة على الاتفاقية الدولية حول الحريات النقابية، التي تضمنها اتفاق أبريل بين النقابات والحكومة السابقة، والتي تطالب النقابات حكومة ابن كيران بتسريع إخراجها، يقول سهيل: «هذه الاتفاقية توجد حاليا في سياق المصادقة، وهو عمل تشريعي يأخذ وقتا». وحول الفصل «288» من القانون الجنائي، الذي يهدف إلى حماية حرية العمل، يقول سهيل: «صحيح أن هذا الفصل فيه شيء من الخلط، وطلبنا من النقابات أن يمدونا باقتراحات من أجل إصلاحه. فهذا الفصل في الواقع وجد لكي يعاقب الذين يعمدون إلى عرقلة حرية العمل وتخريب المنشآت والممتلكات». ويضيف: «بطبيعة الحال، النقاش حول هذا الموضوع مرتبط كذلك بقانون الإضراب، اعتبارا أن هدف قانون الإضراب هو تعريف الإضراب، وما حقوق المضربين، وكيف نضمن هذه الحقوق، وكيف نحمي هؤلاء المضربين عندما يمارسون هذه الحقوق وفقا للقانون. أي إن الهدف من وضع قانون للإضراب هو بالضبط تحديد كيف يمكن أن نعتبر أن من يقوم بالإضراب في إطار المشروعية تجب حمايته، وأن الذي يحتل ملك الآخرين خارج القانون، ويعرقل حرية الآخرين في العمل ويخرب المنشآت الإنتاجية والممتلكات، يجب أن يعاقب. أعتقد أن مثل هذه الأعمال ليست فعلا نقابيا، هذا فعل له صبغة أخرى ويجب أن يكلف به القانون الجنائي». وأضاف سهيل أنه مقتنع بضرورة إصلاح الفصل «288» من القانون الجنائي، مشيرا إلى أن «هذا الفصل قد تم استعماله في كثير من الأحيان لمحاربة النقابيين». وقال: «نحن متفقون على ضرورة التمييز بين العمل النقابي المسؤول، والعمل المتهور في بعض الأحيان الذي يجعل من يقوم به يقع تحت طائلة القانون».

لكن ثمة اعتقاد في الوسط السياسي في المغرب بأن دوافع عملية شد الحبل بين حكومة عبد الإله ابن كيران والاتحادين المقربين من اليسار المغربي تتجاوز مجرد المطالب النقابية والدوافع السياسية الآنية لتجد جذورها في تصفية حسابات تاريخية. اليسار وتياراته المختلفة وحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية الذين يقفون وراء النقابتين، لم ينس أبدا الارتباطات التاريخية لحزب العدالة والتنمية مع «حركة الشبيبة الإسلامية» المتورطة في عملية اغتيال الزعيم النقابي اليساري عمر بن جلون في أواسط السبعينات، وهذه الحركة كان ينتمي إليها عبد الإله ابن كيران والأغلبية الساحقة من قيادات حزب العدالة والتنمية. وعلى الرغم من أن ابن كيران ورفاقه كانوا قد انشقوا عن «حركة الشبيبة الإسلامية» لاختلافهم معها في مسألة استعمال العنف، فإن ذلك لم يقنع اليسار الذي لا يزال يطرح كل سنة في ذكرى اغتيال عمر بن جلون تساؤلات حول نقاط الغموض، ودور مختلف الأشخاص والمؤسسات خلال تلك المرحلة. الغموض نفسه والكثير من التساؤلات توجد لدى الطرف الآخر، حزب العدالة والتنمية، الذي ما فتأت تتردد في كتابات بعض قيادييه وفي سلسلة من المقالات التي سبق نشرها في صحيفة «التجديد» التي تصدرها «حركة التجديد والإصلاح» الجناح الدعوي للحزب، والتي تتجه إلى اتهام المخابرات بالضلوع في تدبير عملية اغتيال عمر بن جلون.

المؤكد أن «رياح الربيع العربي» هي التي مهدت الطريق لفوز نسبي لـ«الإسلاميين» في المغرب جعلهم يهيمنون على الحكومة الحالية، لكن الثابت أن حالة التململ من تداعيات هذا «الربيع العربي» وضبابيته، هي التي حفزت اليساريين للعودة إلى الشارع في بداية لصيف عربي معاكس.