الدولة الإسلامية في السياسة الدولية

د. محمد عبد الستار البدري

TT

ما زلت أرى فراغا ملحوظا في تعاملنا العلمي مع دور الدولة الإسلامية في تركيبة القوة الدولية عبر التاريخ، فمعظم مراجع التاريخ الإسلامي تنكب على تناول الدولة الإسلامية بنوع من الميل القوي نحو توصيف سياستها الداخلية، ولو تناولت السياسة الخارجية فيكون ذلك من مضمون داخلي في الأساس، وإن عرجت على التناول الخارجي فيكون ذلك من منظور إما الفتح أو توسيع رقعة الدولة، وقلما نجد رؤية واضحة للدولة الإسلامية وموقعها في النظام العالمي على مدار القرون الأربعة عشر الماضية، ومن ثم فالأمل يحدوني في أن أتناول في المقالات التالية رؤية لدور الدولة الإسلامية من منظور علمي - جيوستراتيجي يكون أقرب إلى رسم كروكي للدور الدولي للدولة الإسلامية على مر العصور وعلاقتها بمنظومات القوى عبر العصور، إضافة لبعض النقاط التحليلية الخاصة بهذا.

بداية، فالثابت تاريخيا وفعليا هو أن النظام الدولي الحديث والسياسة الدولية في عالمنا اليوم هما نتاج لفكر وتفاعل عناصر غربية في الأساس، فجذور النظام غربية الأصل والهوى، والثابت أيضا هو أن العالم الإسلامي لم يشارك في تكوين هذا النظام الحديث على الرغم من مشاركته في صناعة التراث الغربي ذاته، والسبب في ذلك يرجع لاختفاء مُركب قوة الدولة الإسلامية من الساحة الدولية وقت صناعة النظام، وقد نتجت عن ذلك حقيقة أخرى وهي الدور المحدود للعالم الإسلامي في مجال إرساء الأبعاد الثقافية المختلفة داخل النظام الدولي، إضافة إلى أن حضارتنا الإسلامية لم تلعب الدور المتوقع لها تاريخيا لأسباب عديدة، منها خروج العالم الإسلامي مبكرا من حلبة الصراع على السلطة في نهائيات القرن السابع عشر، وهي المرحلة التي بدأ النظام الدولي يرسي أساساته السياسية والعقائدية فيها والتي شكلت جوهره إلى يومنا هذا.

لقد دخلت الدولة الإسلامية المنظومة الدولية بعد سنوات معدودات من انتشار الإسلام في شبه الجزيرة العربية، ويلاحظ أن النطاق الجغرافي للنظام الدولي عند بزوغ الدولة الإسلامية كان واضح المعالم، فهو الذي يشمل «العالم المعروف» في ذلك الوقت، أي أوروبا والشرق الأوسط، وامتداده حتى قرب حدود دولة الصين التي لم يكن لها دور في هذا العالم لأسباب ترجع لتركيزها على محيطها الإقليمي دون الدولي، كما أن توزيعات القوى بداخل النظام كانت مبنية على أساس من القطبية الثنائية الكلاسيكية، فكانت الدولة الساسانية (فارس) في الشرق ودولة بيزنطة في الغرب، وبينهما مناطق عازلة تتميز «بحروب الوكالة» ما بين الغساسنة حلفاء بيزنطة على حدودها الجنوبية والشرقية، وحلفاء فارس من اللخميين (المناذرة) في غربها أي عند العراق، وكانت المناوشات أو الصراعات تدور في وقت السلم بين القطبين، وهو ما يشبه الوضع ثنائي القطبية الكلاسيكي بعد الحرب العالمية الثانية بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي وبينهما فريقان أوروبيان مواليان ومتنافسان في الغرب والشرق، ولا يخفي على العين عند بزوغ الدولة الإسلامية أن مخزون القوى الاستراتيجي للغرب ممثلا في وسط وجنوب القارة الأوروبية كان متهاويا، فقد كانت القوى فيه مفتتة بعد سقوط الدولة الرومانية على أيدي القبائل الجرمانية، فلم يدخل هذا الزخم المادي والمعنوي الأوروبي إلا في مرحلة تالية خلال أواخر العصر الأموي والدولة العباسية الأولى كما سنرى.

لقد دخلت الدولة الإسلامية تركيبة العلاقات الدولية من الناحية الجيوستراتيجية والفعلية بعد وفاة الرسول (عليه الصلاة والسلام)، فقد كان عصره (عليه الصلاة والسلام) منكبا على بناء الدولة من خلال توحيد العناصر المختلفة في شبه الجزيرة على أساس الشرعية الجديدة ممثلة في الدين الحنيف، إضافة لعنصر القومية العربية، وهو ما أسهم في جمع العقلية العربية في بوتقة الدولة الواحدة الوليدة، ومن ثم فعلى الرغم من توجيه الرسول (عليه الصلاة والسلام) رسائل إلى قطبي القوى الدولية، كسرى فارس وإمبراطور بيزنطة، فإن الدولة الإسلامية لم تكن تمثل نقطة احتكاك ممتد إلا في حالات استثنائية قليلة كجيش أسامة بن زيد ومن قبله غزوة مؤتة لخالد بن الوليد، وهي التي لمست دولة الوكالة للروم ممثلة في قبائل من الغساسنة ولم تقرب للمركز أو طرفه، كما كانت وكالة المثنى بن حارثة في حروبه على فارس بمباركة وتكليف من دولة المدينة.

لقد بدأ زخم وتأثير الدولة الإسلامية الخارجي على النظام الدولي آنذاك خلال ولايتي أبي بكر وعمر (رضي الله عنهما)، والظاهرة التي لا تخفى عن العين هي أن المرحلة الأساسية للامتداد الخارجي للدولة الإسلامية جاءت كنتوء بين مرحلتين تميزتا بالانكماش النسبي لأسباب متعلقة بمشاكل داخلية وهي حروب الردة التي أعقبت وفاة الرسول (عليه الصلاة والسلام) من ناحية، وما نسميه في الثقافة الإسلامية بـ«الفتنة الكبرى» من ناحية أخرى، ولفظ الفتنة له مسميات أخرى في علوم السياسة الدولية وهي الحروب الأهلية أو صراعات السلطة، وهو أمر شائع وطبيعي الحدوث بعد وفاة مؤسس الدول.

لقد فتح الخليفة أبو بكر الصديق جبهتي فارس وبيزنطة بمجرد القضاء على حروب الردة وتثبيت أركان الدولة الفتية لأسباب روحية وسياسية واقتصادية وجيوستراتيجية معلومة، وفي الوقت نفسه لم يخش الخطر الخارجي على دولته لأنه كان محصنا بالبوادي والصحاري التي لا تستطيع الجيوش النظامية لبيزنطة وفارس عبورها لأنها تمثل حصنا دفاعيا غير قابل للاختراق، حيث سيتم التعامل مع هذه الجيوش بمجرد توغلها بمزيج من حرب العصابات وقطع الإمدادات في ما هو معروف في علم الاستراتيجية بـ«التكتيكات الفابيانية» (Fabian)، أسوة بما حدث مع «هانيبال» في أوروبا عندما حاول الانقضاض على روما، ومن هذا المنطلق قام خالد بن الوليد بتفكيك أواصر دولة كسرى بعد قرابة ست معارك دامية أهمها معركة «نهر الدم» التي قضت على الفرص الحقيقية لصمود هذه الدولة، ومن ثم جاءت معركة القادسية لتنهار بعدها المدائن عاصمة كسرى.

أما بيزنطة فقد استقطع خالد بن الوليد منها الشام بموجب معركتين فاصلتين ضمن معارك أخرى وهما أجنادين واليرموك، وبعد ذلك بدأ التوسع غربا فدانت شمال أفريقيا، لكن بعد هذه المرحلة بدأت الفتوحات تهدأ تدريجيا خاصة بعد نشوب الفتنة الكبرى أو الحرب الأهلية في البلاد، ومما لا شك فيه فإن هذه الحرب الأهلية كان لها أسوأ الأثر على بروز الدور السياسي للدولة الإسلامية الفتية في التاريخ الدولي، ولو أن البلاد لم تدخل حالة الاقتتال الداخلي فإن فرصها في فرض الهيمنة على النظام الدولي كقطب أوحد كانت أكثر بكثير، ففارس سقطت، ولو أن التركيز استمر على التحرك الخفيف السريع غربا فإن سقوط دولة بيزنطة كان مرجحا لو أحسن العرب استراتيجيتهم، لكن الحرب استمرت لسنوات.

وبمجرد أن دانت الأمور للدولة الأموية أصبحت هذه الدولة تتبوأ الصدارة على المستوى الدولي في نظام ثنائي القطبية مكون من هذه الدولة الفتية بعد أن هضمت دولة فارس واستولت على دورها من ناحية، ودولة بيزنطة العجوز من ناحية أخرى. وقد انتقلت مراكز الثقل التقليدية للدولة الأموية، فقد طُويت مصر تحت سلطة دمشق التي ورثت إمبراطورية فارس أيضا، وما كان يحول دون تفرد دمشق بالصدارة الدولية لتخلق نظاما أحادي القطبية إلا حوائط القسطنطينية الشاهقة وجيشها القوي، ومن خلفهما دعم مراكز الثقل التقليدية بالعالم المسيحي الأوروبي لها وإمدادها بالقوة والسلاح، وهكذا بدأت الدولة الإسلامية تتفاعل مع النظام الدولي وهو التفاعل الذي تغير نمطه بشكل ملحوظ على مدار الفترات التاريخية المختلفة كما سنرى.

* كاتب مصري